• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحجّة والبرهان في عملية الصراع الفكري

العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله

الحجّة والبرهان في عملية الصراع الفكري

في القرآن الكريم، حديث متنوّع عن أساس المسؤولية التي يحمّلها الله لخلقه، وعن مسؤولية الإنسان أمام ربّه، وعن الحجّة التي يقيمها الله على العباد ليكونوا مسؤولين أمامه، وعن الحجّة التي بيد العباد أمام ربّهم في حجم المسؤولية، وفي حركة الناس مع بعضهم البعض عندما يختلفون في أفكارهم ومواقفهم، فيثبت شخص شيئاً، وينفي شخص شيئاً آخر.

عنوانا البرهان والحجّة

فما هو الأساس الذي ينبغي أن يحكم به الناس في عملية الصراع الفكري؟ إنّ القرآن الكريم يلخّص لنا ذلك كلّه، وخلاصة الفكرة قبل أن ندخل إلى تفاصيلها في آيات الله سبحانه وتعالى، هي أنّ هناك عنوانين في القرآن الكريم يلتقيان في المعنى، وإن كانا يختلفان في إيحائه، وهما البرهان والحجّة.. فالبرهان هو الدليل الذي يقيمه الإنسان كأساس لفكرته في مواجهة الآخر، أو كأساس لنقض ما يدّعيه الآخر، فلابدّ لك عندما تثبت دعوى في أيّ جانب من جوانب الفكر، أن تملك الدليل، ودليلك هو حجّتك على السلب هنا والإيجاب هناك.

أمّا كلمة الحجّة، فهي التي تعطي بحسب مدلولها ما يُحتجّ به على الشيء وعلى الآخر، ومن الطبيعي أن يكون الدليل أو الحجّة التي يمكن أن تفتح للإنسان نوافذ الفكرة من أقرب وأقصى موقع، ناجمة عن علاقتنا مع الله سبحانه وتعالى.

الحجّة البالغة

إنّ الله سبحانه يتحدّث في القرآن الكريم بأنّه يملك الحجّة البالغة على خلقه (فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام/ 149)، فهو الذي يملك الحجّة على خلقه، وليس لخلقه أية حجّة فيما يفعلون أو يتركون، وفيما يكفرون أو يضلّون، بحيث إذا وقف الناس أمام الله غداً، فلا يملك أحد أن يحتجّ على الله بشيء، بل الله هو الذي يحتجّ عليهم، لأنّه هو الذي يملك الأساس في كلّ ما أراد لهم أن يعتقدوه أو يمارسوه.

وقد استوحى الإمام عليّ (ع) ذلك في «دعاء كميل» فيما رواه كميل عنه: «فلك الحجّة عليَّ في جميع ذلك، ولا حجّة لي فيما جرى عليَّ قضاؤك، وألزمني فيه حكمك وبلاؤك». فالإنسان سوف يقف غداً بين يدي الله سبحانه وتعالى، فيجد أنّ الحجّة من الله عليه بالغة محكمة.

وهنا، لابدّ أن نفهم كيف تكون الحجّة لله بالغة، ففي حديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) يقول: «إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال نعم، قال: أفلا عملت بما علمت، وإن قال كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلَّمت حتى تعمل، فيخصمه».

وتلك هي الحجّة البالغة، وذلك أنّ الإنسان قد يواجه الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى وهو كافر أو وهو عاصٍ، فإذا واجهه وهو كافر بوجوده، كافر بتوحيده، فإنّ الله يكون قد أقام عليه الحجّة من خلال فطرته التي توحي إليه بالإيمان بالله، وبعقله الذي يثبت له الدليل على توحيده. ولذلك، فإنّ الله يملك الحجّة على الإنسان في مسألة الإيمان والكفر، لأنّ الكفر لا يملك أيّ دليل لأنّه نفي، فأن تكفر بالله، يعني أن تنفي وجوده، وأن تكفر بالله، يعني أن تنفي توحيده، وهل يملك إنسان أن ينفي وجود الله وهو جالس في دائرة محدودة؟ فهل اطّلع الإنسان على الكون كلّه في غيبه وفي محسوساته لينكر وجود الله؟ بل إنّ الإنسان لا يملك أساس الشكّ، لأنّ الشكّ إنّما يكون مقبولاً إذا لم يكن لك دليل على الإثبات، ومادام الدليل على الله سبحانه وتعالى في كلّ ما خلق، وفي كلِّ مَن خلق، بحيث إنّ الإنسان إذا نظر إلى نفسه وإلى تركيبة جسمه وتركيبة عقله، وعرف عظمة هذا الخلق، فإنّه يرى أنّ الله سبحانه وتعالى يشرق في وجوده، ليشعر الإنسان بأنّ الله معه في كلّ نَفس يتنفّسه، وفي كلّ عضو من أعضائه، وجهاز من أجهزته.. فالإنسان في مسالة الإيمان والكفر لا يملك الحجّة على الكفر، بل الحجّة هي للإيمان ولكلّ ما ينفتح فيه الإنسان في معقولاته وفي محسوساته.

الإيمان باليوم الآخر

وهكذا عندما ينفتح الإنسان على مسألة الإيمان باليوم الآخر، فإنّ العقل يقول له إنّ الذي أوجد الكون قادر على إعادته، وإنّ الذي خلق الإنسان قادر على إعادته، لأنّ القدرة هنا في منطق العقل تفرض القدرة هناك، لأنّ عملية الإعادة أسهل من عملية الإبداع.

لقد أرسل الله سبحانه وتعالى نبيّه، ومن قبله أنبياءه ورُسُله الآخرين بالحجج البالغة التي تثبت رسالتهم وصدقهم من خلال ما يطرحونه فيما يتعقل، ومن خلال ما يقدّمونه من معاجز تدلّ دلالة قطعية واضحة على أنّ لهم علاقة بالله سبحانه وتعالى.

ولذلك، فلا مجال للإنسان أن يجيب وهو ينكر بعض العقائد، مادامت وسائل المعرفة مطروحة بين يديه، لأنّ الله أعطى الإنسان وسائل المعرفة للمحسوسات (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 8-10)، فلقد جعل الله للإنسان عقلاً يفكّر به، ويجمع بين المحسوسات ليحوّلها إلى معقولة.

حجّة العقل

وعلى ضوء هذا أيضاً، يمكن للإنسان أن يجد له حجّة في بعض ما لا يؤمن من خلال عدم توفّر وسائل المعرفة لديه، كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان الذي يعيش في مجاهل الغابات، كما في مجاهل البرازيل وأستراليا وكندا، وفي المناطق التي لم تصلها الدعوة، وبحيث لا يعرف الناس من أمر اختلاف الناس في الأديان شيئاً، وحتى في الأديان نفسها، فهؤلاء لا يملكون أية وسيلة للتعرُّف إلى القاعدة، كما لا يملكون أية وسيلة للتعرُّف إلى تفاصيل الإيمان.

هنا، في مثل هذه الحالة، يحتجّ الله عليهم بما آتاهم وعرَّفهم، يحتجّ عليهم من خلال ما أعطاهم من مقدار العقل، ومن خلال ما أعطاهم من طبيعة الفطرة، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء/ 15). والمراد من الرسول هنا كناية عن بعث الحجّة، أي من تقديم الحجّة على الناس التي يمكن لله أن يخاطبهم فيها، وهم لم يؤمنوا بالإسلام أو بأيّ دين آخر، فعندما يقفون بين يدي الله غداً، فإنّه سبحانه وتعالى يبدأ بحسابهم، فيقول لهم: لمَ لمْ تؤمنوا بالنبيّ وبالقرآن وباليوم الآخر وما إلى ذلك؟ فإنّهم سوف يجيبون الله: بأنّه لم يصلنا شيء من ذلك، ولم تستطع عقولنا من خلال طبيعة تفاصيل المعرفة، أن تدرك ذلك، ومن الطبيعي أنّهم يجدون العذر عند الله في ذلك، لأنّ الحجّة قامت بقدر ما كان لديهم من فطرة ـ وربّما تكون الفطرة ساذجة أو محدودة ـ ومن حجم ما يملكون من عقل.

إضاءات قرآنية

لنقرأ ما يتصل بهذه الفكرة، يقول تعالى: (قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) (الأنعام/ 149)، ويقول سبحانه: (كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (المجادلة/ 21)، فالمراد بالغلبة ليس المادّية، والله العالم، بل المراد من الغلبة الحجّة.

وقد ورد عن الإمام عليّ (ع) في استيحاء هذه الآية: «قوّة سلطان الحجّة أعظم من قوّة سلطان القدرة»، وقد ورد أيضاً في قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النِّساء/ 165)، أي أنّ الله أراد أن يضمّ إلى عقل الإنسان الرُّسُل الذين أرسلهم برسالته، ليساعدوهم على استقامة خطّ العقل من جهة، وعلى تعريفهم بما لا يملكون الوصول إليه من تفاصيل العقيدة ومن مواقع الغيب من جهة أُخرى، فلا يكون للناس حجّة على الله بعد الرُّسُل.

وفي كلمة للإمام عليّ (ع) يستوحى فيها ذلك: «يا أيّها الناس، إنّه لم يكن لله سبحانه حجّة في الأرض أوكد من نبيّنا محمّد (ص)، ولا حكمة أبلغ من كتابه».. فكتاب الله هو الحجّة، فيما يقدّمه من حِكم تدخل إلى عقل الإنسان وتتعمق فيه، والرسول أيضاً يمثِّل الحجة في ذلك، وفي غياب الرسول، وفي غياب الإمام، ورد عندنا في الحديث المروي عن الحجّة (ع): «وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رُواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله». فإذا غابت الحجّة، فأحاديث الحجّة هي الحجّة، لأنّهم بيّنوا لنا كلّ ما نحتاج إليه ممّا يحلّ لنا المشكلات بشكل مباشر، وممّا يفتح لنا نوافذ التفكير بشكل غير مباشر، ومن الطبيعي أن يكون رُواة الحديث الموثوقين آلية الحجّة فيما يروونه وفيما يشرحونه في هذا أو ذاك.

ما يحتجّ الله به

وهنا ننتقل إلى مسالة احتجاج الله على الناس بما آتاهم وعرفهم، فهذا حديث عن الإمام الصادق (ع) يقول فيه: «إنّ الله احتجّ على الناس بما آتاهم وعرّفهم». وهكذا نجد أنّ الله يريد للناس فيما قامت الحجّة عليهم به أن يعتقدوا ذلك، وأمّا ما لم يعلموه، فعليهم أن يقفوا عنده، فعن «زرارة» قال: سألت أبا جعفر محمّد الباقر (ع): ما حقّ الله على العباد؟ قال: «أن يقولوا ما يعلمون، ويقفوا عند ما لا يعلمون».

وهكذا، يعبّر سبحانه وتعالى عمّا أنزله على الناس من خلال أنبيائه أيضاً بالبرهان: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا) (النِّساء/ 174)، باعتبار أنّ ما قدّمه الله للناس من خلال رسله، يمثِّل الدليل والحجّة القاطعة على ما أراد الله للناس أن يؤمنوا به أو أن يعملوا به في كلّ المجالات.

وهكذا، يقول الله: (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ)، وهذا يعني أنّ الإنسان عندما ينكر شيئاً، أو يثبت شيئاً، لابدّ له من أن يقدِّم البرهان والدليل (أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل/ 64)، (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ) (المؤمنون/ 117)، (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 111)، (وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (القصص/ 75).

إنّنا نستوحي من هذا الشعار القرآني الذي يطلقه الله سبحانه وتعالى في موقع التحدّي للذين يشركون به، أو الذين ينحرفون عن خطّه، أنّه يقول لهم إنّكم تدّعون، ولابدّ لكلّ مَن يدّعي إذا أراد للناس أن يؤمنوا بما ادّعاه، أو إذا أراد لنفسه العذر أمام المسؤول الأكبر فيما ادّعاه، أن يقدّم البرهان عليه، لأنّه ليس من الطبيعي أن تقدّم دعوى في العقيدة أو دعوى في الشريعة أو في حركة الواقع ليؤمن الناس بها، من دون أن تقدّم لهم الدليل على ذلك، أو ليعمل الناس بها من دون أن تقدّم الحجّة على ذلك.

الفاصل في الصراع الفكري

إذاً، فهذا هو شعار حركة الصراع الفكري في حركة الإنسان في الواقع، ويمكن لنا أن نتحرّك به لترتكز كل قضايانا ـ العقيدية والشرعية والسياسية والاجتماعية والثقافية ـ على قاعدة ثابتة، لأنّنا لو تركنا أنفُسنا في هذه الفوضى من الأفكار والدعاوى والشعارات والاتهامات، ولو تركناها في كلمة تطلق هنا دون دليل، وكلمة تطلق من هناك دون برهان، فإنّ الحياة الفكرية تتحوّل إلى فوضى ليس لها أيّة قاعدة ثابتة تركزها في وجدان الإنسان وفي حركة الواقع.

أمّا إذا انطلقنا في صراعاتنا الفكرية، سواء كانت حول العقائد أو الاتجاهات المتضادّة أو المواقف السياسية المتباينة التي يدّعي فريق أنّ الحقّ هنا وفريق آخر أنّ الحقّ هناك، لو أنّنا جلسنا على طاولة مستديرة أو مستطيلة يجلس العِلم فوقها، ليقول لكلِّ منّا ونحن نختلف: ما هو دليلك؟ وما هو برهانك؟ وما هي حجّتك؟ فيقدّم كلّ منّا البرهان والدليل للآخر، ويناقشه على أساس ما يقدّمه من برهان مضادّ ودليل مضادّ، لو أنّنا حكّمنا هذه العقلانية العلمية في حركة الصراع والاختلاف الفكري، لما وصلنا إلى هذه التعقيدات الثقافية والاجتماعية، ولما وصلنا إلى هذه الحالة من العصبية، لأنّ أساس العصبية سواء كانت عصبية دينية أو مذهبية أو سياسية أو اجتماعية، هو الجهل؛ الجهل بعقيدتك وفكرك والتزامك، بحيث تحاول أن تفرضها كيفما كان، وبأية طريقة، وبنحو يسيء إليها حتى لو كانت حقّة، فالجهل، إذاً، هو الذي يدعوك للتعصّب ويفرضه عليك، لأنّك لا تملك الدليل على ما تؤمن به.

وفي المقابل، إذا كان لك فكر وأنت تعرف أنّ فكرك لم يخلق معك، وأنّ انتماءك ليس عينك ولا أذنك، بل هو شيء ورثته أو اكتسبته، وأنّك إذا ورثت شيئاً أن لا يكون الإرث وحده هو الأساس فيما تلتزم طريقه (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف/ 23)، بل أن تحاول البحث عن أساس الدليل والبرهان في الفكر الذي ورثته؛ هل هو حقّ أم هو باطل، فيكون الدليل والحجّة والبرهان هو الحكم وهو المعيار.

وهكذا الحال إذا اكتسبت فكراً واعتقدت به، لأنّك فكّرت وتعلّمت وحاورت، فعليك أن لا تعتبر ما وصلت إليه من فكرك نهاية المطاف، بل أن تعيد النظر دائماً، فلعلّك تكتشف ثغرة فيه هنا وثغرة هناك.

مشكلتنا في الحوار

قد تكون مشكلتنا في كلّ هذا الواقع الاجتماعي والإسلامي أو في العالم الثالث، هي أنّنا نتحاور حوار الطرشان، فكلّ شخص يريد أن يؤكِّد ما يلتزمه، فيتعصّب له من دون أن يكون مستعداً لأن يسمع وجهة النظر الأُخرى، تماماً كما هو الأطرش يتكلّم ولا يسمع الآخر، والأطرش الثاني يتكلم فلا يسمعه الآخر.

إنّ مشكلتنا هي أنّنا نملك آذاناً لا نسمع بها، فلا نعطي آذاننا وعي السمع (فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزمر/ 17-18). هناك فرق بين يسمعون ويستمعون، ففي «يسمعون»، تمرّ الكلمة وهي طائرة، بحيث تدخل الأذن وتخرج منها بلا تركيز، أمّا في «يستمعون»، فيعني أن يملك الإنسان إرادة السماع ووعي السماع (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ)، فيفكّرون فيه، فيقتنعون بأحسنه، ويميّزون بين الحسن والحسن فيتبعونه.

لذلك علينا أن نتعلّم عندما يناقش الأب أولاده، أن يستمع إليهم بما يملكون من حجّة، وأن يستمعوا إليه بما قدَّم إليهم من برهان، وأن نتعلّم أن تكون علاقة الزوج بزوجته، والزوجة بزوجها، أن تكون قائمة على أساس أن تقدّم وجهة نظرها من خلال ما تملك من دليل، ليقدّم وجهة نظره من خلال ما يملك من دليل، وعندها، لا يكون هناك شخصان يتصارعان، بل دليلان يتصارعان، وأمّا الذات، فتذهب ليبقى الدليل هو الحكم.

وهكذا، عندما نتناقش فيما نختلف فيه في العقائد والشرائع والسياسة والاجتماع، فهل إنّ مشكلتنا هي أنّنا أعطينا عقولنا إجازة، وأعطينا الدوام الرسمي اليوميّ في البيت وفي العمل وفي الشارع لغرائزنا، فأصبحت غرائزنا هي التي تقف في ساحة الصراع الفكريّ، بحيث تحاول كلّ غريزة أن تقتل الغريزة الأُخرى؟

أمّا العقل، ففي واقعنا هناك غياب للعقل، فما رأيكم أن ندخل في مرحلة من عمرنا بأن نجرب العقل؛ وقد جرّبنا حركة الغرائز، فحوَّلتنا إلى مجتمعات تمزّق بعضها بعضاً، وحوّلتنا إلى أفراد يكفّر بعضها بعضاً، وحوَّلتنا إلى فرق متناثرة، وإلى عصبيات، حتى أصبح ديننا عصبية لا تقوى، وأصبح كلّ واحد منّا يدَّعي أنّه وحده يملك الحقيقة وعلى الناس أن تخضع له، ولو درس نفسه فيما يملك من حجّة، لرأى أنّه لا يملك الكثير من الحقيقة، وأنّ الحقيقة قد تكون ضائعة بين الناس، وعلى الناس أن يتعاونوا في البحث عنها حتى وهم يختلفون.

البرهان أوّل

ليكن شعارنا في مجتمعاتنا عندما يختلف بعضنا مع البعض الآخر (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة/ 111)، وبذلك ندخل عصر المعرفة المنفتحة على الحجّة والدليل والبرهان، ونبتعد عن مرحلة العصبية الشخصانية والعائلية والحزبية والطائفية والمذهبية، لقد قتلت هذه العصبيات مجتمعاتنا، لأنّها حولتها إلى مجتمع يتحرّك بغرائزه ولا يتحرّك بعقوله.

ارسال التعليق

Top