◄يقولون في الأمثال الشعبية: "الجنون.. فنون".. وقد أثبت العلم وجود علاقة قوية بين الحالات الانفعالية الشديدة التي تسبب الاضطراب النفسي والتي يطلق عليها عامة الناس "الجنون" وبين الإبداع الفني الذي يظهر في صورة لوحات فنية معبرة عن العالم الداخلي للإنسان.. وأحياناً في صورة أعمال أدبية أو فنية تظهر فيها عبقرية استثنائية غيرمعتادة.. وهنا محاولة لاستكشاف هذه العلاقة بين الإبداع الفني والانفعالات الإنسانية الداخلية.
الإبداع.. حالة نفسية:
حين يبدع الإنسان فإنّه في الغالب لا يكون في حالة طبيعية من الوعي المعتاد، وحين يكون في هذه الحالة الخاصة فإن ما يعبر عنه في إبداعه الفني يكون تعبيراً عن كوامن نفسه، وانعكاساً لما في عقله الباطن وتعبيراً عن تجارب وخبرات من الماضي والحاضر، أو تطلع إلى المستقبل، كما أنّ الإبداع الفني بين وجهة النظر النفسية هو ظاهرة استثنائية يكون وراءها في العادة موهبة فطرية تؤدى إلى القدرة على الخلق والتميز، ومن ناحية أخرى فإنّ المعاناة الإنسانية والظروف والمؤثرات التي يتعرض لها الإنسان هي التي تظهر هذه الموهبة.. ومن هنا كان الارتباط بين الإبداع والحالة النفسية.
التحليل النفسي.. للفنون:
تنعكس الانفعالات والمشاعر الداخلية للإنسان على أسلوبه في التعبير بالكتابة، أو الكلام، أو حين يمسك قلماً ويرسم على الورق.. فالإنسان الذي يعاني من الاكتئاب النفسي مثلاً ويرى الحياة كئيبة والدنيا كلها يأس وظلام، يتجه إلى رسم أشكال سوداء، وأشياء مشوهة ذات ألوان داكنة، بينما يمكن لنفس هذا الشخص حين يتخلص من الاكتئاب ويعود إلى حالته الطبيعية أن يرسم لوحات من الزهور وأشياء تدعو إلى البهجة والفرج ويلوّنها بألوان زاهية.. كما أنّ الإنسان في حالة القلق والخوف يعبر عن ذلك بالكلام والرسم بما يعكس ما يدور بداخله من مشاعر وأفكار.
- فنون المرضى.. وفنون المبدعين:
حين يقوم المرضى العقليين الذين يعانون من الهلاوس – وهي أصوات يسمعها الإنسان أو أشكال تتراءى أمامه – بالتعبير بالرسم فإن لوحاتهم تعكس العقد والصراعات في داخلهم، ويبدو فيها الغموض والحيرة وتداخل الأفكار.. ولعل الرسم هو أحد الوسائل التي يمكن للأطباء النفسيين استخدامها لمعرفة الكثير من العقد وأفكار المكبوتة داخل العقل الباطن لهؤلاء المرضى حين يتم السماح لهم بالتعبير الحر عما يريدون عن طريق الرسم، ثمّ تحليل ما يقومون بإسقاطه على الورق.
وفي الأعمال الفنية لكبار الفنانين العالميين ما يدل على الخلفية النفسية لهم من خلال العلامات والدلائل التي تحملها الأشكال والألوان التي تزخر بها اللوحات والأعمال الفنية الشهيرة، ومثال ذلك أعمال الفنان "فان خوخ" التي تأثرت بالمرض النفسي الشديد الذي كان يعانى منه حتى أنّه في نوبة من الاضطراب النفسي قام بقطع إحدى أذنيه وقدمها هدية لامرأته.
الفن العالمي.. في العيادة النفسية:
هناك لوحات تعد من الأعمال الفنية العالمية الخالدة تحمل أسماء لها دلالات نفسية قوية.. مثل لوحة "المكتئب" لفان جوخ.. ولوحة "الصرخة" التي تعبر عن القلق والخوف من أعمال "مونش"، ولوحات أخرى عديدة تدل ألوانها وخطوطها وفكرتها على ما بداخل عقل صاحبها من مشاعر الحزن أو القلق أو ما أصابه من اضطراب وتداخل وتشويش. وفي الجانب الآخر هناك لوحات تبعث رؤيتها عن النظر إليها للوهلة الأولى على الارتياح. مثل لوحة الموناليزا أو "الجيو كاندا" الخالدة التي تمثل وجهاً يبتسم.. وتعطى اللوحة شعوراً لكل من يراها يحمل الإيحاء بالارتياح والتفاؤل.
ارسم شيئاً.. يظهر قلقك وعقدتك:
لقد أمكن – في العيادة النفسية استخدام أسلوب الرسم في تشخيص الحالات التي تعاني من الاضطرابات النفسية.. وإظهار الكثير مما يخفيه المرضى من الصغار والكبار عن طريق السماح لهم بالتعبير عما يشعرون به في صورة رسم لوحات فنية، فحين نطلب إلى الطفل الذي يعانى من اضطراب نفسي أن يرسم صورة لرجل، أو نطلب منه أن يرسم وجه أبيه أو أمه أو معلمته في المدرسة فإنّه في هذه الحالة عادة ما يعبر عن شعوره نحو كل من هؤلاء بإبراز ملامح مرغوبة أو إظهار علامات مشوهة في أشكالهم تعبر عن وجهة نظره نحوهم التي لا تستطيع أن يعبر عنها الكلام.
عزيزي القارئ – لقد أمكن لي من خلال عملي في مجال الطب النفسي ملاحظة الكثير مما يقوم المرضى النفسيين حين يعبرون بالرسم.. فكان محتوى لوحاتهم في كل الحالات هو انعكاس لانفعالاتهم ومشاعرهم وأفكارهم.. بما يمكننا في كثير من الحالات من التوصل إلى ما يدور داخل عقولهم من هموم وأفكار لا يعبرون عنها بالكلام أثناء المقابلة والحديث مع أطبائهم.
أن جمع وتحليل نماذج من رسوم المرضى النفسيين – وهذا ما حاولت عرض البعض منها هنا – قد نتعلم منه الكثير حين نحاول عن طريق الفنون أن نغوص في أعماق النفس الإنسانية.►
المصدر: كتاب عصر القلق.. الأسباب والعلاج
ارسال التعليق