د. عائض القرني
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام/ 95-96).
1- لفظ الجلالة هنا يشير إلى الأُلوهية التي نازع فيها المشركون، والخطاب معهم لأنهم مُقِرُّون بالربوبية، ولذلك ختم الآية به فقال: (ذَلِكُمُ اللَّهُ).
2- وإنما ذكر الحبّ والنوى لأنّ النبات والشجر فصيلتان مختلفتان فبذر المحصول الحب وبذر الباسق النوى.
3- جاءت هذه الآيات وفيها معاني النماء والإحياء بعد الإماتة والهلاك في قوله تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى) (الأنعام/ 94).
4- قال هنا: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)، ثمّ قال: (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ)، فلِمَ ذكر الفعل في إخراج "الحي من الميت" وهو (يخرج)، وأتى بالاسم في "الميت من الحي" فقال: (مخرج)؟ لأنّ الفعل يقتضي الحدوث ولو قليلاً، والاسم يقتضي الاستمرار دائماً، والكثير وهو الأصل "إخراج الميت من الحي" وهذا معلوم في الكائنات، أما إخراج الحي من الميت فهذا يقع وليس بالكثير، وليس هو الأَصل.
5- وعطف (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ)، على "فالق الإِصباح" عطف اسم على اسم، لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت، لأنّ النامي في حكم الحيوان بجامع الإحياء، ألا ترى إلى قوله: (يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (الحديد/ 17)؟.
6- وقوله: (فَالِقُ الإصْبَاحِ) (الأنعام/ 96)، ولم يأت: "يفلق الإصباح" لأنّ الاسم أقوى في الدلالة من الفعل، ولأنّ هذا دائم مستمر، ولأنّه سهل يسير عليه سبحانه، لأن لفظ: "يفلق الإصباح" يوحي بشيء من المشقة تعالى الله عن ذلك.
7- وكلمة: "فلق" وهي الفصل بين الشيء المجتمع، (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (الشعراء/ 63)، وهي غير قطع وفصم وفصل وبتر وقصم.
8- فما معنى فلق الصبح والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال أبو نواس:
كأنَّ بقايا ما عفا من حبابها **** تفاريق شيب في سواد عذارِ
تردّت به ثم انفرى عن أديمها **** تَفري ليل عن بياض نهارِ
قيل: فيها وجهان:
الأول: أن يُراد: فالق ظلمة الإِصباح، وهي العيش في آخر الليل.
والثاني: أن يُراد: فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره، وقالوا: انشق عمود الفجر، وانصدع الفجر، وسموا الفجر فلقاً بمعنى مفلوق قال أبو تمام:
هذي مخايل برق خلفه مطر **** جود وروى زناد خلفه لهبُ
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه **** وأوّل الغيث قطر ثم ينسكبُ
9- الجامع لهذه الآيات والصور والمشاهد هي مسألة الإحياء والإخراج، ففلق الحب والنوى إحياء وإخراج، والحي من الميت والميت من الحي إحياء وإخراج.
10- في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى...) الآية وقوله: (فَالِقُ الإصْبَاحِ) جمع بين قدرته سبحانه وتعالى في الأجسام والمعاني والذوات والأعراض والزمان والمكان، وهذا كثير في سورة الأنعام، فإنّ بدايتها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) (الأنعام/ 1)، فجمع بين الزمان والمكان والجسم والعرض فقدرته نافذة في الجميع لا إله إلّا هو.
11- في قوله تعالى: (فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ) (الأنعام/ 96)، لم يذكر النهار على خلاف الغالب في القرآن، فعند الليل يذكر النّهار غالباً أما هنا فلم يذكره لأنّه اكتفى بذكر الإصباح الذي هو أوّل النهار.
12- وآية القدرة في فلق الحب والنوى أنّه لا يستطيعه أحد من الناس وهو سر من أسرار العظمة، فإنّ المزارع يستطيع إحضار الماء والتربة الخصبة واختيار زمن البذر، ولكن فلق الحبة والنواة فوق قدرته، فكان هذا تلويحاً بالعظمة، تذكيراً بالقدرة، وقد كشف علم النبات الحديث عن مسألة اهتزاز الأرض هزة خفيفة لتنفلق الحبة ويحصل الإنبات (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (الحج/ 5).
13- في قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)، استحضار لصورة الإخراج لأنّها تتم شيئاً فشيئاً، وهذا يؤدّيه الفعل المضارع لا اسم الفاعل، فحسن هنا إيراد الآيتين بالفعل المضارع لأن في المسألة تدرّجاً.
14- قرأ الحسن "الأصباح" بفتح الهمزة جمع صبح ومنه قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي **** بصبح وما الأصباح منك بأمثلِ
على الوجهين بالكسر والفتح للهمزة.
وعلى قراءة الحسن فالأصباح كثيرة بالنسبة لمطالع الشمس والقمر والكواكب كالمشارق بتعدد أنواعها.
15- وحسن قوله عزّ من قائل: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، لأنّه لما ذكر آياته وقدرته وعرضها عليهم وأقام عليهم الحجة ووضحت لهم المحجّة فمن الغريب العجيب انصرافهم عن الإيمان وانحرافهم عن الهداية.
16- وفي قوله تعالى: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) (الأنعام/ 96)، أنّ الأحياء تسكن فيه وتهدأ أو ترتاح فهو ظرف لسكونها ووقت لنومها وراحتها.
17- وأما كون الشمس والقمر حسباناً فالشمس لحساب الأيام، والقمر لليالي، وقيل: الشمس والليل والنهار والقمر للسنوات، والساعات تحسب بالشمس والأبراج بالقمر.
18- وحسن ختام الآية بقوله تعالى: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام/ 96)، لأنّه عزّ هنا فقهر الشمس والقمر وسخَّرهما وعلم فقدَّرهما ودورهما ودبَّرهما بحساب دقيق. والله أعلم.
المصدر: كتاب حدائق ذات بهجة
ارسال التعليق