◄شهر رمضان شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، فجميل أن يربي الصائم نفسه على احتمال الأذى، وحبس النفس عن المكاره، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التغابن/ 11)، فما يصيب المسلم إلا بإرادة الله تعالى وقضائه وقدره، والذي يتحلى بالإيمان يوفقه الله تعالى لليقين والصبر والرضا بقضاء الله، ولأنّ الصيام يعوّد صاحبه على احتمال الجوع والعطش، فيناسبه أن يعلم المسلم نفسه الصبر والمصابرة والمرابطة، ففيه فلاح الصائم في الدنيا والآخرة. فُسّر الصبر في الآية الكريمة: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة/ 45). بـ"الصوم". وقد يكون هذا تفسيراً بأحد الأسباب إذ الصوم يوجد ملكة الصبر في الإنسان، كما يحتمل أن يراد بالصبر الصوم فقط باعتبار كونه صبراً على بعض المتاعب. وعلى أي حال، فالصوم يوجد – ولا شكّ – ملكة الصبر، وتغليب التعقل في موارد التنافي بين مقتضاه ومقتضى الغرائز. فالصبر إنما هو عملية تجميع الطاقات – في ظرف يسيطر على الإنسان فليجئه لتبذير طاقاته لصدمة معينة – والاحتفاظ بها إلى حين إمكان الاستفادة منها بصورة أتم في لحظات (الفَرَجِ). وله تطبيقاته المختلفة الموارد ومنها مورد (تحكيم الإرادة الواعية فيما إذا اقتضى الهوى الإغراق في إشباع نزواته). فالصبر في النتيجة يعني قوة عنصر التعقل الضابط لكلّ تصرفات النفس، والموجه لها وجهة صحيحة. وهذا العنصر في الحقيقة هو سرّ تميُّز تصرفات الإنسان عن غيره. فيمكن القول – إذن – بأنّ الصوم حينما يربي في الإنسان الإرادة الواعية؛ فإنّه يربي فيه إنسانيته المتميزة. إذ لولاها لكان الإنسان في مرتبة وضيعة جدّاً، ولولاها لما استطاع أن يشق طريق الحياة الصعب ويعبر أمواجها المتلاطمة. ولذا نجد هذا هدفاً مرحلياً لكثير من التشريعات العملية – كما في الصوم والحج وغير ذلك – وكثير من التوجيهات الفكرية للقرآن الكريم والأحاديث الشريفة. فالقرآن الكريم يذكر لنا قصة الملأ من بني اسرائيل الذين شعروا بضرورة القتال في سبيل الله، وقد وفّر الله لهم القيادة الهادية والقوية ولكن كان عليهم أن يمرّوا بامتحان عملي لقياس مقدار الإرادة التي يمتلكونها؛ باعتبار الإرادة سراً من أسرار التفوق في كلّ ميدان؛ وبقاء الدافع النشط للإصرار على الكفاح: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ) (البقرة/ 249).. وها هي بدر – منعطف التأريخ الإسلامي – أمامنا تجسد لنا نفس هذا المعنى إذ انطلقت فئة قليلة رباها الصوم – في رمضان المبارك – لتجاهد في سبيل الله أعداء الله بكلّ ما لديهم من عدة وعدد، وشعارها نفس الشعار، وكان النصر حليف الصابرين. كان هذا نموذجاً للتربية الفكرية وعرضاً لنموذج عملي – مما جرى في الأمم السابقة – لأجل التدريب على الصبر باعتباره الإرادة الخيّرة المدركة. والصوم أحد التشريعات التي تُوجدُ هذه الملكة، بل من أهمها. وقد وصف الرسول (ص) الشهر المبارك بأنّه (شهر الصبر). ولما كان الصبر في الحقيقة يعتبر أقوى مساعدٍ في حصول ملكة التفاضل الكبرى في الإسلام، والعامل الإيجابي الدافع نحو كلّ خير، ونعني بذلك (التقوى) فقد وجدنا الآية المباركة تجعل غاية تشريع الصوم، حصول التقوى فيقول تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). كما أنّ النبيّ (ص) أسمى شهر رمضان بـ (شهر الجهاد) باعتبار أنّ التحمل الذي يحصل؛ يخلق الشخصية الفردية والاجتماعية القوية المتحمّلة لأي ألم يقدّره الله لها، ومع حصول هذه الصفة فإنّ الأُمّة والفرد لن يغلبا في أيّة معركة. وعلى أي حال فإنّ الصوم يعتبر أروع مذكّر للإنسان بما أنعم الله عليه من خيرات... فهو يفرض على المسلم أن يمتنع عن الطعام، إنّ حرمانه المؤقت من هذه النعمة يوسع من أفقه ويجعله يشعر بالنعمة أوّلاً، ومن ثمّ يشعر بنعم الله الكثيرة الأخرى بالتداعي. وحينها تتم عملية دفع أخرى نحو الله تعالى تنتج بالتالي تطبيقاً أو مساعدة على تطبيق لأسس العدل البشري، والتعاون في مضمار صنع الحضارة الإنسانية، وسد الثغرات التي ينبع منها الشر.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق