• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رؤى في منهجية الأمن الغذائي العربي

د. سالم توفيق النجفي

رؤى في منهجية الأمن الغذائي العربي

مسألة حتمية تفرضها بيئة الأمن الغذائي العربي، وضرورات توفيره، والتحوط تجاه التداعيات التي يمكن أن يحدثها تراجع عرض الغذاء، مقروناً بتزايد الطلب عليه مع مرور الزمن، لا سيما أن بعضاً من تلك الأحداث المرفوضة قد شوهدت في أكثر من دولة عربية خلال السنوات القليلة الماضية.

بمعنى آخر، إنّ الصدمات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها أوضاع التفكك العربي، وما آلت إليه البلدان العربية من تراجع في العديد من مؤشرات القدرات الأساسية لأفراد المجتمع، لا يقتضي أن تضاف إليها صدمات أخرى، مثل انعدام الأمن الغذائي، التي تظهر بوادرها في مناطق مختلفة من الوطن العربي، إنّما يتطلّب الأمر التخفيف من آثارها بالقدر الذي تسمح به أوضاع الموارد، وإعادة توزيع عوائدها بصورة تؤدي إلى تقليص فاعلية المتغيرات المؤدية إلى الجوع، لا سيما أن أسعار الغذاء (الحبوب) العالمية آخذةً في التزايد المتسارع منذ مطلع الألفية الثالثة، وذلك لأسباب خارجية، في مقدمتها تزايد أسعار الطاقة، وتنظيمات الأسواق العالمية للحبوب باتجاه احتكار القلة، وتوسيع أساليب الهيمنة والحصار الاقتصادي على البلدان التي وصفتها الرأسمالية بالدول المارقة..! وقبل الاستطراد في الإجابة عن السؤال التقليدي.. ما العمل..؟ يقتضي إبداء وجهة النظر النقدية حول لماذا لا يقتضي التزام العديد من البلدان العربية التام بالتوجهات التي أطلق عليها برامج الإصلاح الاقتصادي من قِبَل المؤسسات الدولية؟ ولا سيما أنّ مسألة الإصلاح الاقتصادي ليست قاصرة على تلك الحزمة دون غيرها، وأن فشل برامج التنمية الاقتصادية خلال النصف الثاني من القرن الماضي يعود في الأساس إلى عدم إدراك حقائق الواقع الاقتصادي العربي، واعتماد الاجتهادات غير الموضوعية للسياسات الاقتصادية الشمولية في بعض البلدان العربية، وجمود سياسات أخرى في دول عربية ثانية. جدير بالذكر أنّه كي يتسنى إدراك أهمية ما هو مطلوب من السياسات الاقتصادية العربية أن تؤديه، فإنّه يقتضي إزالة المحددات التي تشكل في مجموعها بيئة مقيدة للوصول إلى الأمن الغذائي، وإلا يصبح الجواب عن.. ما العمل..؟ شعاراً مثل العديد من الشعارات التي سطع نورها فترة قصيرة من الزمن، ثمّ أفلت بعيداً عن حقائق الأمور، ومتضمنات الواقع، بسبب عدم موضوعيته وواقعيته بالنسبة إلى متغيرات الاقتصادات العربية. وعليه، تقتضي سيادة الفروض والشروط التي تعمل على تفعيل آليات تحقيق الأمن الغذائي العربي، وفي مقدمة هذه الفروض والشروط الآتي: * لغرض التنسيق باتجاه الأوضاع التكاملية بين الاقتصادات العربية الإقليمية، يقتضي تحديد قدر مرض من التجانس في الفلسفة الاقتصادية الاجتماعية في ما بين البلدان العربية، فسيادة التباين والتعارض بين السياسات الاقتصادية بين مجموعة البلدان العربية التي تعمل على تجسيد دولة الاقتصاد الريعي.. ونشأته، والمجموعة الأخرى من البلدان العربية الساعية نحو "دولة الرفاهية الاجتماعية"، يصعب اعتماد سياسات اقتصادية متجانسة أو متماهية لمعالجة حالات انعدام أو تراجع الأمن الغذائي العربي حالياً أو مستقبلاً. وفي حقيقة الأمر، إن مضمون هذا الاختلافات لا يخرج عن كونه حالة جدلية بين تطلّعات الفئات الوسطى من المجتمع العربي لتأسيس دولة الرفاهية الاجتماعية، وفئات رأسمالية عربية غير منتجة تعمل لتأصيل "الدولة العربية الريعية" وسيادتها بكافة أشكالها الاقتصادية، فضلاً عن اختلاف هاتين المجموعتين من البلدان العربية مع مجموعة ثالثة تسعى إلى "الليبرالية الاقتصادية الجديدة" وفقاً لشروط المنظمات الدولية وإملاءاتها، لا سيما أنّه يصعب إبتعاد الأخيرة عن هذه المسارات للعديد من العوامل، في مقدمتها احتياجاتها للمعونات الغذائية والمنح والقروض الدولية المقدمة لها سنوياً وبصفة دورية. وعليه، فإن تحديد قدر مناسب من التجانس (عدم التعارض) في السياسات الاقتصادية، بحيث تشكل قاعدة للبيئة التي تعمل في ظلها اقتصادات الأمن الغذائي في البلدان المذكورة، يصعّب الوصول إلى صيغ مشتركة للإجراءات التنسيقية والتكاملية على الصعيد الإقليمي أو العربي لإقامة السياسات الساعية إلى أوضاع مرضية من الأمن الغذائي. * يتزامن مع عصر اقتصادات البلدان العربية، الراهن، عالم متغير لا يقتضي العزوف عن فهم متضمنات تغيره. كما يقتضي لتحقيق مستويات مرضية من الأمن الغذائي العربي عدم الاندماج في مكونات هذا العالم الاقتصادية، خارج مفاهيم الاعتماد الاقتصادي المتبادل. وهذا التناقض في مضمونه، يعكس جدلية العلاقة بين "دور السوق" وآلياتها في تنظيم الشأن الاقتصادي من جانب، و"دور الدولة" الشمولي في المساهمة في الشأن المذكور من جانب آخر، فضلاً عن تحديد مساهمة المجتمع المدني في توفير البيئة المناسبة لتنامي أوضاع الأمن الغذائي. وجدير بالذكر أنّ هذه الأدوار مسألة غير ساكنة في فاعليتها الاقتصادية، إنّما هي ديناميكية متغيرة، وتحدد حركتها وفقاً لنمط التنمية والتطور الاقتصادي في الاقتصادات المعنية، وتتحدد أدوارها في ظل تعظيم الناتج المحلي الإجمالي ونمط توزيعه، والتي تقود في صيغتها النهائية إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الحاجات الأساسية (الغذاء). وعلى الرغم من أنّ هذه المتغيرات شأن داخلي، فإنّها ترتبط بالشؤون الخارجية أيضاً، باعتبار أن أصولها الفكرية ذات أيديولوجيات مختلفة تتمحور إحداها في المنظومة الليبرالية الجديدة، وتتمحور الأخرى في الأنماط الأقرب إلى الشمولية. وهكذا فإن عدم وجود قدر من التجانس بين النظامين في المجموعات المختلفة من البلدان العربية، لا يمكّن من اعتماد سياسات اقتصادية واجتماعية متجانسة لتقليص الأضرار التي يمكن أن يحدثها تواضع أو انعدام الأمن الغذائي، والممثلة بالفقر والجوع والبؤس. * يقتضي، لتفعيل المسارات الاقتصادية المشار إليها، إعادة النظر في السياسات الاقتصادية الكلية، ولا سيما النقدية والمالية. وبذلك ينبغي إعادة بنية إنفاق الناتج المحلي الإجمالي، باتجاه القنوات المؤدية إلى تزايد خلق "القيمة المضافة" و"الفائض الاقتصادي"، والعمل على إعادة توزيع قيمة الأخير وفقاً لعدالة مرضية بين العمل ورأس المال، الأمر الذي يتطلب اعتماد سياسة مالية تعمل على إعادة هيكلة الإنفاق العام باتجاه الرفاهية الاجتماعية، والإقلال من المغالاة في الإنفاق على التسلح العسكري وأجهزة حفظ نظام الحكم، وتحفيز الإنفاق الخاص باتجاه قنوات إنتاج السلع الداعمة للحاجات الأساسية، فضلاً عن توجيه الاستثمار العام نحو البنية المساعدة لإنتاج الغذاء، التي تحفز الاستثمار الأجنبي المباشر باتجاه إنتاج السلع المذكورة. * لا تعمل مسارات الإصلاح الاقتصادي، أياً كان مصدرها ومتضمناتها، في بيئة يكتنف مؤشراتها الرئيسية الفساد والتشوهات في المنظومة القيمية الأخلاقية، والاختلالات في أسواق مواردها وناتجها السلعي، والإفراط في منظورها القطري (المحلي). وعليه، فإن اعتماد سياسات تستهدف تحقيق أمن غذائي، يستدعي وضع برامج بعيدة الأمد لإعادة تكوين القدرات الأساسية لأفراد المجتمع، ولا سيما فيما يخص التنمية البشرية والإنسانية، ومكافحة الفساد والاستبداد، والسعي نحو نظام الحكم الصالح في العديد من البلدان العربية، وإشاعة أجواء من الحرية الحقيقية التي تقود إلى ديمقراطية أفراد المجتمع، وليس النخب المجتمعية، الأمر الذي يكوّن في مجمله بيئة تمكن السياسات من أداء مهماتها بفاعلية مرضية في تحقيق أهدافها في مجالات الأمن الغذائي. * يصعب إجراء الإصلاحات الاقتصادية الزراعية بعيداً عن المنظمات الاقتصادية الدولية، ولا سيما أنّه يمكن الاستفادة من نتائج تجارب الدول النامية التي اعتمدت برامج الإصلاح الاقتصادي خلال العقدين الماضيين، فضلاً عن نظيرتها من دول التحول الاقتصادي في هذا المضمار، إذ يمكن استبعاد إملاء متضمنات حزم تلك البرامج التي تأتى عنها تراجع أوضاع الأمن الغذائي، وتزايد حالة الفقر والجوع في بعض البلدان المذكورة، واعتماد الاتجاهات التي أدت إلى خفض هذه الظواهر. ولا يرقى الشك إلى دقة وتناسق النماذج النظرية التي تعتمدها برامج الإصلاح الاقتصادي، التي يتقدم بها خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلا أن تلك الأطر النظرية يقوم بناؤها في ظل فروض بعيدة عن حقائق الواقع المتباين بين قطر وآخر من الأقطار العربية، ولا سيما أنّ البلدان التي اعتمدت الإصلاح الاقتصادي خارج دائرة المنظمات الدولية حققت نتائج أكثر واقعية، مقارنةً بتلك التي اعتمدت برامج المنظمات المذكورة، ولا سيما في مجال النمو وإعادة توزيع الدخل. ويعدّ الإصلاح الاقتصادي في بلد مثل ماليزيا في مقدمة هذه النماذج. إنّ البحث في الفروض والشروط المذكورة مسألة ترتبط بإحداث تغيرات راديكالية في الأوساط المجتمعية، ونمط السياسات المعتمدة في الأمد الطويل، ويتطلب ذلك تفكيك التمركز، سواء في الأطر الشمولية للدولة، أو التنظيمات الرأسمالية العربية غير المنتجة؛ إذ دون ذلك ستخضع معالجات إشكالية الأمن الغذائي إلى الآماد القصيرة، وتعود الإشكالية نفسها بصورة أعمق بعد زوال ممكنات تلك المعالجات. وفي ظل هذه الفروض والشروط الضرورية لبناء منظومة اقتصادية اجتماعية تعمل على تحقيق الأمن الغذائي العربي، فإن هناك مجموعة من الشروط الكافية سيادة هذه المنظومة، يمكن اعتبارها إجراءات تنظيمية في السياق الاقتصادي والاجتماعي، تنحصر بين متضمنات "الاقتصاد الجزئي" و"الاقتصاد الكلي" تتقدمها المتغيرات الآتية[1]: - اعتماد سياسات "الاقتصاد الجزئي" وآلياتها لزيادة القدرة التنافسية في استخدام الموارد في إنتاج الغذاء، ولا سيما النادرة منها من خلال توسيع الأسواق في ظل أوضاع اقتصادية عربية تكاملية. - تطوير استخدام الموارد التكنولوجية، سواء الميكانيكية أو البيولوجية أو الكيميائية، والتوسع في التكنولوجيات الوراثية، من أجل الارتقاء بإنتاجية الوحدات الأرضية إلى مستويات قريبة من نظيرتها الإقليمية أو العالمية. - تنمية مورد العمل الزراعي وتطويره من خلال تنمية القدرات البشرية الزراعية، وتحديث سياسات الأراضي الزراعية، واستصلاح الهامشية منها، والعمل على منع التصحر وانجراف التربة، والحد من الزحف العمراني في العديد من المناطق الزراعية العربية. - اعتماد "سياسات الاقتصاد الكلي" لتحقيق التوازن وإزالة التعارض من أجل الوصول إلى التكامل الاقتصادي بين المنظورين القطري والإقليمي من جانب، الإقليمي والقومي من جانب آخر، وذلك في مجال السياسات النقدية والمالية، واستبعاد جوانب التعارض في مسألة اقتصادات التجارة الخارجية. - الاهتمام بالبنية المؤسسية الزراعية وتطويرها، وزيادة فاعليتها على الصعيد القطري وتناسقها الإقليمي، ولا سيما في ذلك الجانب المرتبط بالتمويل والتسويق الزراعي، باعتبارهما من أدوات التوازن في سوق الأغذية على الصعيد المحلي. - وضع تشريعات زراعية ترتبط بتنظيم استخدام المياه محلياً وبين الدول المتشاطئة، والتشريعات المرتبطة بنمط الملكية الزراعية، واستخدامات الأراضي التجميعية، ولا سيما أن معظم المزارع تتسم بصغر حجمها، وتحكمها تشريعات تقليدية ماضية. - الاهتمام باستراتيجية المخزون الغذائي، وتوزيعه، بحيث تصمم شبكة الخزين وفقاً للعرض المحصولي في الأقاليم العربية، ونمط الطلب عليه خلال فصول السنة، والصدمات التي تعانيها البلدان المنخفضة الدخل، سواء أكانت صدمات نقدية أم صدمات طبيعية (الجفاف). - تقليص ظاهرة الهجرة العربية من الريف إلى المدينة، من خلال خلق الاستقرار في المجتمعات الريفية، وتوفير حوافز العمل الزراعي التي تؤدي إلى تماهي الأجور مع نظيرتها الحضرية، والاهتمام باتجاهات تطوير البنى المرتبطة بمستويات المعيشة في الريف العربي الساعية إلى خفض حوافز الهجرة إلى خارج الأنشطة الزراعية.  - تفرض التحديات في مستقبل الغذاء الاهتمام بمسألة البيئة واستدامتها، لا سيما أن هناك العديد من المزارعين تتصف عملياتهم المزرعية باستنزاف الموارد البيئية، وتبتعد أنشطتهم في الإدارة المزرعية عن المفاهيم الاقتصادية. - تطوير مؤسسات المجتمع المدني في الريف العربي، وذلك للوصول إلى مزيد من الشفافية، والحد من الفساد، ونبذ الاستبعاد والاغتراب لفقراء المجتمع الريفي، والعمل على تزايد مشاركتهم في اتخاذ القرار، وذلك في إطار من الحرية والديمقراطية الحقيقية، لتوفير تكافؤ في الظروف والفرص بعيداً عن الاعتبارات الأيديولوجية وتطرفها. - تفعيل استراتيجيات خفض الفقر في ريف البلدان العربية من خلال الآليات الاقتصادية المؤدية إلى خفض الأهمية النسبية للفقر الريفي وشدته، واستبعاد الحالات المحتملة لظاهرة الجوع، سواء من خلال شبكة الأمان الاجتماعي أو الاستفادة من المخزون الاستراتيجي للغذاء. - تحفيز عمليات التجارة، سواء الداخلية أو الخارجية للسلع الغذائية، لا سيما أنّ الصادرات دالة بالنمو، وتقود هذه العمليات إلى خلق المستويات التنافسية في إنتاج الغذاء، وتعظيم حالة الأمن الغذائي في إطار الميزة النسبية، فضلاً عن أن حالة التجارة الخارجية تعمل على التوسع في توظيف الموارد الاقتصادية الزراعية، وتحسن عوائدها. وأخيراً.. أعتقد أنّه قد تمتّ الإجابة عن التساؤل التقليدي.. ما العمل..؟ وذلك بالعمل من خلال اتجاهين رئيسيين لإصلاح قطاع الغذاء، وتحقيق قدر مرض من الأمن الغذائي العربي. ويعد الإطار الاستراتيجي الذي يحدد البيئة والمناخ الملائم المؤدي إلى أهداف سياسات الغذاء والأمن الغذائي أحد الاتجاهين المذكورين، ويرتبط الاتجاه الآخر بالآليات العامة والخاصة الحاكمة لوسائل تحقيق الأمن المذكور. ولأنّ حالة الوطن العربي الراهنة تعاني تفككاً في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية، وأن معظم بلدان العالم، ولا سيما المتقدمة، سواء البلدان الأوروبية أو الأمريكية وسواها، تتقارب بأساليب شبه اندماجية على الصعيد الإقليمي، فإن أمام الأمة العربية، ممثلة في حاكمية بلدانها القطرية، فرصة تاريخية – وإن جاءت متأخرة – تجاه تحديات العولمة والهيمنة والتفكك، وما يرتبط بهذه التحديات.   الهامش:

[1]- اعتمدت الشروط الكافية على متضمنات استراتيجية الأمن الغذائي العربي للفترة 2005-2025، التي اعتمدتها مجموعة من الخبراء في مجال الاقتصاد الزراعي العربي، والمؤلف واحد منهم (المنظمة العربية للتنمية الزراعية، استراتيجية الأمن العربي 2005-2025 (الخرطوم: المنظمة، 2008)، www.aoad.org.

المصدر: كتاب الأمن الغذائي العربي (مقاربات إلى صناعة الجوع)

ارسال التعليق

Top