الدنيا مزرعة الآخرة، وهي ساعة، فاجعلها طاعة، والنفس طماعة، فألزمها القناعة، وإلّا فإّن الأنفاس تُعدّ، والرحال تشد، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، ومن رحمة الله تعالى علينا أن جعل لنا مواسم، فيها نفحات لمن يتعرض لها ويغتنمها، يفرح بها المؤمنون ويتسابق فيها الصالحون، ويرجع فيها المذنبون، ويتوب الله على مَن تاب، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لسان حالهم يقول: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه/ 84). إنّ شهر شعبان المعظم شهر عظیم وشریف وهو شهر نبینا محمّد (ص) حیث قال: "شهر شعبان شهري رحم الله مَن أعانني على شهري". ودلّت الأخبار الواردة عن الرسول الأکرم (ص) وأئمة الهدى (علیهم السلام) أنّ فضائل هذا الشهر العظیم کثیرة والأجر فیه مضاعف. قال رسول الله (ص) وقد تذاکر أصحابه عنده فضائل شهر شعبان: "شهر شریف، وهو شهري، وحملة العرش تعظّمه وتعرف حقّه، وهو شهرٌ تزاد فیه أرزاق المؤمنین کشهر رمضان، وتُزین فیه الجنان، ... وهو شهرٌ العمل فیه مضاعف، الحسنة بسبعین، والسیئة محطوطة، والذنب مغفور، والحسنة مقبولة، والجبّار جلّ جلاله یباهی فیه بعباده، وینظر إلى صوّامه وقوّامه، فیباهی بهم حملة العرش". جاء في معنى کلمة شعبان أقوال عدّة منها ما قاله ابن منظور: (إنّما سمّي شعبان لأنّه شَعَب، أي ظهر بین شهري رمضان ورجب، والجَمع شعبانات وشعابین. وشعبان: بطن من هَمْدان، تشعَّب من الیمن، إلیهم يُنسب عامر الشعبي، وقیل: شَعَب جبل بالیمن، وهو ذو شعبین). وقال صاحب المنجد في اللغة: (سمّي بذلك لتشعب العرب فیه أي تفرّقهم في طلب المیاه). أمّا ما جاء عن رسول الله (ص) فهو قوله: "وإنّما سمّي شعبان لأنّه تتشعب فیه أرزاق المؤمنین". وقال (ص): "وإنّما سمّي شعبان لأنّه یشعب فیه خیر کثیر لرمضان". جاء في تفسیر الإمام الحسن العسكري (ع) فی خصوص أعمال شهر شعبان المعظم الروایة التالیة: "ولقد مرّ أمیر المؤمنین (ع)، على قوم من أخلاط المسلمین، لیس فیهم مهاجريّ ولا أنصاريّ، وهم قعود في بعض المساجد، في أوّل یوم من شعبان، إذا هم یخوضون في أمر القدر، وغیره ممّا اختلف فیه الناس، قد ارتفعت أصواتهم، واشتدّ فیهم محكهم وجدالهم، فوقف (ع) علیهم، وسلّم وأوسعوا له، وقاموا إلیه یسألونه القعود إلیهم، فلم یحفل بهم، ثم قال لهم وناداهم: یا معشر المتكلّمین فیما لا یعنیهم، ولا یردّ علیهم ـ إلى أن قال (ع) ـ یا معشر المبتدعین، هذا یوم غرّة شعبان الكریم، سمّاه ربّنا شعبان، لتشعّب الخیرات فیه، قد فتح فیه ربّكم أبواب جنانه، وعرض علیكم قصورها وخیراتها، بأرخص الأثمان وأسهل الأمور، فابتاعوها، وعرض لكم إبلیس اللّعین، بشعب شروره وبلایاه، فأنتم وإنّما تنهمكون في الغيّ والطّغیان، وتتمسكون بشعب إبلیس، وتحیدون عن شعب الخیر، المفتوح لكم أبوابه، هذه غرّة شعبان وشعب خیراته: الصلاة، والصوم، والزکاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبرّ الوالدین، والقرابات، والجیران، وإصلاح ذات البین، والصدقة على الفقراء والمساکین، تتكلّفون ما قد وضع عنكم، وما قد نهیتم عن الخوض فیه، من كشف سرائر الله، التي مَن فتش عنها کان من الهالكین، أما أنّكم لو وقفتم على ما قد أعدّه ربّنا عزّوجلّ، للمطیعین من عباده فی هذا الیوم، لقصرتم عمّا أنتم فیه، وشرعتم فیما أمرتم به، قالوا: یا أمیر المؤمنین، وما الذي أعدّ الله في هذا الیوم للمطیعین له؟ قال أمیر المؤمنین (ع): لا أحدّثكم إلّا بما سمعت من رسول الله (ص) ـ إلى أن قال ـ ثم قال رسول الله (ص): والذي بعثني بالحقّ نبيّاً، إنّ ابلیس إذا کان أوّل یوم، بثّ جنوده في أقطار الأرض وآفاقها، یقول لهم: اجتهدوا في اجتذاب بعض عباد الله إلیكم في هذا الیوم، وإنّ الله عزّوجلّ، بث الملائكة في أقطار الأرض وآفاقها، یقول لهم: سدّدوا عبادي وأرشدوهم، فكلّهم یسعد بكم إلّا مَن أبى، وتمرّد وطغى، فإنّه یصیر في حزب إبلیس وجنوده، إنّ الله عزّوجلّ، إذا کان أوّل یوم من شعبان، أمر بأبواب الجنّة فتفتح، ویأمر شجرة طوبى فتطلع أغصانها على هذه الدنیا، ثم ینادي منادي ربّنا عزّوجلّ: یا عباد الله، هذه أغصان شجرة طوبى، فتمسكوا بها یرفعکم إلى الجنّة، وهذه أغصان شجرة الزقوم فإيّاکم وإيّاها، ولا تعود بكم إلى الجحیم، قال رسول الله (ص): فو الذي بعثني بالحقّ نبيّاً، إنّ مَن تعاطى باباً من الخیر والبرّ في هذا الیوم، فقد تعلّق بغصن من أغصان شجرة طوبى، فهو مؤدّیه إلى الجنّة، ومَن تعاطى باباً من الشرّ في هذا الیوم، فقد تعلّق بغصن من أغصان شجرة الزقّوم، فهو مؤديّه إلى النار، ثمّ قال رسول الله (ص): فمن تطوّع لله بصلاة في هذا الیوم، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن صام هذا الیوم، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن تصدّق في هذا الیوم، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن عفا عن مظلمة فقد تعلّق منه بغصن، ومَن أصلح بین المرء وزوجه، أو الوالد وولده، أو لقریبه، أو الجار والجارة، أو الأجنبي والأجنبية، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن خفّف عن معسر دینه أو حطّ عنه، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن نظر في حسابه، فرأى دیناً عتیقاً قد أیس منه صاحبه فأدّاه، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن تکفّل یتیماً، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن کفّ سفیهاً عن عرض مؤمن، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن قرأ القرآن أو شیئاً منه، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن قعدَ یذکر الله ونعماءه ویشكره علیها، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن عاد مریضاً، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن برّ والدیه أو أحدهما في هذا الیوم، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن کان أسخطهما قبل هذا الیوم فأرضاهما في هذا الیوم، فقد تعلّق منه بغصن، ومَن شيّع جنازة فقد تعلّق منه بغصن، ومَن عزّى فیه مُصاباً فقد تعلّق منه بغصن، وكذلك مَن فعل شیئاً من سائر أبواب الخیر، في هذا الیوم، فقد تعلّق منه بغصن، ثم ذکر (ص)، أبواب الشر، وما رآه من حالات شجرة طوبى، والزقّوم، ومحاربة الملائكة مع الشیاطین ـ إلى أن قال في آخر کلامه ـ ألا تعظّمون هذا الیوم من شعبان، بعد تعظیمكم لشعبان، فكم من سعید فیه؟ وکم من شقي فیه؟ لتكونوا من السعداء فیه، ولا تكونوا من الأشقیاء".
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق