◄يتساءل الكبار عن ميولات أبنائهم الاجتماعية بعد سن الطفولة ومقاربتهم للبلوغ: لماذا يزهد المراهقون في التأسي بالكبار؟ ويرفضون سلطتهم ظاهراً أو باطناً؟ ولماذا ينقاد لرفاقه وأصحابه، وينصرف إليهم في مشاعره وتوجهاته؟ ولماذا يلجأ إلى جماعة الرفاق في تحديد ميوله وهواياته؟ وفي تحديد شكل ملابسه وهندامه؟ وفي كيفية قضاء وقت فراغه؟ هل يحتاج المراهقون – فعلاً – إلى الرفقة أو الجماعة، بحيث لا يمكن الاستغناء عنهم، كضرورة صحية وتربوية؟ وما دور الرفقة في نمو شخصية المراهق؟ ولماذا؟ يغترب مع رفقته، وينزوي عن المجتمع، وتظهر عليه أعراض الجُناح أحياناً؟ هل يحتاج المراهق إلى التقدير والاحترام من قِبَل والديه ورفقته ومجتمعه أم لا؟ وهل يطمح المراهق إلى تحقيق ذاته وتطلعاته بثقة الآخرين به، واعتمادهم عليه، وتحميلهم إياه العملَ والمسؤولية، وما دور هذه الأشياء في صحته النفسية، وفي نمو شخصيته؟ لماذا يمقت بعض المراهقين مجتمع الكبار، ويثورون عليه، ويخرجون على أعرافه؟ ولماذا يوجدون أعرافاً خاصة بهم في التعامل، والتخاطب، وأنماط اللباس، وفي الاهتمامات والهوايات؟.
هذه أسئلة كثيرة نحاول الإجابة عليها، أو على بعضها. ويمكن تلخيص حالات النمو وظروفه الاجتماعية عند المراهق فيما يأتي:
حالة المراهق وموقف الكبار: يعيش المراهقون – كما مرّ – في حالة تبدل عضوي ومعرفي وانفعالي سريع ومتتابع، وهو تغير – بلا شك – يقرب الإنسان من الرجولة، أو الأنوثة، أي من مجتمع الكبار، ويبعد به عن الطفولة، وهذا واضح في التحولات التي تطرأ على القدرات العقلية التي تؤهله للفهم، والمحاكمة العقلية، وتساعده على إدراك الأشياء كما هي في الواقع، وفي القدرة على البحث، والنقاش، وإدراك وجهات نظر الآخرين. وهو واضح أيضاً في التغيرات العضوية، من الزيادة في الطول، والوزن، وظهور الشعر، ونمو الأعضاء التناسلية. كلّ ذلك يؤذن ببداية رجولته واكتماله، لكن كثيراً من الكبار يرفضون ذلك، أو لا يأبهون به، أو يصادمونه. وهذا التصرف من الكبار يسيء إلى المراهق ويؤدي به إلى خيبة أمل، وشك، أو يؤدي به إلى معاندة الكبار، ونبذ سلطتهم، والارتماء في أحضان الرفقة، ويؤدي به – أيضاً – إلى ضعف الارتباط – أو عدم الاعتراف – بأعراف الكبار، ونظمهم، وإلى الثورة عليها، ومحاربتها باطناً أو ظاهراً.
المشاعر الجماعية: حيث يحس المراهق بالحاجة إلى الانتماء إلى رفقة – أو صحبة أو مجموعة – تشاركه مشاعره، وتعيش مرحلته، يبث إليها آماله وآلامه، وأفراحه وأتراحه، وتبث إليه ذلك، هذه الرفقة أو المجموعة تُعْنَى بأحاسيسه ومطالبه، وتعمل لإشباعها وقد تنجح وقد تخفق. وهذه الرفقة – أحياناً – تخلص لبعضها ولو في سبيل الشر، وتقوم على التعاون والتكامل. ولا يستغني معظم المراهقين عن هذه الرفقة، لأنها مطلب حيوي، وحاجة نفسية ملحة تقتضيها التغيرات الفجائية، والتحولات الجديدة غير المعلَّلة، التي لا يجد المراهق الجواب عليها في حال عزلته وانزوائه، ولا يحسن التعامل معها – كما يرى – بمفرده، فيلجأ إلى رفاقه أو أصحابه في مرحلته ومن أبناء سنه.
خصوصيات المراهق: فهو لا يرى أنّه كالكبار تماماً وخصوصاً والديه الذين يفترقان عنه في السن افتراقاً كبيراً. ويتجه المراهق إلى أساليب مختلفة – كثيراً أو قليلاً – في نمط هندامه وأسلوب حياته، وموضوعات اهتمامه، وفي أنواع الهوايات، وكيفيات قضاء وقت الفراغ. وهو حساس لمقارنته بكبار السن – في هذا الجانب –، وله منظار خاص لا ينتبه له كثير من الكبار.
تحقيق الذات: إنّ محاولة تحقيق الذات وظيفة يمارسها الإنسان في شتى المراحل العمرية، كلّ مرحلة بما يناسبها، وتجتمع كلها في مفهومٍ واحد هو: أنّ الإنسان يقوم بالوظائف الملائمة لقدراته واستعداداته، ويمارس الأدوار المناسبة له، والمتوقعة منه، وينتج عن ذلك الشعور بالقيمة والأهمية، والإحساس بجدية الحياة، وغاياتها، أو ما يسمى تحقيق الذات.
والمراهق شاب يعيش مرحلة انتقال من الصبا إلى الرجولة مما يقتضى تغير موقعه ووظيفته الأسرية والاجتماعية: من حيث طبيعتها ومستواها ومقدارها. والمراهق يبتغي تحقيق ذاته واختبار قدراته وتفريغ طاقاته، وهو يريد أن يَبْلُوَ نفسه بممارسة الدور الاجتماعي، والقيام بالمسؤولية. ومرحلته ومستوى نضجه يقتضيان رفض البطالة، ونبذ الهامشية الاجتماعية التي يفرضها الكبار عليه أحياناً. بل إن كثيراً من المراهقين يمقتون التبعية ويكرهون أن يكونوا عالة على غيرهم، إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهم يسخرون داخل أنفسهم من هذا الأسلوب في التعامل. كما أن مشاعر اللوم ومقت النفس تراودهم وهم يرون أنفسهم تبعاً للكبار وعالة عليهم، وقد يموت هذا الإحساس أو يضعف إذا لم يستغل في حينه، بتوجيهه الوجهة الصحيحة، واستثماره في تربية المراهق وتهذيبه.
إنّ الحاجة إلى تحقيق الذات مطلب نفسي مهم للمراهق، ينبع من داخل نفسه، من أحاسيسه وهواجسه، ومشاعره المدعومة بالتحولات العضوية والمعرفية والانفعالية التي يمر بها جسده وعقله وانفعالاته. وهو لا يحس بالتنفيس عنها إلا إذا قام بالدور الاجتماعي المناسب، وتحمل المسؤولية، حسب مؤهلاته، وقدراته، وطاقاته.
لكن المجتمع الحديث – غالباً – ما يواجهه بنكران شديد وإهمال بالغ. وغالباً ما تكون مشاعر ومواقف الكبار، كالآباء والأُمّهات والمدرسين والأخوة الكبار. – مخيبة لآمال المراهقين: قولاً وعملاً. فهم لا يأبهون بأن يحقق المراهق ذاته، من خلال استغلال طاقاته ومنحه للمسؤولية، وعزو الوظائف المناسبة له. بل إنّ الكبار – أحياناً – يسخرون من المراهقين، ويحتقرونهم أن يقوموا بمثل ذلك. ويتجه بعض الكبار إلى عدم الثقة بالمراهقين والمراهقات، وعدم الاطمئنان إلى ما يتلونه من أعمال، ويُشْعِرونهم بذلك، بطرق مباشرة وجهاً لوجه، وبطرق غير مباشرة من خلال عزلهم عن ممارسة الأدوار المناسبة ومنعهم من تحمل المسؤولية، وصرف المراهقين إلى أعمال هامشية، أو تكميلية، أو إلى أنشطة ترفيهية، من رياضة وفن ورحلات. ويقوم الأعمُّ الأغلب من الآباء بتوجيه أبنائهم إلى الدراسة وتفريغهم لذلك، والاستغناء بذلك عن توظيفهم أو تكليفهم بأعمال أو مهمات تحقق ذاتيتهم، وتُشْعِرهم بالمسؤولية، وبشيء من الاستقلالية وتُبْرِزُ شخصياتهم، وتَصْقُلُ قدراتِهم الاجتماعية.
ويقوم النظام الاجتماعي والتربوي الحديث بتطويل فترة الطفولة والاعتماد على الغير حيث لا ينتهي الفرد من التعليم العام إلا في سن الثامنة عشرة، ثمّ عليه أن يستمر في الجامعة إلى سن الثالثة والعشرين، وهو في كلّ ذلك تابع، وعالة على الممجتمع: مالياً، وثقافياً، واجتماعياً لا عمل له سوى الاستقبال فقط. إنّ المجتمع بذلك يصادم متطلبات تلك المرحلة وحاجاتها الطبيعية مما يؤدي – أحياناً – إلى انحراف المراهق، أو ضياعه، أو سلبيته، أو إخفاقه في حياته، وفي أقل الحالات يؤدي إلى إهدار طاقاته، وتعطيل حاجاته. وهكذا كلما اصطدمنا بالفطرة، وبطبيعة النفس البشرية – وقع الانحراف. وقد كلف الإسلام الإنسان بالتكاليف الشرعية بإدراك البلوغ – وهو ما يقارب سن الخامسة عشرة – وحمَّله المسؤولية عن نفسه، في عبادته، ومعاملاته، وتصرفاته المختلفة. وقد كان الرسول (ص) يأذن بالجهاد في سبيل الله – وهو أشق المهام وأصعبها – لمن بلغ الحلم من الفتيان.►
*رئيس قسم علم النفس
المصدر: كتاب المراهقون/ دراسة نفسيّة إسلاميّة للآباء والمعلِّمين
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق