هل يمكن أن يقف المشير "محمد حسين طنطاوي" ليحلف اليمين أمام أي رئيس وزراء، وأن يعود -مرة أخرى- ليصبح مجرد وزير دفاع في إحدى الحكومات؟ إن إجابة واضحة على هذا السؤال البسيط تلخص احتمالات مستقبل الحكم في مصر، بعد ثورة حماها المجلس العسكري بيد، وأوقف نموها باليد الأخرى، لنصبح تحت سطوة "الاستبداد" بدلا من "الفساد" مع ملاحظة أنهما معا -أي الفساد والاستبداد- قرينان، حيث لا بد للفساد من استبداد يحميه، ولا بد للاستبداد من فساد ينفق عليه، واستقرار الاستبداد يعني اختزال نتائج ثورة 25 يناير في أنها أعادت ترتيب العلاقة بين القرينين، ليتقدم الاستبداد، بعد أن كان الفساد يسبقه بخطوة!
على الصعيد السياسي والقانوني فإن كل "الجداول" و"خطط الطريق" تنطلق من هيمنة المجلس العسكري وإليها تنتهي، وحتى الآن فإن بقاءه مسلمة تكرس عمليا يوما بعد يوم، حيث يحقق المجلس مكتسبات جديدة، بعضها يأتي عبر "استعادة" ما تخلى عنه سابقا من السلطة، في اضطرار اتخذ من الترفع ستارا، مثل تحديد طبيعته بوصفه سلطة حكم، تلك الطبيعة التي أظهر المجلس ترفعا عنها في الأسابيع الأولى التالية للثورة، حيث كان حريصا على التصريح بأنه "يدير ولا يحكم"، حتى جاء حكم محكمة القضاء الإداري في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري لينهي المناورة، ويظهر للجميع ما لم يكن خافيا على أحد، مؤكدا أن المجلس سلطة حكم لا شك فيها.
حيث قالت المحكمة إن "الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 30 مارس/آذار الماضي، أناط بالمجلس مباشرة اختصاصات رئيس الجمهورية بصفته سلطة حكم وليس سلطة إدارة، وإن كل ما يصدر عنه من قرارات هو عمل من أعمال السيادة".
هذا الحكم، طبق وسرى أثره فورا، حيث رفضت المحكمة أن تنظر الطعون الخاصة بوقف إجراء انتخابات مجلسي الشعب والشورى، باعتبار أن إجراء الانتخابات عمل من أعمال السيادة قرره المجلس العسكري.
لكن "الإعلان الدستوري" الذي استندت إليه المحكمة، لتصدر حكما لصالح المجلس العسكري، باعتبار هذا الإعلان نصا قانونيا ملزما، كان عليه أن يفقد قدرته الإلزامية، حالما يصبح فقدانها لصالح المجلس العسكري، وقد تجلى هذا فيما عرف بـ"وثيقة المبادئ فوق الدستورية" التي أعلنتها لجنة شكلها ورأسها نائب رئيس الوزراء "د. علي السلمي"، وهي وثيقة تضرب بالإعلان الدستوري عرض الحائط أصلا وفصلا. حيث تعد الوثيقة -من حيث الأصل- افتئاتا على إرادة الشعب وحقه في صياغة دستوره بالإرادة الحرة للجمعية التأسيسية المنتخبة من قبله، وفي التفاصيل فإن الوثيقة حافلة بمخالفات "تقلع العين" للإعلان الدستوري في مرجعيته وفي نصوصه، وهي مخالفات لم تقع على سبيل "السهو والخطأ"، بل تعمدت تسليم الحقوق الشعبية والبرلمانية للمجلس العسكري.
ولنبدأ بالمادة 60 من الإعلان الدستوري ونصها "يجتمع الأعضاء غير المعينين لأول مجلسي شعب وشورى في اجتماع مشترك، بدعوة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، خلال ستة أشهر من انتخابهم، لانتخاب جمعية تأسيسية من مائة عضو، تتولى إعداد مشروع دستور جديد للبلاد في موعد غايته ستة أشهر من تاريخ تشكيلها، ويعرض المشروع، خلال خمسة عشر يوما من إعداده، على الشعب لاستفتائه في شأنه، ويعمل بالدستور من تاريخ إعلان موافقة الشعب عليه في الاستفتاء".
وفي وثيقة "السلمي" هناك 3 مخالفات واضحة لهذه المادة وحدها:
المخالفة الأولى: أن المادة 60 تنص على أن الجمعية التأسيسية المكونة من مائة عضو لوضع الدستور، ينتخبها الأعضاء المنتخبون من مجلسي الشعب والشورى، وحدهم وعلى سبيل الحصر، وبإرادتهم الحرة. بينما وثيقة "السلمي" تضع قيودا، حيث تنص على أنه يتم "اختيار عشرين عضوا فقط من أعضاء مجلسي الشعب والشورى المنتخبين واختيار الثمانين عضوا الآخرين من العديد من المؤسسات والهيئات الحكومية والمثقفين والسياسيين الممثلين لكافة طوائف الشعب".
الثانية: وتأكيدا للمخالفة الأولى، تسلب وثيقة "السلمي" الشعب حق اختيار الجمعية التأسيسية، وتعقده للمجلس العسكري، حيث نصت الوثيقة على أنه "إذا لم تنته الجمعية التأسيسية من إعداد مشروع الدستور خلال الأشهر الستة المنصوص عليها في الإعلان الدستوري لأي سبب من الأسباب، يكون للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، بما له من سلطات رئيس الجمهورية، تشكيل جمعية تأسيسية جديدة وفقا للمعايير المتوافق عليها لإعداد مشروع الدستور خلال ثلاثة أشهر من تاريخ تشكيلها".
المخالفة الثالثة: تحصر المادة 60 عملية صياغة وإصدار الدستور بين الجمعية التأسيسية والاستفتاء الشعبي، وهنا لا تقتصر مخالفة وثيقة "السلمي" على أنها تفرض المجلس العسكري شريكا، ولا على أنها -فحسب- تمنحه الهيمنة وموقع الصدارة، بل إن الوثيقة في الواقع تجعل التوجيه والأمر في شأن صياغة الدستور وإصداره ملكا خالصا للمجلس العسكري، وذلك حيث تنص على أنه: "إذا تضمن مشروع الدستور الذي أعدته الجمعية التأسيسية نصا أو أكثر يتعارض مع المقومات الأساسية للدولة والمجتمع المصري والحقوق والحريات العامة التي استقرت عليها الدساتير المصرية المتعاقبة، بما فيها الإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس 2011 والإعلانات الدستورية التالية له!! يطلب المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بما له من سلطات رئيس الجمهورية في المرحلة الانتقالية، من الجمعية التأسيسية إعادة النظر في هذه النصوص خلال مدة أقصاها خمسة عشر يوما".
وأرجو ملاحظة الجريمة التشريعية الكبرى في عبارة "والإعلانات الدستورية التالية له"، والمقصود بها رفع وثيقة "السلمي" إلى مرتبة الإعلان الدستوري، وإلا فإن المقطوع به أن مصر لا تعرف إلا إعلانا دستوريا واحدا، هو ذلك الصادر -بناء على الاستفتاء الشعبي- في 30 مارس/آذار الماضي. ثم ملاحظة العبارة التي تصرح بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة له سلطات رئيس الجمهورية، وهي عبارة ترددت مرتين في وثيقة "السلمي"، وتكرر معناها في حكم القضاء الإداري المشار إليه سابقا، والصادر في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه وثيقة "السلمي"، والمؤكد أن تكرار المعنى مرتين في يوم واحد، في وثيقتين مختلفتين، لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة.
وتأكيدا لما تهدف إليه وثيقة "السلمي" من تكريس هيمنة المجلس العسكري و"تأبيد" سلطاته، تنص الوثيقة على أن المجلس يختص "دون غيره بالنظر في كل ما يتعلق بالشؤون الخاصة بالقوات المسلحة ومناقشة بنود ميزانيتها. كما يختص دون غيره بالموافقة علي أي تشريع يتعلق بالقوات المسلحة قبل إصداره". وهو نص يسلب البرلمان سلطته مرتين:
• مرة لأنه يحول بينه وبين حقه الأصيل في مناقشة بنود موازنة القوات المسلحة باعتبارها جزءا من موازنة مصر، تأسيسا على حقيقة أن القوات المسلحة جزء من الدولة وليست سلطة فوقها.
• ومرة لأنه يجعل من المجلس العسكري رقيبا على البرلمان، على نحو يقيد حقه في إصدار القوانين التي "تتعلق" بالقوات المسلحة. مع ملاحظة أن لفظ "تتعلق" فضفاض، يفسح المجال للتوسع في تفسيره على نحو يمكن أن يعطل ويغير عشرات القوانين.
ثم، وعلى طريقة "شر البلية ما يضحك" يأتي البند العاشر من بنود وثيقة "السلمي" فكاهيا إلى أقصى ما يمكن، وصياغته تذكر -على الفور- بـ"كوميديا الفارس" التي تعتمد على المبالغات، خاصة حين تنتقد هذه الكوميديا الإعلانات الملفقة لطلب موظفين، والتي تتضمن شروطا تعجيزية لا تنطبق إلا على شخص واحد. حيث ينص البند العاشر من الوثيقة على أنه: "ينشأ مجلس، يسمى مجلس الدفاع الوطني، يتولي رئيس الجمهورية رئاسته ويختص بالنظر في الشؤون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها، ويبين القانون اختصاصاته الأخرى". حسنا: لدينا الآن، وحسب وثيقة "السلمي" مجلس عسكري يختص (دون غيره) بالنظر في كل ما يتعلق بالشؤون الخاصة بالقوات المسلحة. ومجلس دفاع وطني يختص بالنظر في الشؤون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها.
وحيث إن تأمين البلاد من أخص شؤون "القوات المسلحة" التي يختص المجلس العسكري (دون غيره) بها، فإن مجلس الدفاع الوطني لا يمكن إلا أن يكون تحت هيمنة المجلس العسكري. ثم وحيث إن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس الدفاع، الذي يهيمن عليه المجلس العسكري، فإن هذا الرئيس لا يمكن أن يكون من خارج المجلس إلا إذا انصرفت إرادة المجلس إلى ذلك! على الأقل لأن غير هذا يفتح الباب واسعا أمام احتمالات الصراع بين مجلس عسكري، هو -حسب الوثيقة- لن يرحل ولن يحل، ويملك صلاحيات رئيس الجمهورية، وبين رئيس الجمهورية الذي سيرأس أيضا مجلس الدفاع الوطني.
المجلس العسكري رئيسا للجمهورية، وواضعا للدستور، ومهيمنا على أعمال السلطة التشريعية أيضا. هذه هي "فوق دستورية" د. على السلمي، التي حاول وجماعته تسويقها باسم الديمقراطية. غير مبال بأن الديمقراطية تعني -في صلبها- الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، بينما يقوم، وهو نائب رئيس الوزراء، أي ممثل السلطة التنفيذية، بالاعتداء على اختصاص السلطة التشريعية، وسلبها حقها الأصيل، عبر صياغة وإصدار وثيقة ورد بين نصوصها، هي نفسها، ما يشير إلى اعتبارها إعلانا دستوريا، أي أن "السلمي" وجماعته وحدهم يعدون أنفسهم كيانا تشريعيا يساوي كل البرلمان وكل الناخبين وكل الشعب! فأية ديمقراطية هذه؟
إن وثيقة السلمي تشكل ردة واضحة عن الثورة، في أدنى درجاتها وأقل مكتسباتها، وتتواصل مع "روح" التعديلات الدستورية التي أجراها الرئيس المخلوع "حسني مبارك"، عامدا إلى قصر الحق في سلطة الرئاسة على شخص بعينه -هو ابنه "جمال"- ومهدرا الكثير من المكتسبات الوطنية، ما أدى إلى اندلاع الثورة في نهاية الأمر.
وبالمثل تعمد الوثيقة إلى قصر الحق في سلطة الرئاسة على المجلس العسكري، كما أنها تهدر أحد أهم المكتسبات الوطنية، إذ تهبط بحق التعليم من ضمان "التعليم الجامعي" إلى الإقرار بالحق في "التعليم العام"!
وعلى هذا فإنه ليس مستغربا أن أصواتا كثيرة عدت الوثيقة بيعة إجبارية للمجلس العسكري، و"ورقة طلاق" بين الثورة وحكومة جاءت في ظلها، لكنها فضلت أن تستظل بالمجلس. حكومة فشلت في الاستقالة، حفاظا على حقوقها، وفشلت أكثر في الحكم، حفاظا على حقوق الشعب الذي جاء بها، ولم يبق -أمامنا وأمامها- إلا أن نعدها عملا من أعمال السيادة التي يمارسها المجلس العسكري!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق