◄- طالعة البحث:
للرأي مقام متميز في الإسلام بعامّة وفي الحضارة العربية الإسلامية بخاصّة، فإذا استخدمت النُّظم السياسية والفكرية قبل الإسلام شتّى السبل لمصادرة الرأي في المجتمع الإنساني كما كان شأن القياصرة والأكاسرة والأباطرة السابقين حتى صار في الأعم الأغلب إبداءُ الرأي جريمة ولاسيّما أمام الملوك والحكّام فإنّ الإسلام بنصوصه الآمرة جاء حرباً على الدكتاتورية والإرهاب، سواءٌ في ذلك إرهاب الدولة أو إرهاب غيرها، ولاسيّما إرهاب الدولة، فجعل نظام الحكمة مبنياً على الشورى ومُناطاً بالعدل، بما يحقّق المصلحة للناس ويجلب الرحمة لهم والمنفعة العامّة إذ المقصد العام من التشريع هو: جلب المصالح للناس ودفع الضرر عنهم، وذلك لا يكون أبداً عن طريق مصادرة آراء الناس وإلغائهم وعدم الاعتراف بهم إلّا بما يحقّق مصالح الحاكم وحده أو مَن حوله، فالشريعة عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصلحة كلّها، فكلّ قضية خرجت عن العدل والرحمة والمصلحة فليست من الشريعة ولو أُدخلت إليها بالتأويل. من هذا المنطلق الواضح نتعرّف على حقيقة الحرّية ومفهومها العام والفلسفي ثمّ على معالم الحرّية في الإسلام حتى نصل إلى ضوابط الحرّية، ولعلي وُفِقت بضبط الحرّية بضوابطها التي تتبعتها في مكانها بالاستقراء.
إنّ حرّية التعبير عن الرأي في الإسلام يعود إلى معرفة مكانة الإنسان في الإسلام، ثمّ معرفة الحوار وضوابطه عن طريق احترام الإنسان الآخر الذي نتعامل معه كائناً مَن كان فلابدّ من الاعتراف به أوّلاً، ثمّ صيانته لنصل إلى حرّية التعبير عن الدِّين والدعوة إليه وهو المقصود من هذا كلّه، إذ لم يكتف الإسلام بأن يجعل الناس أحراراً في التعبير عمّا يدينون به من شرائع وأديان بل أباح لهم الدعوة إلى ما يرونه دِيناً بالإقناع فقط دون أي ضغط مادّي أو أدبي على الناس المدعوين لهذه الأفكار.
- مفهوم الحرّية:
قرّر الإسلام الحرّية للإنسان وجعلها حقّاً من حقوقه واتّخذ منها دعامة لجميع ما سنّه للناس من عقيدة وعبادة ونُظم وتشريع، وتوسع الإسلام في إقرارها ولم يقيد حرّية أحد إلّا فيما فيه مصالح الناس المعتبرة واحترام الآخرين بعدم التدخل في شؤونهم وإلحاق الضرر بهم، لا في أعراضهم ولا في أموالهم ولا في أخلاقهم ولا في أديانهم ومقدّساتهم وغير ذلك.
فالحرّية في الإسلام لا تعني الفوضى وارتكاب الموبقات والمنكرات واستباحة محارم الله والانغماس في الشهوات المحرَّمة، فالحرّية التي تبيح هذه المحظورات هي فوضى، وتصوّر خاطئ للحرّية، وقد صحح الإسلام هذا التصوّر الخاطئ وقرّر حرّية الناس منذ ولادتهم، وأنّه لا يجوز استعبادهم كما لا يجوز تقييد حرّياتهم، وكلُّ حقٍّ لهم يقابله واجب عليهم، ليكون هناك توازن في الحياة، ولذلك قال الرسول (ص) فيما رواه سيدنا النعمان بن بشير، قال سمعت رسول الله (ص) يقول: «مَثلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً».
وهكذا حياة الناس على سطح الأرض كركّاب السفينة تحمل هذه الأرض البارّ والفاجر، والصالح والطالح والمُحسن والمُسيء كالذين يسيئون إلى الآخرين بمن فيهم أنبياء الله ورُسُله يضعونهم فيما لا يليق بمقامهم الذي يستحق الاحترام والتقدير، فإن تُرِك هؤلاء المسيئون يفعلون ما يحلو لهم وما يشاءون دون الأخذ على أيديهم وكفها عن اقتراف الموبقات والآثام هلك الناس جميعهم نتيجة لاختلال التوازن في مطالب الحياة، وإن أخذ بأيديهم نجوا ونجا الناس جميعاً وعاشوا حياة طيِّبة، هذا هو توجيه الإسلام للحرّية، أرشدنا إليه رسول الله (ص) نبيّ الرحمة.
ومفهوم الحرّية من المنظور الإسلامي يتحقّق من خلال الحقوق والواجبات باعتبارهما وجهين لحقيقة واحدة لأنّ الحقوق من دون أن تقيّد بالواجبات سيصبح الفرد فيها غير مرتبط بالآخرين وقد يعرف حقوقه ولا يعرف حقوق الآخرين عليه وبذلك يصبح انفرادياً في تعامله قاصراً عن أداء واجباته، فإذا كانت الحرّية من منطلق الحقوق فقط دون الواجبات كان عدم التوازن في الحياة.
وقد حرص الإسلام على تطبيق مبدأ الحرّية في هذه الحدود وبهذه المناهج في مختلف شؤون الحياة، وأخذ به في جميع القضايا التي تقتضي كرامة الفرد في شؤونها وهي المناحي المدنية والدينية ومناحي التفكير والتعبير، ومناحي السياسة والحكم حتى وصل إلى شأن رفيع لم تصل إلى مثله شريعة أُخرى من شرائع العالم قديمه وحديثه.
فالإسلام يقرّر أنّ إنسانية الإنسان هي رهن حرّيته إذ لا يمكن أن تتحقّق إنسانيته بدون حرّيته؛ فإن تحكم الآخرين عليه باستعباده بغير صورة شرعية وتدخلهم في شؤون حياته فيه إلغاء لحقوقه، فهو من منطلق هذا يعيش حياته آمناً على نفسه وأهله ولا يخشى عدوان حاكم ولا بطش ظالم.
وقد يظنّ البعض أنّه مادامت الحرّية مكفولةً وحقّاً مقرّراً شرعاً أباح لنفسه كلّ شيء، وإن كان ذلك على حساب الآخرين، وهذه هي الفوضى التي تقضي على أمن المجتمع واستقراره وسلامته.
إنّ الله سبحانه وتعالى كرَّم الإنسان بحيث سَخَّر له ما في السموات والأرض جميعاً منه، وجعله خليفة عنه وزوَّده بالقوى والمواهب ليسود الأرض وليصل إلى أقصى ما قدَّر له من كمال مادّي وارتقاء روحي.
ولا يمكن أن يحقّق الإنسان أهدافه ويبلغ مراميه إلّا إذا توفّرت له جميع عناصر النمو وأخذ حقوقه كاملة في الحياة وفي التملك وفي صيانة العرض وفي الحرّية وفي المساواة وفي التعلّم. وهذه الحقوق واجبة للإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه أو مركزه الاجتماعي.
قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء/ 70).
وقال (ص): «يا أيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكـم حرام...».
وهكذا كرَّم الله الإنسان بهذه الحرّية من خلال هذه الحقوق؛ فمنحه حرّية الاعتقاد حيث قال الله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256).
وقال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف/ 29).
فالاعتقاد الصحيح نابع عن الاقتناع الكامل والتصديق الثابت، فلا قيمة لعقيدة تأتي بالقهر والتسلط؛ فحين تزول أسباب القهر تزول العقيدة. ولذا حينما سأل هرقلُ ملكُ الروم أبا سفيان عن المسلمين: أيرتد أحد منهم سخطاً على دينه؟ قال: لا. فقال هرقل: هكذا الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
فالإسلام يتيح الفرصة المتكافئة للناس كي ينظروا ويختاروا، فلا يجبرهم على شيء لا يرغبونه... ولم يحدث في تاريخ الإسلام أن أكره أحدٌ أحداً أو أجبر قومٌ قوماً على اعتناق الدِّين.
- المفهوم الفلسفي للحرّية:
الحرّية هي الخلوص من الشوائب أو من الرق أو من اللؤم؛ فإذا أطلقت على الخلوص من الشوائب دلّت على صفة مادّية، يُقال: ذَهَبٌ حُرٌّ، لا نحاس فيه. وإذا أطلقت على الخلوص من الرق دلّت على صفة اجتماعية، يُقال: رجلٌ حرٌّ أي طليق من كلِّ قيد سياسي أو اجتماعي.
وعلى ذلك فالحرّية تكون على ثلاثة معانٍ:
1- المعنى العام: الحرّية خاصّة الموجود الخالصة من القيود العامل بإرادته أو طبيعته، من قبيل ذلك قولهم تظهر حرّية الجسم الساقط في هبوطه إلى مركز الأرض وفقاً لطبيعته بسرعة متناسبة مع الزمان إلّا إذا صادف في طريقه عائقاً يمنع سقوطه.
2- المعنى السياسي والاجتماعي: الحرّية بهذا المعنى قسمان:
أ- الحرية النسبية وهي الخلوص من القسر أو الإكراه الاجتماعي، والحرّ هو الذي يأتمر بما أمر به القانون ويمتنع عما نهى عنه، من قبيل ذلك ما جاء في المادة (11) من إعلان حقوق الإنسان في فرنسا لسنة 1789م: «إنّ حرّية الإعراب عن الفكر والرأي أثمن حقوق الإنسان، ولكلّ مواطن الحقّ في حرّية الكلام والكتابة والنشر، على أن يكون مسؤولاً عن عمله في الحدود التي يعيّنها القانون».
ومن قبيل ذلك أيضاً ما جاء في المادة (29) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرّياته للقيود التي يعيّنها القانون»، والغرض من التقيّد بالقانون ضمان الاعتراف بحقوق الغير واحترام حرّياته وتحقيق ما يقتضيه النظام العام من شروط عادلة.
والحرّيات السياسية هي الحقوق المعترف بها في الدولة: كحرّية الفكر والرأي والضمير والدِّين والتعبير... إلخ.
ب- وأمّا الحرّية المطلقة، فهي حقّ الفرد في الاستقلال عن الجماعة التي انخرط في سلكها متى شاء وليس المقصود من هذه الحرّية حصول الاستقلال بالفعل، بل المراد الإقرار بهذا الاستقلال واستحسانه وتقديره واعتباره قيمة خلقية مطلقة.
- المعنى النفسي والخلقي:
أ- الفاعل الحرّ هو الذي يقيّد نفسه بعقله وإرادته ويعرف كيف يستعمل ما لديه من طاقة وكيف يتنبأ بالنتائج وكيف يقرنها بعضها ببعض أو يحكم عليها، فحرّيته ليست مجرّدة من كلّ قيد ولا هي غير متناهية، بل هي تابعة لشروط متغيّرة توجب تحديدها وتخصيصها وتسمى هذه الحرّية بـ(الحرّية الأدبية أو الخلقية).
ب- حالة مثالية لا يتصف بها إلّا مَن جعل أفعاله صادرة عمّا في طبيعته من معانٍ سامية.
ج- القدرة على الاختيار من غير مرجِّح.
- من معالم الحرّية في الإسلام:
أوّلاً - معالم حرّية الفكر في الإسلام:
التفكير طبيعة الإنسان التي فطره الله عليها. وهذه الطبيعة لم يغمطها الإسلام حقّها ولم يبح كبتها، بل حث عليها وطالب المسلمين بالإيمان بالله عن طريق التفكير لا عن طريق تعطيل هذا التفكير وإلغائه، فقال تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (آل عمران/ 191).
فالإسلام يدعو إلى احتكاك الآراء وسعة الاطّلاع وتنوّع الثقافات، واعتبرها إرثاً إنسانياً مشتركاً بين الأُمم، وهذا ما جعل العرب في العصور الإسلامية الزاهرة يَقْبَسون من علوم الأُمم السالفة والمعاصرة وثقافاتها المتنوّعة ما يجدونه نافعاً وصالحاً لبناء أُمّتهم.
وأكبر شاهد على حرّية الفكر في الإسلام مبدأ الشورى الذي أمر به القرآن الكريم بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38).
فإنّ الإسلام منح المسلمين حرّية الفكر في جميع المعقولات، بل وأوجب على المسلم التفكير فيما ينفع نفسه وينفع غيره وفيما يقيه الضرّر والأذى، قالَ رسولُ اللهِ (ص): «الكلمةُ الحكمةُ ضالَّةُ المؤمنِ فحيثُ وَجَدَها فهو أحقُّ بها».
ثانياً - معالم حرّية التعبير في الإسلام:
حرّية الكلام والتعبير حقّ فطري، لأنّ التعبير عما في الضمير فطرة فُطِرَ عليها الإنسان يعسر، بل يتعذر إمساكه عنها، فكان الأصل أنّ لكلّ إنسان أن يقول ويحاور ويناقش ولا يمسكه عن ذلك إلّا وازع الدِّين بأن لا يقول لغواً أو ينطق باطلاً.
وفي الحديث: «قالَ أَلا أُخْبِرُكَ بِمَلاكِ ذلك كُلِّهِ؟»، قُلتُ: بلى؛ يا نبيَّ اللهِ. فأخذَ؛ بلسانِهِ فقالَ: «كُفَّ عليك هذا». فقُلتُ: يا نبيّ اللهِ؛ وإنّا لَمؤاخَذُون بما نتكلّمُ بهِ؟! فقالَ: «ثَكِلَتكَ أُمُّكَ َا مُعَاذُ؛ وهل يَكُبُّ الناسَ في النّارِ على وُجُوهِهم أو على مَنَاخرِهم إلّا حصائِدُ ألسنَتِهم».
والأصل في حرّية القول هو الصِّدق في الإخبار، وتتبّع الحقّ واتّباعه؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119).
- ضوابط الحرّية:
إنّ الحرّية بلا قيود ولا ضوابط عقلية وخُلقية ودينية لا يصلح بها أمر الإنسان والمجتمعات أبداً، فالحكمة تقتضي أنّ لكلِّ شيء حدوداً وقواعد إذا غابت يُضحي وجود الحرّية عبثاً، فهي إن تُركت سائبة بلا حدود فغايتها الضلال والسقوط في الهاوية، وأمامنا الأُمم السابقة أدلة واضحة على ذلك. هذا؛ وإنّ الإسلام أحكم قواعد الحرّية للإنسان أفراداً ومجتمعات، بأن جعل إطاراً معقولاً وصحيحاً لحرّية الفكر وحرّية القول، وحرّية العمل، هو (عدم الإضرار بالنفس وعدم الإضرار بالآخرين)، حتى إنّ الإسراف في الأكل والشرب يحرم لأنّه إضرار بالنفس. وقد أمر رسول الله (ص) بعدم الضرر، فالقاعدة الشرعية: (لا ضرر ولا ضِرار)، فلا يسوغ لأصحاب المذاهب الفكرية والكلامية القول بالحرّية المطلقة ممّا يؤدِّي إلى الإضرار والتضييق على حرّيات الآخرين، هذا بالإضافة إلى الآفات والعيوب الاجتماعية في بلاد الحرّية التي تدّعي الحرّية المطلقة ولا تعرف حدوداً ولا قيوداً ضرورية لحياة المجتمعات الإنسانية. الإسلام واسع سهل، يحمل في طياته خطاباً شاملاً مستوعباً، وهو لا يريد الإكراه، للقاعدة المعروفة: (القسر لا يدوم)، وإنّما يسعى إلى إعطاء الحرّية لكلّ إنسان فيما يعمل بحسب معتقده، ويحاوره، قال سبحانه وتعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 12).
يقول جولدتسيهر: «سار الإسلام لكي يصبح قوّة عالمية على سياسة بارعة، ففي العصور الأولى لم يكن اعتناقه أمراً محتَّماً، فإنّ المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كُتُب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس (الجزية) أن يتمتعوا بحرّية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية.. بل لقد ذهب الإسلام في هذه السياسة إلى حدود بعيدة، ففي الهند - مثلاً- كانت الشعائر القديمة تُقام في الهياكل والمعابد في ظل الحكم الإسلامي». وهكذا ترى مبادئ الإسلام وتعاليمه في الوقت الذي تربّي الإنسان المسلم على التزام دين الله وتوحيده، توجهه إلى أن يحترم الإنسان أخاه بما هو إنسان مهما كان دينه أو مذهبه.
- التعبير عن الرأي في الإسلام:
كلُّ منصف من العقلاء والمفكرين والباحثين عن الحقيقة المجرّدة يرى تنوّعاً شاملاً لكلّ حقائق الحياة، وهذا التنوّع الشامل والمستوعب لجميع الأشياء لازمه ملازمة تامّة كاملة تنوّعٌ في الوظائف الداخلية والأشكال الخارجية، وهكذا فكلّما أبعد المرء في تفكيره، وأمعن النظر دلته حقائق الكون الكبرى على أنّ هذا التنوّع هو ظاهرة كونية شملت أدق دقائق عالم الطبيعة وجميع عناصرها بشتّى تجلياتها، كما أنّ هذا التنوّع لم يحدث بالمصادفة قط، وإنّما هو صنع الله مبدع السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة الذي أتقن كلّ شيء خلقه، وأحسن صنعه وأتمّه؛ وقد دلّت النصوص من الكتاب والسنة المطهرة على أنّ هذا التلوّن والتنوّع في كلّ شيء إنّما هو من مظاهر الخلق الكبرى، ومن مظاهر الإعجاز والإبداع في الخلق، ممّا يعني - من جملة ما يعنيه - أنّ عظمة الله سبحانه وتعالى لا تتجلى في مجرد إيجاد الأشياء من العدم فحسب، بل بخلقها وإيجادها على هذه الشاكلة العجيبة الغريبة في صنعها وتنوّعها واختلافها.
وهذا التنوّع ينقل إلى تنوّع من نوع آخر، هو ذلك التنوّع في ميول البشر واعتقاداتهم وآرائهم ونزعاتهم؛ تنوّع في الأذواق والعادات وأنماط العيش، ممّا يتصل بالثقافة بمفهومها العام، وتنوّع آخر يتعلق بقناعات وتوجهات في حياة الإنسان من حيث النظام السياسي والاجتماعي الفكري والثقافي والعلمي حيث بنو آدم مختلفون يحيون حياةً ميزتها التنوّع.
نعم، حصل في بعض الأديان كالمسيحية واليهودية، وفي الفلسفات الأُخرى كالمجوسية والبوذية والكونفوشيوسية والهندوسية، أنّها كانت تحاول نفي الآخر، وإثبات الذات، وصهر المجتمعات في بوتقتها... لكنّ رحمة الإسلام تعمّ الجميع بقوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256). والناس جميعاً ليسوا عرضةً للإكراه على اعتناق الإسلام، مما يعني أنّ الإسلام دينٌ يستوعب مبدأ التنوّع في العقائد دون أن يكون لهذا التنوّع أي مساس بالحقوق والواجبات الإنسانية، بل هذه الحقوق مكفولة بتكريم بني آدم، حيث قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء/ 70)، ما لم يكن هناك خلل أخلاقي أو رادع ديني (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13). وإنّ حرّية التعبير من أعظم الحرّيات التي كفلها الإسلام للإنسان وهي من نِعَم الله تعالى عليه حيث جعله بهذه النِّعمة مُعبّراً عن نفسه مبيّناً عمّا يدور في فكره وخلده، ومنحه القدرة العقلية على تصوّر ما يدور حوله، ثمّ الحكم عليه بما يصل له من خبراته وتجاربه يقول الله عزّوجلّ تأكيداً على ذلك: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 1–4). فالله جلّ جلاله خلق الإنسان وأكرمه وأنعمه بنِعمة العقل والإدراك وعلَّمه البيان ليُعْمل عقله ويفصح عمّا يدور في عقله بحرّية مبنية على احترام الحقّ الفطري واستخدام نِعمة الإدراك والبيان، ودعوة إلى تحقيق التعاون على البرّ والتقوى، والتطلّع إلى تكوين المجتمع المسلم الذي يقوم على المشاركة الإيجابية في تحقيق الإخاء والمساواة والأمن والعدل. ومن الأدلة التي تدل على وجوب حرّية التعبير قوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران/ 11)، فإنّ الأمر والنهي لا يكونان إلّا من خلال التعبير. وممّا يدلنا على حرّية التعبير أيضاً قوله (ص): «مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وهذا كلّه يدل على أنّ حرّية التعبير من حقوق الإنسان، وحقوق الإنسان جزء من الدِّين شرعها الله وبينها الرسول (ص) في سنّته المشرفة وسيرته العطرة.
- الحوار وضوابطه:
فقه الحوار هو من أبرز ما يتميّز به ديننا الإسلامي العظيم يدلُّ عليه قوله تعالى في التنزيل: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (سبأ/ 24).
فقد خاطب القرآن العظيم غير المسلمين بأدب الحوار وفقهه، فافترض الهدى والضلال في كلّ من الفريقين، المؤمنين وغير المؤمنين، فما بالك إذا خاطب المسلم مسلماً مثله؟! يدين بدينه؟! ويصلي إلى قبلته؟! ويؤمن بنبيّه؟! كيف يكون أدب الحوار وفقهه بين المسلمين بعضهم مع بعض إذا كان الأمر كذلك مع غير المسلمين؟!.
أما ضوابط فقه الحوار، فهي:
الضابط الأوّل: التوسط والاعتدال في كلّ شيء، فالمبالغات والتزيُّدات والإفراط والتفريط ليست من التوسط في شيء، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة/ 143)، أي عدولاً، فنحن أُمّة الوسط الأعدل، ديننا وسط وشريعتنا وسط، فيجب أن يكون خِطابنا وسطاً معتدلاً، حتى نحقّق به الغاية دون إفراطٍ أو تفريطٍ، دون زيادةٍ أو نقصٍ مع الالتزام بجوهر العلم ولبابه، فنبتعد عن الخلاف اللفظي، وعن الخلاف في القشور والبحث عن الأُمور الجانبية، وكذلك نبتعد عن الأمور التاريخية ومحاكمة التاريخ لأنّ التاريخ أمر انقضى، وآفة الرواية نقلها، وما آفة الأخبار إلّا رواتها، فلا نقبل من الأخبار إلّا ما ثبت لدينا بمنهج المحدِّثين لا بمنهج المؤرخين، مع الاعتماد على المقاصد العامّة وحكمة التشريع وعلل الأحكام للوصول إلى جوهر العلم.
الضابط الثاني: الالتزام بالمنهج العلمي وأُصول البحث والموضوعية والتجرّد عن كلّ ما يخالف عن الموضوعية في العلم، للوصول إلى الحقيقة المجرّدة، فإنّ المطلوب هو الوصول إلى الحقيقة المجرّدة أينما كانت وحيثما وجدت، ولا ننحاز لأحد لأنّنا نحبّه ونترك الحقيقة التي مع الآخر لأنّنا لا نحبّه، أو لأنّه مخالف لنا، أو لأنّه على غير ما نحن عليه، فالحكمة ضَالَّة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها، والمنهج العلمي يقتضي الرجوع إلى الأُمَّهات وأُصول العلوم والكُتُب، وأُصول البحث تقتضي الدقّة والتحقيق والتمحيص والمراجعة والصِّدق في النقل والبرهنة الصحيحة على الموضوع المتكلَّم فيه، والذي يدور الحوار حوله.
الضابط الثالث: الالتزام بقواعد المنطق والمناظرة والمسلَّمات العقلية، وهذا العلم قديم، وأوّل مَن قعَّده وضبطه اليونان، وهم الذين أوجدوا المنطق الصوري، ولكنّ علماء المسلمين أخذوا المنطق الصوري وزادوا عليه بعد أن هذّبوه وضبطوه زادوا عليه المنطق المادّي، وهو أرقى من المنطق الصوري، فإن كان المنطق الصوري يعتمد القياس والاستنتاج، فإنّ المنطق المادّي يعتمد الاستقراء والاستنباط، وأُسس علماؤنا ومفكرونا (رحمهم الله) قواعد المناظرة وأُصول الاستدلال، وحضارتنا الإسلامية زاخرة بأمثال هؤلاء المفكرين المسلمين وأساطين المعرفة الذين شهد لهم علماء الغرب فضلاً عن علماء المسلمين، والفضل ما شهدت به الأعداء، والمكتبة الإسلامية حافلة بمئات الكُتُب والأبحاث والدراسات القديمة الأصيلة والحديثة المعاصرة في هذا الميدان، وهذا الضابط مهم جدّاً لأنّه نقطة اتفاق لدى كافة العقلاء من المسلمين وغيرهم من أصحاب الشرائع وغيرهم، وهو معيار المنطق والعقل السليم، والذي لا يمكن إنكاره أو التشكيك فيه.
الضابط الرابع: عدم مخالفة صحيح المنقول وصريح المعقول، بعد أن تبيّن أنّ المنهج في الحوار هو: (إذا نقلت فالصحّة وإن ادعيت فالدليل)، وإذا ثبتت صحّة النقل وصريح الاستدلال، فكيف يمكن إنكارهما أو إنكار أحدهما، بل لابدّ من الأخذ بالصحيح من المنقول، الثابت بالخبر الصادق الذي هو أحد مسالك العقل والعلم، والتسليم بصريح المعقول وهو المسلَّم به أو المستدل عليه بالبرهان القاطع والحجّة الدامغة، وإلّا لكان حوارنا مجرد تسلية، وكلامنا فارغاً لا قيمة له، بل ومضيَّعة للوقت لأنّنا نكون قد فقدنا جوهر الحوار وهو الوصول إلى الحقيقة العلمية.
الضابط الخامس: هو عدم مخالفة ما هو معلوم من الدِّين بالضرورة، فما أصبح من المسلَّمات كالإيمان بالغيب والصلاة والزكاة… لا يجوز النقاش في ثبوته أو عدم ثبوته لأنّه من المعلوم من الدِّين بالضرورة وهذا يدخل ضمن الخلاف الذي لا طائل وراءه، والحوار الجدلي الذي هو لمجرد الحوار، ويدخل تحت هذا الضابط عدم التكفير أو التفسيق بلا دليل قاطع، فلا يجوز أبداً التهاون في هذا الأمر، وإنّ التكفير لأمر عظيم لا ينبغي الخوض في أَوْحَالِه لمجرَّد الظنِّ أو الشبهة أو الوهم، يقول الإمام الغزالي في كتابه: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة: «... ولكنّي أُعطيك علامةً صحيحةً مطردةً ومنعكسةً لتتخذها مطمح نظرك وترعوي بسببها عن تكفير الفِرَق، وتطويل اللسان على أهل الإسلام، وإن اختلفت طُرقهم ما داموا متمسكين بقول: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله، صادقين بها غير مناقضين لها، فأقول: الكفر هو تكذيب الرسول (ص) في شيء ممّا جاء به، والإيمان تصديقه في جميع ما جاء به... فكلّ مكذِّب للرسول فهو كافر، وكلّ كافر فهو مكذِّب للرسول (ص) فهذه هي العلامة المطردة المنعكسة».
وهنالك مَن يتشدّد فيلغي الرخص ولا يفتي بها للناس ولا يأخذ بها، ويلغي مساحة العفو التي شرَّعها الله تعالى، ويتشدّد في الحلال حتى يجعله حراماً؛ بدعوى الزُّهد حتى يظهر الدِّين من كلامه على أنّه دين قديمٌ متخلف لا يصلح لهذا العصر، قال الله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة/ 77)، فإذا حصل هذا التشدّد حصل التنفير من الدِّين بالتطبيق السيِّئ له وجاء العنف فتوّج ذلك كلّه بتاج من الخبال، وما كان الرفق في شيء إلّا زانه وما نزع من شيء إلّا شانه.
ديننا دين الرحمة، دين اللين واللطف: (وَلْيَتَلَطَّفْ) (الكهف/ 19)، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159).
الضابط السادس: تحقّق الإخاء الوطني والعربي والإسلامي: إنّ فك العروبة عن الإسلام هو أكبر خطر على هذه الأُمّة، العروبة والإسلام تيار واحد وليسا تيارين أبداً، حتى غير المسلمين مسلمون ثقافة، والمسلمون مسلمون ثقافة وعقيدة؛ فالعروبة مادّة الإسلام والإسلام روحها.
فالوحدة والتوسط هما القاسم المشترك الأعظم في حضارة هذه الأُمّة وتاريخها، ولئن كانت الفُرقة والتنازع والتطرّف الديني سِمَة المدنيات السابقة على الإسلام كمدنية الفرس والرومان والهند وغيرها، وكان شعارَها الحربُ الظالمة بلا سبب إلّا سبباً واحداً هو الاستبداد والاستغلال والاستعباد، فإنّ الحضارة الإسلامية في تاريخها المشرق ما عَرَفت إلّا الوحدة والوسطية منهجاً عاماً وقاسماً مشتركاً أعظم في مراحلها كلّها، من لدن فجر الدعوة الإسلامية المباركة وإلى عهد قريب. والذي أراه أنّ الذي حقّق الوحدة للأُمّة في تاريخها المجيد يوم كانت أُمّةً واحدةً يملأ ذكرها العَطِرُ الوهادَ والنجاد؛ الذي حقّق ذلك هو وسطيتها أي عدالتها، وتوسطها بين جانبي الإفراط والتفريط، وهو قمين أن يحقّق وحدة الأُمّة اليوم وغداً وإلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها إذا تحقّقت لدينا العبودية الحقُّ لله ربِّ العالمين، فهي الولاية والولاية معاً كما قال جلّ شأنه في التنـزيل: (هُنَالِكَ الوَلاَيَةُ لِلهِ الحَقِّ) (الكهف/ 44).
- احترام الآخر وصيانته:
إنّ حرّية التعبير الحقّ هي التي تحافظ على حقوق الآخرين، وأمّا التصرُّفات التي تصدر دون مراعاة حقوق الآخرين فهي الفوضى التي تؤدي إلى اختلال التوازن في موازين الحياة. واحترام الآخر، واحترام حقوقه لا يتأتى إلّا من حرّية التعبير التي تعتمد مبادئ الأخلاق وآداب الإسلام الذي يعني عدم مصادرة آراء الآخرين وإيذائهم، وإن كانت مخالفة، لكن غير مسيئة للآخرين ومعتقداتهم. وقال رسول الله (ص): «الدِّين النصيحة». قلنا: لمن؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم». فنصيحة أئمّة المسلمين وعامّة المسلمين هي من حرّية التعبير، وهكذا كانت حياة الرسول (ص) مع أصحابه فيقول لهم في كثير من الأُمور: «أشيروا عليَّ». وكان (ص) أمره شورى بينه وبين أصحابه؛ قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159). والله سبحانه وتعالى مدح المؤمنين بسبب الشورى التي بينهم بقوله: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38). هذا؛ وحرّية التعبير التي تحترم الأديان والمقدّسات هي التي تنبني على ضوابط:
1- أن يكون التعبير طيِّباً بعيداً عن الفحش والقبح يقول الله تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحجرات/ 24). ويقول جلّ شأنه: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء/ 36).
قال الإمام النووي: «اعلم أنّه ينبغي لكلّ مكلَّف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلّا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنّه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة».
2- أن يكون التعبير مطابقاً للحقيقة صادقاً متثبتاً فيه، بعيداً عن الظنّ والوهم؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119)، وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات/ 6). وفي الحديث عن رَسُولِ اللهِ (ص): «كفى بالمرءِ كَذِباً أن يُحدِّثَ بكلِّ ما سَـمِعَ».
3- أن يتحرى التعبير الحقّ والعدل فلا يحابي؛ يقول الله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام/ 152). إنّ حرّية التعبير التي تنطلق من هذه الضوابط لها ثمار كثيرة، منها:
أوّلاً: أنّها تعمّق الثقة بين أفراد الأُمّة فإنّ الوضوح يقتل الخلاف، والمصارحة تقضي على الدس والوقيعة، والصدق يعمر القلوب بالألفة والمحبّة.
ثانياً: قوّة بناء الأُمّة وتماسكها فإنّ احتكاك الآراء وتعاون الناس يولّد القرب بينهم وتلاقح الأفكار يولّد التنوُّر والتقدّم الحضاري؛ فيتشاورن ويتناصحون، وهذا يزيد من تماسكهم وتضامنهم لأنّ الاحتكاك بين المؤمنين يولّد نوراً ولاريب أنّ اجتماع المواهب وتعاضدها يؤدِّي إلى خير كثير، وهذا بخلاف الخوف والكبت فإنّهما يولّدان التفكك والشكّ والريبة.
ثالثاً: إنّ المرء متى أُعطِي الفرصة لإبداء رأيه في تقرير مصيره والمشاركة في صناعة القرار أدى ذلك إلى رقي في الأُمّة وتقدّمها، فإنّنا نجني من وراء حرّية التعبير الأفكار النيرة والآراء الصائبة، فلا تقدم الأُمّة على أمر إلّا وتكون قد عرفت مصالحه وأدركت منافعه.
- حرّية التعبير عن الدِّين والدعوة إليه:
كلُّ مَن عرف الحقّ في دينه ينشط في دعوة الناس إليه، فقد ورد عنه (ص): «وأيم الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه شمس وغربت». ولكنّ دعوة الإسلام ترتكز على الإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن، وتجنّب أيّة محاولة لفرض الدِّين عن طريق السطوة أو السلطة. هذا؛ ومن الصحيح والمشروع إقناع الآخرين، ولكنّ البعض يستخدم القوّة والعنف لفرض الذي يؤمن به على الناس، وهذا مردّه الجهل أو روح التسلُّط والظلم، وكم عانت البشرية وتحمّلت من المصائب والمآسي من الحروب والصراعات الدينية الدامية.
والإسلام أعلن موقفه الواضح والصريح من حرّية الاعتقاد واختيار الدِّين، وأرسى القرآن الحكيم مبدأ الحرّية الدينية الفكرية في قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256). هذا؛ والإسلام يدعو إلى السلام ويعتبر السلم هو الأصل والحرب هي الاستثناء، قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (البقرة/ 208). وقال أيضاً: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (الأنفال/ 61). فالإسلام يأمر بمحاربة مَن لا يزال يقاتل المسلمين ويريد الاعتداء عليهم، وينهى عن موادّة أمثال هؤلاء، أمّا الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يخرجوهم من ديارهم، فالله سبحانه يأمر ببرهم والإقساط إليهم وإن كانوا كفاراً.
قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/ 8). ولذلك فالذي ترجّح لدى جمهور الفقهاء المسلمين أنّ الكفر وحده لا يصلح سبباً للقتل، وإنّما الذي يصلح سبباً للقتل هو الحرابة.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق