• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الحرِّية بين العرف والقانون

عادل عبدالرحمن البدري

الحرِّية بين العرف والقانون
◄تبدأ الضوابط والقيود المانعة من الانفلات من أصغر خلية في المجتمع، وهي الأسرة، ثمّ تتدرج إلى مؤسسات أكبر من الأسرة تنتهي للقانون، ولهذا "فلا غرابة أن يسعى الإنسان للبحث عن وسيلة سليمة يرجع إليها لحلّ التعارض والتنازع بين المصالح الفردية لتأمين الحفاظ على المجتمع الذي يعيش فيه بحكم الضرورة، أو بعبارة أخرى لابدّ من وجود ضابط أو ناظم يكفل للإنسان ماله من حريات، ويحدد ما عليه من واجبات في حياته الاجتماعية، ويكون ذلك بتقييد ما للإنسان من حريات بقدر يكفل السلّم الاجتماعي عموماً، أي بقدر يسمح للآخرين من الأفراد بالتمتّع بحرياتهم. ووسيلة التعبير عن هذا التقييد مجموعة من القواعد والمبادئ والأحكام التي تخط سبل السلوك الاجتماعي للأفراد في علاقاتهم الاجتماعية، وهي بمجموعها تكوّن القانون"[1]. وقد شرّع الإسلام قانون تعديل الحرِّية وضبطها بحدود، كما يبدو من قوله تعالى: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا) (النساء/ 15)، فالقيد هنا إيجابي وإصلاحي، كما تمارس البلدان المتحضّرة في قوانينها وممارساتها عند تنظيم معتقلات وسجون الغرض منها هو إصلاح الفرد وإعادة تأهيله، لكي يندمج مع القانون والعرف الاجتماعي والسياسي الذي تصطلح وتتعارف عليه هذه البلدان. وينهى القانون الإسلامي عن القيد السلبي المانع لحرِّية الإنسان واختياره الذي شرعه الله له، كما في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة/ 232). فالإعضال في القانون الإسلامي غير الإمساك. فالإمساك هو قانون إصلاحي إيجابي رادع، أمّا الإعضال[2] فهو هنا ظلم وسلب لحرِّية الإنسان واختياره وعسف وجور. فالحرِّية المشروعة هي الحرِّية المنظّمة والمنضبطة، وهي غير الحرِّية المنفلتة التي تؤدّي إلى الانهيار والتهافت، كما أنّ التقنين والتنظيم غير العنت والظلم والقهر ومصادرة الحريات ومنعها من أن تمارس في مناخات طبيعية ومتعارف عليها. وقد تلاقت التشريعات السماوية مع التشريعات المدنية على مرّ التاريخ في هذا الاتجاه. وقد أدرك الإنسان ضرورة هذا القانون في الوسط الاجتماعي من أمد بعيد. ويمكن ملاحظة الحاجة البشرية إلى قانون يقوم مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تقنين أو تشريع يتناغم مع هذا التشريع السماوي، عن قصد أو غير قصد، ابتداءً من القبيلة وانتهاء بمجتمعات الدولة القومية الحديثة، والقبيلة كوحدة سياسية واجتماعية كوّنت لها الأعراف والعادات الخاصة بها كقوانين ملزمة لأعضاء القبيلة في فضّ المنازعات والتجاوزات التي تنشأ من داخل القبيلة أو خارجها، ثمّ توسّعت وخطت نحو جماعات الأُمم والشعوب في مجتمعات أوسع وأكبر، فوجدت هذه الجماعات نفسها تفتقر إلى القانون الذي ينظّم لها العلاقات والمعاملات، ويحفظ حقوق الأفراد وأمنهم، ويعصم الأفراد والجماعات من القتال والحروب والمنازعات التي تنشأ، فعمدوا إلى وضع لوائح وقوانين اتفق عقلاء منهم على وضعها والاحتكام إليها، وهو ما نعرفه اليوم بالقانون، فالقانون هنا يقوم بتنظيم علاقات هذه الجماعات مع بعضها، فهنا يكون حديث المعروف والمنكر فيما بين هذا الجماعات والأفراد ضرورياً سمّي بالعرف "وتحتلّ الأعراف والعادات حيزاً واسع النطاق في مجال القوانين والتنظيمات البشرية، فبمرور الزمن ومضي الوقت تتّخذ الأعراف قوّة ملزمة في التعامل الاجتماعي، سرعان ما تصطبغ بمسحة القانون الإلزامي، بل إنّ ما يتعارف الناس عليه فيما بينهم يعتبر من أوائل القوانين التي عرفها البشر. فقد كان العرف بمنزلة القانون المكتوب لدى الأُمم والشعوب المختلفة. ومن هنا فقد اتّخذت أعراف الناس مكانة مرموقة على المستويين الاجتماعي والقانوني"[3]. ويتحدّث الدكتور عبدالرزاق السنهوري عن نظرية الالتزام وارتباطها بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيقول: والالتزامات التي ينشئها القانون، كالتزامات الجوار والتزامات أفراد الأسرة بعضهم نحو بعض، هي في الواقع أوامر ونواه أدبية تقضي بوجوب العطف على الجار والكفّ عن إيذائه والبر بذوي القربى والأرحام. فإذا قلنا: إنّ القانون إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لا نكون مبالغين في هذا القول[4]. ويتقارب الفهم الإغريقي القديم مع الفهم الإسلامي والحضاري لمفهوم الحرِّية فقالوا: الحرِّية هي ما يميّز الإغريقي عن البربري، ولم يكفّ الأغريقيون عن البحث في هذا المفهوم وتمجيده. فقد كانت الحرِّية تعني للأغريقي بأنّها الحقّ، وبأن لا يخضع ولا يطيع إلا القانون وحده. فالحرِّية لديهم نظام أو وضع مزدوج الجانب، فهي من جهة استقلال إزاء أيّ إكراه شخصي، وهي من جهة أخرى خضوع للقوانين العامة، والانضواء الطوعي إلى نظام[5]. فالحرِّية إذن لا تنفكّ عن قيود ضوابط وضعت لها في تاريخ الفكر السياسي منذ أن وعى الإنسان ما يصلح له وما لا يصلح. "وفي النظم القانونية الحديثة تعترف الدساتير عادة بمبدأ حرِّية الإنسان ولكنّها تشترط ممارسة هذا الحرِّية حسب القانون، ثمّ يأتي القانون فيبيّن أساليب ممارسة الحرِّية ويذكر الضوابط الأساسية في هذا المجال، وذلك بالاستناد إلى معيارين أساسيين هما: النظام العام من جهة، والآداب العامة من جهة ثانية. ويختلف هذان المعياران، أي النظام العام والآداب العامة في المكان بين بلد وآخر، وفي الزمان أيضاً بين وقت وآخر. فمن حيث المكان نجد مفهوم الحرية يأخذ مدى أوسع في البلدان الليبرالية عن البلدان الاشتراكية[6]، لأنّ الدولة تتدخّل باسم النظام العام والآداب العامة في البلدان الأولى أقلّ ممّا تتدخُل في الثانية. ومن حيث الزمان نجد أنّ المجتمعات الأوربية، مهما اختلف نظامها، عرفت في هذا القرن نتيجة لانتصار الفلسفات المادية والوجودية تحرراً وتحللاً في مجال ممارسة الحرية وصل إلى مرحلة الشطط في كثير من الأحيان. وهكذا استناداً إلى ما يسمّى حرية الاعتقاد في المجتمعات العصرية العلمانية أصبح المواطن الأوربي والأميركي حرّاً في اختيار الديانة التي يشاء الاعتقاد بها، وممارسة تعاليم هذه الديانة وشعائرها. كما يمكنه بالمقابل، واستناداً إلى الحرِّية نفسها، ألا يعتقد بأي دين ويختار الإلحاد عقيدة له، وبئس الاختيار. واستناداً إلى ما يسمّى حرِّية الإنسان بالتصرّف في حياته، فمن حقّ المواطن الأوربي والأمريكي أن يضع حدّاً لحياته بواسطة عملية الانتحار الفوري أو البطيء، دون أن تعاقبه قوانين الدولة على عمله هذا إذا لم يؤدّ إلى الموت"[7]. وهذا الإستخدام السلبي والهدّام للحرِّية غير مقبول في الشريعة المحمدية وغير مبرر، لأنّ الله سبحانه وتعالى بعث الأنبياء والرسل لتوجيه معنى حرية الإنسان وتسديد اختياراته، فحتّى حرّيته في التصرف بجسده لها قواعد وضوابط، تقول الآية الكريمة: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة/ 195). فلا يجيز الفقهاء المسلمون إلحاق الإنسان الضرر بنفسه، والتصرّف بأعضاء بدنه والعبث بها، فالنفس محترمة وبنو آدم مكلفون بحفظ أبدانهم وعدم الإضرار بها، حتى الأكل المباح حين يكون سبباً للإضرار بالبدن يحرم في نظر بعض الفقهاء، يقول الشهيد محمد بن مكّي العاملي (ع): يكره كثرة الأكل، وربّما حرم إذا أدّى إلى الضرر[8]. ويقول القرطبي: ما تدعة إليه الحاجة، هو ما سدّ الجوعة وسكن الظمأ فمندوب إليه عقلاً وشرعاً، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال، لأنّه يضعف الجسد ويميت النفس، ويضعف عن الصلاة، وذلك يمنع منه الشرع ويدفعه العقل. وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين، فقيل: حرام، وقيل: مكروه[9]. ورجّح ابن العربي، وهو من أتباع المالكية، كراهية الزائد عن الحاجة[10]. فالقيود هنا إيجابية ومانعة من العبث والتصرف الأهنج الذي لا يجدي للبدن نفعاً. فلقمة زائدة بدون حاجة لها تسبّب مرضاً أو خللاً في وظائف الأجهزة الهضمية، ممّا يعني إلحاق ضرر بهذا البدن الذي خلقه الله له ليتصرّف به تصرفاً معقولاً ومبرراً ونافعاً، ولهذا السبب وغيره لم يترك الإنسان طليقاً في اختياره إذ لابدّ هنا من قوّة مسددة وموجهة تأخذ بيده وبعقله لمنعه من الفساد والضرر.  الهوامش:
[1]- رياض القيسي، علم أصول القانون: 42. [2]- قال الخليل: عضّلت عليه، أي ضيّقت عليه في أمره وحلت بينه وبين ما يريد ظلماً. 1/ 278. [3]- رقيّة طه العلواني، أثر العرف في فهم النصوص، 7. [4]- الوسيط في شرح القانون الدني الجديد، نظرية الالتزام 1/ 166، دار إحياء التراث العربي، بيروت. [5]- ينظر تاريخ الأفكار السياسية لتوشار، 1/ 36. [6]- وقد يقابلها في وقتنا الحاضر البلدان ذات الحزب الواحد أو التي يقودها حاكم فرد أو جماعة أو عائلة تضاهي تسلّط وهيمنة الأنظمة الاشتراكية وإن كانت تختلف معها في التسمية. [7]- إحسان الهندي، الإسلام والقانون الدولي دار طلّاس – دمشق، 190. [8]- الدروس الشرعية، 3/ 36 كتاب الأطعمة والأشربة. [9]- الجامع لأحكام القرآن، 7/ 191.

[10]- أحكام القرآن، 2/ 781.

المصدر: كتاب (معالم الفكر السياسي ونظرية الدولة في الإسلام)

ارسال التعليق

Top