• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المواطنة والعدالة السياسية

محمد محفوظ

المواطنة والعدالة السياسية
◄مقدمة: ثمة علاقة عميقة تربط بين مفهوم المواطنة ومفهوم العدالة السياسية في السلطة والمجتمع، حيث أنّ المواطنة تأخذ أبعادها الحقيقية في الفضاء الإجتماعي، حينما تتحقق العدالة السياسية وتزول عوامل التمييز والإقصاء والتهميش. فحينما تتحقق العدالة، يتعمّق مفهوم المواطنة في نفوس وعقول أبناء المجتمع. إمّا إذا غابت العدالة السياسية، وساد الإستبداد السياسي، وبرزت مظاهر الإقصاء والتهميش، فإنّ مقولة المواطنة هنا تكون في جوهرها تمويهاً لهذا الواقع وخداعاً لأبناء الوطن والمجتمع. لذلك فإنّنا نعتقد أنّ المقياس الحقيقي لقياس مستوى المواطنة في النظام السياسي والإجتماعي، هو مقدار وجود متطلِّبات العدالة السياسية في الواقع الإجتماعي والسياسي. لذلك فإنّ الحصول على مواطنة حقيقية ومخلصة، بحاجة إلى عدالة سياسية تستوعب جميع القوى والشرائح والفئات، وتكون من ثوابت النظام ومؤسسة الدولة وحقائق المجتمع والمواطنين. فالطريق إلى المواطنة بكل مقتضياتها ومتطلباتها، هو العدالة بكل مستلزماتها وآفاقها. وإنّ المسؤولية الفكرية والسياسية اليوم، تقتضي العمل على تجلية حقائق المواطنة في سياق بناء حياة وطنية وسياسية تستند في كل خياراتها ومشروعاتها وخططها على العدالة بما تعني من مشاركة ومساواة ومسؤولية وتداول وانفتاح مستديم وتواصل مستمر مع كل مكونات المجتمع وتعبيرات الوطن.   -        في معدالة العدالة: من البديهي القول أنّ العدالة هي روح الإسلام وجوهره، وإنّ مفاهيم الإسلام المتعددة ونظمه التشريعية والقانونية قد ركّزت أهدافها وغاياتها على ضوئها ومن أجلها، وذلك في مختلف الحقول والمجالات. لذلك نجد أنّ الإسلام ينهى عن إتباع الهوى، لأنّه سبيل الظلم والإنحراف. ويقول تبارك وتعالى: (ولا تطع مَن أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطاً) (الكهف/ 26)، كما أنّه نهى نهياً قاطعاً وصرحياً من طاعة الإمام الفاسق والجائر والظالم، إذ يقول عزّ مَن قائل: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهنّ قال إنِّي جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرِّيّتي قال لا ينهال عهدي الظالمين) (البقرة/ 124)،وقال تعالى: (ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) (الشُّعراء/ 151-152). وعليه، فإنّ العدالة هي جوهر الإسلام ومضمون قيمه ومبادئه، وهي الغاية التي يسعى الأنبياء عبر التاريخ إلى إرساء معالمها وحقائقها في المجتمع الإنساني. ولعل من أهم جوانب هذه القيمة الكبرى، هو الجانب السياسي، بحيث يكون السلوك السياسي بكل أبعاده وآلياته منسجماً ومتناغماً مع المنطلقات النظرية التي ينطلق ويؤمن بها الإنسان المسلم في هذه الحياة. والعدالة السياسية في هذا السياق تعني العناصر التالية: 1- إنّ الإختلاف الفكري والسياسي بكل صوره وأشكاله، ليس مدعاة أو سبباً لسلب الحقوق أو نقصانها. وإنّما تبقى حقوق الإنسان مصانة وفق مقتضيات العدالة. فكما أنّ للإنسان حق الإختلاف مع أخيه الإنسان، فله في ذات الوقت حق ممارسة كل حقوقه بعيداً عن السلب أو التمييز. فالعلاقة في الدائرة الوطنية بين مختلف المكونات والتعبيرات، هي علاقة إختلاف ومساواة في آن واحد. فلا يمكن أن نلغي حالة التنوع الموجودة في الفضاء الإجتماعي والسياسي، كما أنّه لا يمكننا صياغة واقعنا العام على أسس التهميش والإقصاء بدعوى التنوع والتباين في الأفكار أو المرجعيات أو القناعات السياسية. وإنّما إعترافنا بهذا التنوع الأصيل الموجود في مجتمعنا، ينبغي أن يقودنا جميعاً إلى بناء نظام سياسي وإجتماعي وثقافي، يعترف بحق الإختلاف والتنوع، ولكنه في ذات الوقت يؤكد على المساواة والمواطنة المتساوية في كل شيء. فالمطلوب دائماً هو وجود المناخ القانوني والسياسي لكي يمارس التنوع بكل أطيافه وتعبيراته دوره في الحياة العامة. وفي المقابل، على قوى التنوع أيضاً أن تبرز خيارها الوحدوي. فالمسألة هي إنّنا مع ممارسة التنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة لدورها في الحياة السياسية والعامة. كما إنّنا نعتقد أنّ وحدتنا وتماسكنا الداخلي مرهون إلى حد بعيد على قدرتنا على إحترام التعددية الفكرية والسياسية الموجودة في فضائنا الإجتماعي والثقافي. و"إنّ الدولة تفرض رؤيتها ومذهبها ولا تترك مساحة للمذاهب الأخرى أن تمارس أفكارها واجتهاداتها وأنشطتها فتضطر هذه الأخيرة أن تعمل بالتقية أو أن تنسحب من الحياة العامة، أنّ دولة كهذه، ليست دولة إسلامية. وأنا في هذه المناسبة أطرح على المؤرخين والمفكرين والفقهاء أن تدرس سمات الدولة السلطانية ويرى كم فيها من الإسلامية وكم هي فاقدة للشرعية الإسلامية بالمعنى الكلامي وبالمعنى الفقهي"[1]. 2- إنّ مؤسسة الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها ومناصبها، ينبغي أن تكون محايدة تجاه عقائد مواطنيها، بحيث لا تكون مؤسسة الدولة قامعة لعقائد مواطنيها سواء بدوافع دينية أو سياسية. فالعدالة السياسية تقتضي أن لا تتحول مؤسسات الدولة إلى ممارسة الحيف والظلم والتهميش والتمييز تجاه بعض المواطنين تحت تأثير الدوافع الدينية او السياسية. فالدولة ليس مهمتها تغيير قناعات وعقائد مواطنيها، وإنّما حماية أمنهم وتسيير شؤونهم الكبرى. وفي مقابل هذا، من الضروري أن لا تكون مناصب الدولة وامتيازاتها خاصة لفئة أو شريحة إجتماعية فقط، وإنّما من الضروري أن تكون مفتوحة لكل الكفاءات والطاقات الوطنية بصرف النظر عن أُصولهم الدينية والمذهبية أو منابتهم القبلية والقومية. فهي دولة الجميع، ولابدّ أن تكون إمتيازاتها ومكاسبها أيضاً للجميع. وعليه، فإنّ العدالة السياسية تقتضي أن تكون علاقة الدولة بمواطنيها على مختلف الصعد علاقة مباشرة وبدون واسطة مناطقية أو مذهبية أو قبلية. فلكل مواطن الحق في أن يتحمّل مسؤولية أي منصب في الدولة. كما أنّ مشروعات الدولة التنموية والخدمية ينبغي أن تستوعب كل المناطق والشرائح الإجتماعية. فالتحيز المذهبي أو السياسي من قبل مؤسسات الدولة، لا ينسجم ومقتضيات العدالة السياسية. لذلك، فإنّ المطلوب أن تكون الدولة محايدة تجاه عقائد وقناعات مواطنيها الدينية والسياسية. والمحايدة هنا تعني: أن لا تتحول عقائد المواطنين إلى مبرر للتمييز الإيجابي أو السلبي. فكل المذاهب والعقائد التي يؤمن بها المواطنون، لابدّ أن تكون محل الرعاية والإحترام من قبل مؤسسات الدولة. وهذا جزء أصيل من مطالبتها، بضرورة أن تحترم الدولة مواطنيها على مختلف الصعد والمستويات. ولعلنا لا نبالغ حين نقول: إنّ العديد من أزماتنا السياسية والثقافية والإجتماعية الداخلية، هي من جراء إنحياز الدولة إلى فئة إجتماعية أو مذهبية معيّنة على حساب بقية الفئات والمذاهب الموجودة في الوطن. وذلك لأنّ هذا الإنحياز، هو الذي يقود إلى ممارسة التمييز أو التهميش ضدّ الفئات والمذاهب الأخرى، مما يوتِّر الأجواء ويفاقم من الإحن والأحقاد الداخلية. ويحوِّل الدولة من مؤسسة جامعة وراعية للجميع إلى مؤسسة منحازة وتمارس التمييز في قراراتها وخططها ومشروعاتها ضد فئات وشرائح وطنية. من هنا، فإنّنا نعتقد أنّ العدالة السياسية، تقتضي أن تكون علاقة الدولة بمواطنيها علاقة عادلة ومباشرة وبعيدة عن الإنحياز لفئة على حساب أخرى، أو لمنطقة على حساب المناطق الأخرى. إنّ العدالة السياسية لا يمكن أن تتحقق متطلباتها ومقتضياتها، دون العلاقة العادلة والمتساوية بين مؤسسة الدولة بكل هكياكلها، مع مواطنيها بصرف النظر عن أُصولهم العرقية أو منابتهم الأيديولوجية والمذهبية. فهي دولة الجميع، وينبغي أن يكون سلوكها السياسي والإداري والإقتصادي منسجماً وهذه الحقيقة. 3- إنّ العلاقة جد عميقة بين مفهوم العدالة السياسية وحقائق تكافؤ الفرص في الفضاء الإجتماعي والوطني، إذ أنّه لا يمكن بأيّة حال من الأحوال إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الإجتماعي دون إرساء معالم وحقائق تكافؤ الفرص. فتكافؤ الفرص في الإطار الوطني، هو أحد البوابات الرئيسة لإنجاز مفهموم العدالة والمساواة. وتكافؤ الفرص هنا ليس شعاراً يرفع أو إدعاءً يدعي، وإنّما هو عبارة عن إرادة سياسية وإستراتيجية وطنية تتجه بصدق نحو إزالة كل المعوقات والعوامل التي تميز بين المواطنين، وتمنح البعض لدواعي مختلفة جملة من الإمتيازات والمناصب. وبكلمة، فإنّ تكافؤ الفرص في السياق الوطني يعني: ·       إزالة كل القرارات والإجراءات التي تمنع بعض المواطنين لإعتبارات فكرية أو سياسية أو مذهبية أو مناطقية من مزاولة العمل أو تحمل المسؤولية في بعض الحقول والميادين. فتكافؤ الفرص يقتضي إزالة كل الإجراءات والخطوات، التي تؤسِّس لحالة التمييز والتهميش لبعض المواطنين لإعتبارات لا تنسجم وحقائق المواطنة المتساوية. ·       إنّ الإهتمام بالمشاريع الخدمية والتنموية في الإطار الوطني، لابدّ أن يتم بالتساوي وبعيداً عن حالات التمييز لبعض المناطق أو الشرائح الإجتماعية. إنّ التنمية المتساوية هي أحد تجليات تكافؤ الفرص. فلا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يتم الإعتناء الإقتصادي والخدمي والتنموي ببعض المناطق، وإهمال لمناطق أخرى. فكل المناطق والمجتمعات على حد سواء في الإهتمام والرعاية الخدمية والتنموية وتطوير بنيتها التحتية. ·       إنّ المسؤوليات الموطنية في مختلف الميادين والحقول، ينبغي أن لا تكون حكراً على فئة أو منطقة أو شريحة. وإنّما ومن مقتضيات العدالة السياسية أن تشترك كل طاقات وكفاءات الوطن في تحمّل المسؤولية وإدارة الشأن العام بعيداً عن التحيز أو إحتكار المناصب والمسؤوليات. وعليه، فإنّه لا يمكن تحقيق العدالة السياسية في الفضاء الوطني، بعيداً عن قيمة تكافؤ الفرص والإلتزام بكل المقتضيات والآفاق التي تبلورها هذه القيمة سواء على الصعيد السياسي أو الإجتماعي. وخلاصة الأمر: انّ تكافؤ الفرص ومقتضيات العدالة السياسية، تدفعاننا إلى القول أنّ توسيع القاعدة الإجتماعية للسلطة، من ضرورات الإستقرار ومقتضيات العدالة والمساواة. 4- إنّ الفضاء السياسي والثقافي والإعلامي الوطني، ليس ملكاً لفكر أو طائفة أو شريحة، وإنّما من الأهميّة أن يستوعب كل التنوعات والتعبيرات الموجودة في الوطن والمجتمع. وأيّة محاولة لإحتكار هذا الفضاء بكل مستوياته لصالح فئة مذهبية أو إجتماعية أو مناطقية، هي محاولة تساهم في إذكاء التوترات الداخلية، ولا تنسجم بأي شكل من الأشكال مع مقتضيات العدالة السياسية. فالإعلام الوطني بكل مؤسساتته ومنابره، لابدّ أن يكون مفتوحاً لكل القوى والتعبيرات الوطنية، كما أنّ الفضاء الثقافي والسياسي، لا يمكن أن يتشكّل على نحو حقيقي دون مشاركة جميع الأطراف والتعبيرات. لهذا كلّه، فإنّنا نعتقد أنّ ضرورات المواطنة المتساوية ومقتضيات العدالة السياسية، تدفعاننا إلى بيان أنّ الفضاء السياسي والثقافي والإعلامي الوطني، لابدّ أن يكون مفتوحاً لكل تنوعات الوطن، بحيث تشترك جميع هذه التنوعات في إثراءه وتنميته بعيداً عن العقلية الأحادية والإحتكارية، التي تعمل على إحتكار هذه الفضاءات لصالح فكر أو رؤية هي جزء من الوطن وليست كل الوطن. ولا شك أنّ إحتضان الفضاء السياسي والثقافي والإعلامي الوطني لكل تنوعات الوطن يقتضي الآتي: ·       فسح المجال للإنتاج الثقافي والأدبي والإبداعي الذي يقوم به أبناء الوطن بصرف النظر عن منابتهم الأيدلوجية والمذهبية والفكرية، لكي يأخذ دوره الطبيعي في تشكيل الرأي العام الوطني. ·       أن تقوم مؤسسات الإعلام والثقافة الوطنية بكل مستوياتها ومنابرها، بإستيعاب كل طاقات الوطن وكفاءاته بدون محاباة أو تمييز وتهميش. ·       فتح الحياة السياسية الوطنية لكل إمكانات الوطن البشرية والفكرية والسياسية، لكي تشارك في بناء الوطن وتعزيز وحدته وتمتين جبهته الداخلية. ·       إتاحة الفرصة الحقيقية للمرأة، للمشاركة بشكل نوعي في مشروعات التنمية وإدارة الشؤون العامة في المجتمع والدولة، إذ لا يمكن أن يتحقق مفهوم تكافؤ الفرص في الواقع الوطني، دون فسح المجال النوعي للمرأة لكي تساهم في مشروعات التنمية والتطور والتقدم. والعدالة السياسية لا يمكن أن تنجز بعيداً عن مساهمة المرأة في الحياة العامة للمجتمع.   -        العدالة وحقوق الإنسان: لا يمكن أن يغادر العنف مجتمعنا وواقعنا السياسي، دون إرساء معالم وحقوق الإنسان في فضائنا الإجتماعي والوطني. فحينما تسود في مجتمعنا قيم حقوق الإنسان، تتراجع كل موجبات وعوامل العنف السياسي. لذلك، فإنّ ظاهرة العنف السياسي، لا يمكن مواجهتها فقط بالوسائل الأمنية، لأن هذه الوسائل بوحدها ومن خلال تجارب الكثير من الشعوب والمجتمعات، هي التي تفاقم من الأزمات، وتزيد من حدّة التوترات. من هنا، فإنّ معالجة ظاهرة العنف بحاجة إلى رؤية سياسية – مجتمعية مركبة، قوامها صيانة حقوق الإنسان، وتعميم ثقافة العفو والتسامح والبرّ والقسط والحوار وحق التعبير والإختلاف، وإطلاق مشروع سياسي وطني، يتجاوز مآزق الراهن، ويجيب على تحدّيات المرحلة. وعليه، فإنّ إنهاء مسلسل العنف من مجتمعنا، يتطلّب العمل على بناء حياة سياسية وثقافية جديدة، تستند في مشروعاتها وإجراءاتها على قيم العدالة والبرّ والتسامح وحقوق الإنسان. فالعلاقة جد عميقة بين مبدأ العدالة ومفهوم حقوق الإنسان، حيث أنّ العدالة بكل ما تحتضن من قيم ومتطلِّبات، هي الحاضن الأكبر لمشروع حقوق الإنسان. ولا يمكن أن توجد حقائق حقوق الإنسان، دون العدالة السياسية في المجتمع، فهي بوابة نيل الحقوق وصيانة كرامة الإنسان. لذلك جاء في الحديث الشريف أنّ "العدل حياة الأحكام"، إذ لا حياة لأحكام وقيم الدين إلا بحياة أهدافه وغاياته، لذلك جاء في الحديث: "إنّ الناس يستغنون إذا عُدل بينهم"[2]. ويقول المرحوم الشيخ مرتضى مطهري في هذا الصدد: "إنّ أحد أسباب تخلُّف الأديان، من وجهة نظر علم النفس الديني، هو إنتقال القائمين على الدين نوعاً من التناقض بين الدين والحاجات الطبيعية، وخاصة عندما تتبلور تلك الحاجات في أوساط الرأي العام. بينما الحقيقة أنّ الإيمان بالله يقوم على ثقافة العدل والحقوق الذاتية للناس، ولا يمكن إقرار الحقوق الذاتية والعدالة الواقعية إلا مع الإيمان بالله تعالى، بعيداً عن الفرضيات والإتفاقات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنّ الإيمان بالله أفضل ضامن لتنفيذها"[3]. ويضيف الشهيد مطهري في هذا الصدد في كتاب آخر بقوله: "لو يتابع السبيل الذي فتحته (العدلية) ويحصل الإهتمام بأسس الحقوق الإسلامية، ستغدو الكثير من الآيات التي لا تعتبر الآن من آيات الأحكام، آيات أحكام. إن التنكُّر لأصل العدل، وتأثير هذا التنكُّر على الأفكار، حال دومن تطور الفلسفة الإجتماعية للإسلام وارتكازها على قواعد عقلية وعملية متينة ومشاركتها في الفقه كدليل وموجه. والنتجية هي ظهور فقه غير متلائم مع سائر الأُصول الإسلامية، بعيد عن مبادئ وأسس الفلسفة الإجتماعية للإسلام"[4]. لذلك، من الضروري أن نعتني بخلق الوعي الحقوقي، القادر على رفض وفضح كل الإنتهاكات التي يتعرّض إليها الإنسان في مجتمعنا. إذ أنّ الخطوة الأُولى في مشروع صيانة حقوق الإنسان، هي الوعي بهذه الحقوق، ورفض كل المحاولات التي تتجه إلى إنتهاك حق من حقوق الإنسان الأساسية. ولابدّ أن يدرك الجميع في الإطار الوطني، أنّ إنتهاك حقوق الإنسان، لا يفضي إلى الإستقرار السياسي والإجتماعي، وأنّ قيم الدين العليا لا يمكن أن تشرع للعسف والإكراه وإنتقاص حقوق الإنسان. لذلك من المهم أن نرفع الغطاء الديني والسياسي والإجتماعي، عن كل تلك الممارسات والأفعال التي تنتقص من كرامة الإنسان وحقوقه، ونتعامل معها (بصرف النظر عن القائم بها)، بوصفها ممارسات تناقض بشكل صريح قيم الإسلام ومبادئه الأساسية، ولا تنسجم ومتطلبات الأمن والإستقرار السياسي والإجتماعي. و"إنّ إتفاقاً يضمن الحقوق الأساسية، بما فيها حقوق الأقليات، هو أضمن سبيل لإزالة مخاوف كل الجماعات، ولدفع كل الحركات – أقصد الحركات التي لا تهدف حصراً إلى السيطرة على الآخرين وتأبيد الديكتاتورية – إلى الإتحاد في قضية الديمقراطية، وهكذا فقط يمكننا أن نكسر الحلقة المفرغة، حلقة القمع والتمرُّد"[5]. ولا يمكن إقصاء العنف السياسي من المجتمع بالمزيد من القمع وإنتهاك حقوق الإنسان، لأن هذه الممارسات تزيد من فرص العنف، وتهيئ المناخ الملائم لبروز نزعات التطرُّف بكل مستوياتها وأشكالها. لهذا، فإنّنا نتمكّن من وأد ظاهرة العنف من واقعنا، بالمزيد من الإصلاحات السياسية والأنظمة والإجراءات التي تصون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية. وهذا يتطلّب منّا أن نولي أهميّة خاصة، إلى العمل الثقافي المتواصل، الذي يعزز حقوق الإنسان إجتماعياً وسياسياً، ويعيد تأهيل تصورات المجتمع تجاه حقوق الإنسان الجوهرية. فالإنسان أو المجتمع الذي يتعرّض إلى إعتداءات على حقوقه ومكتسباته ومنجزاته الحقوقية، لا يمكن أن يدافع عن حاضره الذي هو أحد ضحاياه. لذلك، فإنّ إنتهاك حقوق الإنسان لا يفضي إلى الأمن والإستقرار، بل إلى المزيد من التوترات والإضطرابات. من هنا، فإنّ التطلُّع إلى الأمن والإستقرار، يقتضي بذل الجهود الحقيقية للحفاظ على حقوق الإنسان وصيانة كرامته، لأنّ الإنسان القابض على حقوقه، والممارسة لحرِّيّته، هو القادر على الدفاع عن المكتسبات. فإذا أردنا الأمن، فلتتوجه كل الجهود والمشروعات إلى تنمية الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته. فتنمية الإنسان هو سبيلنا الحضاري لإنجاز الأمن الإجتماعي والإستقرار السياسي. ولا يمكن بأيّة حال من الأحوال، أن يكون إنتهاك الحقوق، هو طريق الأمن والإستقرار، بل هو طريق الأزمات المتلاحقة والحروب المفتوحة على كل الأشكال والإحتمالات. لذلك، فإنّ الإستقرار السياسي اليوم، يقتضي العمل على خلق الشروط الأساسية من أجل حياة سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية والحرِّيّات السياسية وحقوق الإنسان. والعدالة السياسية طريقها الدائم، هو تكريس قيم وحقائق المواطنة في الفضاء السياسي والإجتماعي. فالظلم بكل مستوياته وأشكاله، لا يحقق مواطنة متساوية، بل يساهم في تدمير المنجزات وإضاعة المكاسب. وممارسة القوة العارية ضد قوى المجتمع وتعبيراته السياسية والثقافية، لا يصنع إستقراراً ولا يخلق أمناً، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث أنّ ممارسة القوة العارية، تزيد من تناقضات المجتمع، وتسرع من وتيرة المواجهة بين مختلف المكونات والتعبيرات. وتعلمنا تجارب الأُمم والشعوب المختلفة، على أنّ الأمن بمعناه الحقيقي، هو نتاج شرعي للديمقراطية وسيادة القانون وصيانة حقوق الإنسان. وإنّ النظام السياسي الذي اختار القهر والعنف والقتل والتعذيب ومنع الناس من ممارسة حقوقهم السياسية والثقافية كخيار لإنجاز إستقراره السياسي وتحقيق أمنه الشامل، لم يجن إلا المزيد من التوترات والإضطرابات، بل لا نبالغ حين نقول: أنّ هذا الخيار عجّل في إنهيار الكثير من الأنظمة السياسية في العديد من مناطق وقارات العالم. صحيح أنّ التحول الديمقراطي في مجتمعنا، تكتنفه العديد من الصعوبات والتحديات والهواجس، ولكننا نعتقد وبعمق أنّ هذا الخيار هو أسلم الخيارات وأقلها خسائر وتداعيات خطيرة. وإذا تمعّنا ودرسنا شهادات واعترافات أهل التطرُّف والعنف، نجد أنّ القمع والإعتقال التعسُّفي وممارسة التعذيب في السجون بحقّهم، هو أحد الأسباب الذي قادهم إلى تبني خيار العنف. فملء السجون بالمعتقلين السياسيين، لا ينهي الأزمة الوطنية، ولا يعالج التحدِّيات الداخلية التي تواجه الوطن، بل تعلمنا التجارب، على أنّ التعسُّف في الإعتقال والتعذيب، والإسراف في ممارسة الخيار الأمني، هو الذي يعزز خيار العنف والتطرُّف في المجتمعات. وإنّ الأمن الحقيقي بحاجة إلى رؤية جديدة ومعالجة حضارية، تتجاوز تلك الرؤى والمعالجات التي تفاقم من الأزمات، وتوفر لها أسباب جديدة للتجذُّر والتمدُّد والإنتشار. من هنا، لابدّ من القول: أنّ المحن والتحديات السياسية والأمنية، بحاجة إلى معالجة جذرية، تزيل كل الأسباب والعوامل المفضية إلى هذه المحن. ولن نجد ومن خلال تجارب العديد من الأُمم والشعوب، أفضل من خيار المعالجة الحضارية لعلاج أزمات واقعنا وتحدياته، القائم على سيادة القانون وفسح المجال القانوني والسياسي لجميع قوى المجتمع للمشاركة في الحياة العامة، وتأسيس حياة سياسية وثقافية جديدة قوامها الديمقراطية والمواطنة المدنية المتساوية وصيانة حقوق الإنسان. وبكلمة واحدة: فإنّ العدالة بكل مخزونها الرمزي والمعرفي، ومضمونها السياسي والإجتماعي، هي سبيلنا لتجاوز محن الغلو والعنف والإرهاب.    الهوامش:
[1] - مجلة منبر الحوار/ العدد 34/ ص17/ السنة التاسعة/ خريف 1994م. [2] - الشيخ محمد يعقوب الكليني/ أصول الكافي/ ج3/ ص568/ دار التعارف/ لبنان/ 1990م. [3] - الشيخ مرتضى مطهري/ جولة في رحاب نهج البلاغة/ ص124/ دار التعارف للمطبوعات/ الطبعة الثالثة/ 1980م. [4] - مجلة قضايا إسلامية معاصرة/ العددان التاسع والعاشر/ ص189/ 1421هـ - 2000م.

[5] - ندوة الإسلام والعدالة.. مناقشة مستقبل حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا/ ص44/ سلسلة غرب وشرق/ فصلت للدراسات والترجمة والنشر/ ترجمة راتب شعبو/ الطبعة الأولى/ 2000م.

المصدر: كتاب (الحرِّيّات والإصلاح في العالم العربي)

ارسال التعليق

Top