المسجد والقرآن:
هناك علاقة متينة ما بين المسجد والقرآن، وهي على عدة أوجه:
1- من حيث الوجود.
2- من حيث العمل.
3- من حيث النتائج.
الشريعة بما هي شريعة يمثِّلها القرآن الكريم، هو دستور ربِّ العالمين للأُمّة، وهو القانون الإلهي لبني آدم، هو مجموعة الفكر والعقائد والأوامر والنواهي والسلوك والأخلاق من الخالق إلى المخلوقين.
فعلاقة الوجود ما بين المسجد وبين القرآن هي واضحة من أنّه لو لم تكن شريعة، ولو لم يكن هناك قرآن لما كان مسجد، وهذا معنى أنّ هناك علاقة وجود ما بين المسجد والقرآن.
ومن ثمّ بعد علاقة الوجود فكما أنّ القرآن يؤثر في النفس ويربِّي النفس كذلك المسجد، لأنّ المسجد هو محط إيصال البيانات الإلهية إلى الأُمّة وما تحمل هذه البيانات الإلهية من أوامرَ ومن نواهٍ ومن فكر ومن أخلاق، فإذن لو لم يكن هناك قرآن، ولم تكن هناك شريعة إلهية سماوية لما احتيج إلى المسجد، ولما احتيج إلى مقر لهذه الشريعة الإلهية السماوية، فيكون انتفاء الحالة من انتفاء الموضوع، عند ذلك لا موضوع له، ومن هنا يظهر الترابط الوثيق بين وجود المسجد وبين القرآن الكريم.
الجانب الثاني أو الدور الثاني أو الارتباط الثاني أو العلاقة الثانية هو علاقة تأثير القرآن وتأثير المسجد، عطاء القرآن وعطاء المسجد، وبعد أن توضّح لدينا أنّه لو لم يكن هناك قرآن لما كان هناك مسجد، ذاك من حيث الوجود، إلّا أنّه من حيث العمل، من حيث الاستمرار، من حيث التأثير، من حيث العطاء، المسجد هو المؤسسة الإلهية.. المسجد هو البيت الربّاني!.. ولما كان المسجد هو هذا فعله، هذا تأثيره كمؤسسة ربّانية وبيت إلهي، فلابدّ أن يكون ناقلاً للأوامر الإلهية بشكلٍ مستمر، يعني ناقلاً لآيات القرآن.. يعني مبلّغاً الأوامر الإلهية والنصوص القرآنية إلى الأُمّة، فعندما يأمر القرآن بأمر أو ينهى القرآن عن نهي، يكون مصدر التبليغ من المسجد.
لمّا أراد القرآن أن يزرع العقيدة السليمة في الأنفس.
- عقيدة الإيمان بالله والتوحيد الكامل.
- عقيدة الحب ومن ثمّ الطاعة لله.
كل ذلك جاء عن طريق المسجد، وعندما أراد الله – سبحانه وتعالى – أن يضع قانوناً للأُمّة ضمن القرآن الكريم، سواءاً كان هذا القانون أموراً عبادية، كالصلاة والصيام، والحج، والخمس والزكاة.. أو كان أموراً معاشية أو أخلاقية أو سلوكية، كان دائماً يكون التبليغ من المسجد.. إذن، فهناك علاقة استمرار بين المسجد وبين القرآن الكريم، فكأنّ المسجد بضاعته، القرآن الكريم.
ولو أنّ الإسلام، الشريعة، القرآن، المسجد نفسه يريد من الأُمّة دائماً – أفراد ومجتمعات – أن تكون بيوتهم كلها بيوتاً لله، وأن تكون قلوبهم وأرواحهم وأنفسهم وضمائرهم وعقولهم كلها بيوتاً لله – سبحانه وتعالى – .. ولهذا في الحديث القدسي:
"لا يسعني شيء وقد وسعني قلب عبدي المؤمن".
ولكن مع هذا دائماً، الإنسان يريد شيئاً أمامه يتفاعل معه أكثر، فهذا البناء المسمّى مسجداً، المسمّى بيتاً من بيوت الله – سبحانه وتعالى – يكون التفاعل معه أكثر وتكون مهمته تبليغ الأوامر الإلهية، تبليغ الآيات القرآنية إلى الأُمّة وهذا دور الاستمرار وهذه علاقة الاستمرار.
ويأتي الدور الثالث أو العلاقة الثالثة بعد علاقة الوجود وعلاقة الاستمرار، تأتي علاقة النتيجة، فهناك علاقة بين المسجد وبين القرآن من حيث النتائج، فنقول:
أوّلاً: كما أنّ القرآن محفوظ، فبيوت الله تكون محفوظة.. الله (تعالى) أعطى ضماناً لحفظ قرآنه حيث يقول في سورة الحجر/ آية 9:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
ويقول في سورة فصِّلت/ آية 42:
(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ).
فالقرآن محفوظ ولحفظه معنيان:
المعنى الأوّل: إنّه لا يمكن أن يكون فيه زيادة أو نقيصة، فهو محفوظ من تلاعب أعداء الله وأعداء الإسلام، وأعداء الرسالة، وأعداء القرآن، فهو ليس كالرسالات السماوية السابقة التي زيد فيها أو نُقص منها لأنّها كانت رسالات مؤقتة.
والمعنى الثاني للحفظ: أنّه سيبقى هذا القرآن الذي هو كتاب الله – سبحانه وتعالى – إلى أن تقوم الساعة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فكما أنّ القرآن محفوظ، فإنّ بيت الله محفوظ.
ثانياً: إنّ القرآن يهدي للتي هي أقوم، المسجد يهدي للتي هي أقوم لأنّ القرآن هو الرسالة التي تُبلِّغ للأُمّة عن طريق المسجد، وكما قلنا، إنّ المسجد بضاعته القرآن.
- إلّا أنّه هنا بضاعة مع تطبيق..
- وهنا بضاعة مع سلوك..
- وهنا بضاعة مع عمل..
فيقول له: إنّ الله أمر بالصلاة، فأقم الصلاة، يبلِّغ هذا الأمر ويقيم الصلاة في المسجد، يبلِّغ الأُمّة بقراءة القرآن وضرورة قراءة القرآن وكيف أنّ هذا القرآن فيه تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين كما جاء في قوله تعالى في سورة النحل/ آية 89:
(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ).
أمّا أبعاد كلّ شيء والهدى والرحمة الإلهية وتعدد البشارات السماوية كل ذل من المسجد.. وهكذا نرى، هناك علاقة وثيقة بين نتائج القرآن الكريم مع الأُمّة ونتائج المسجد مع الأُمّة، وبالتالي يكون المسجد هو المقر الطبيعي للقرآن الكريم، قراءةً وفهماً وتطبيقاً وسلوكاً.
القرآن هو دائماً مؤثِّر، القرآن هو دائماً شفاء لما في الصدور من الأدران والانحرافات والانحناءات غير السليمة، شفاء لما في الأنفس من تغلُّب الشهوات والغرائز والميول وحب الذات.. فلماذا هو شفاء؟..
لأنّه يربط بين العبد وبين ربه وكلما يكون الربط بين العبد وبين ربه أقوى يكون الدواء مؤثراً أكثر، فعندما نقول: أنّه شفاء وأنّه دواء، هذه الوصفة التي هي شفاء، فأين يستعملها؟.. يستعملها عند الطبيب أفضل، أم يستعملها بعيداً عن الطبيب هو الأفضل؟..
من المؤكَّد يستعملها عند الطبيب أفضل، فيكون استعمال الدواء بإشراف من الطبيب، وهكذا قراءة القرآن، عندما تقرأه في المسجد وتقرأه في بيتٍ من بيوت الله، فأنت قريب من طبيبك.. فأنت قريب من حبيبك.. فأنت قريب من ربّك.. فأنت قريب من مولاك.. فأنت قريب من سيّدك.. فأنت قريب من مداويك.. دائماً المؤمن هو بعين الله ولكن تكون الرعاية في المسجد، في بيت الله مركَّزة أكثر، فعندما تقرأ القرآن وأنت في بيت من بيوت الله، يكون الدواء أنفع ويكون القرب أكثر وفيه ما فيه من دليل الحبّ والولاء لربّك وسيّدك ومولاك، لأنّك تزوره في بيته وتسمع كلامه وأنت في بيته.. هذا التأثير الذي يكون في المسجد لا يمكن أن يقارن بأي تأثير آخر، ففي الحديث النبوي الشريف جاء:
"إذا أردتَ أن تتكلم مع الله، فصلِّ، وإن أردتَ أن يتكلم الله معك، فاقرأ القرآن".
فعندما تكون في بيت من بيوته ويتكلّم معك وأنت في بيته، يكون لهذا الكلام من المولى تأثيراً خاصاً وأهمية بالغة.. وعندما يكون في بيته، في مسجد من مساجده فتكون في ضيافته، وعندما تكون في ضيافته يكون لك جوائز خاصة وعطايا خاصة وألطاف معينة.
فأنت في بيته وأنت مستلهم لكلامه، سيقع هذا الكلام منه، موقعه الكبير في نفسك وروحك وعقلك وفكرك، ومن ثمّ في سلوكك وأخلاقك وعبادتك، سيؤثر هذا الكلام في كلّ جزئية من جزئيات حياتك وفي كلّ مفردة من مفردات يومك وأسبوعك وشهرك وعمرك.. ستبقى دائماً تعيش المسجد وتعيش هذه الضيافة الإلهية وتعيش هذه الإمدادات الربّانية، ومن هنا يتضح مدى علاقة المسجد بالقرآن وعلاقة القرآن بالمسجد، فهما لا ينفكّان.. وهكذا نرى كيف أنّ القرآن الكريم هو شفاء للصدور والأرواح والأفكار والعقول كما قال تعالى في سورة الإسراء/ آية 82:
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
فالله – سبحانه وتعالى – يخاطب الأُمّة، يخاطب الناس أجمعين مُبلِّغاً لهم من المسجد حيث يقول في سورة النساء/ آية 174:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
فالقرآن هو البرهان الإلهي للأُمّة على صدق الرسالة المحمَّدية، لأنّه هو معجزة الله الذي أنزله للأُمّة، فهو البرهان على سلامة الشريعة، وهو البرهان على صدق نبوة رسولنا الأكرم محمَّد (ص)، هذا البرهان من الله – سبحانه وتعالى – إلى الأُمّة وفي هذا البرهان كما تقول تتمة الآية المباركة:
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا).
هذا النور وأبعاده.. فالمسجد يوضّح للأُمّة، يعني أنّ الأوامر الإلهية التي تُبلِّغ من المسجد إلى الأُمّة، سواءاً كانت هي فعلٌ أو تركٌ، فهي نور لها!.. وبعكس النور الظلمة، وبعكس الهداية الضلال، فبمقدار ما تستجيب إلى القرآن الكريم وبمقدار ما نستجيب للتعاليم الإلهية التي نأخذها من المسجد والتي نأخذها من بيت من بيوت الله – تعالى – وبمقدار تفهمنا لها وتطبيقنا لها، نكون نحن في نور.. في ضياء.. في نور في دواخلنا، في أرواحنا، في نفوسنا، في عقولنا، في أفكارنا.. وتكون الحياة الدنيا كلها لنا نور.. وتكون الآخرة لنا نور!.. وبعكس ذلك يكون الظلام في قلوبنا وفي حياتنا وفي آخرتنا ويكون الخسران في داخلنا وخارجنا، في دنيانا وفي آخرتنا، هذا هو القرآن وهذا هو المسجد.
اللّهمّ اجعلنا ممن تلا القرآن..
اللّهمّ داونا بالقرآن..
اللّهمّ اجعل القرآن شفيعنا..
اللّهمّ أحينا حياة القرآن..
اللّهمّ احشرنا مع القرآن..
إنّك أنت أرحم الراحمين..
المصدر: كتاب كيف نعتني بالقرآن في شهره.. وبيته
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق