إنّ تجانس العبارات من حيث الوزن الصوتي والصرفي، يلعب دوراً مهماً في عودة الوفاق بين الخطابين وتواصلهما معاً، ويتحقق ذلك عندما يتميّز الشاعر بقدرات عالية في صياغة ألفاظه وعباراته، وإحداث نوع من التناغم بين الألفاظ داخل الجملة، يؤكِّد الجرجاني: "أنك لا تستحسن تجانس اللفظين إلا إذا كان موقع معنيهما من العقل موقعاً حميداً، ولم يكن مرمى الجامع بينهما مرمى بعيداً، أتراك استضعفت تجنيس أبي تمام في قوله:
ذَهَبَت بمَذْهبه السّماحَةُ فالتوتْ **** فيه الظّنون أمذهبٌ أم مذهبُ واستحسنت تجنيس القائل: حتى نجا من خوفه وما نجا.. لأمر يرجع إلى اللفظ، أم لأنك رأيت الفائدة ضعفت عن الأول وقويت في الثاني؟ ورأيته لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً متكررة، تروم لها فائدة فلا تجدها إلا مجهولة منكرة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنّه يخدعك عن الفائدة، وقد أعطاها، ويوهمك كأنّه لم يزدك، وقد أحسن الزيادة ووفاها"[1]. وقد أدرك شاعر النقائض أن اعتماده على الهندسة الصوتية في قصائده، يُعدّ مدخلاً مهماً لجذب انتباه المتلقي، وتعتمد الهندسة الصوتية على إحلال حرف صامت محل حرف آخر، أو تكرار حرفين صامتين في البيت عدة مرات متتالية في القصيدة، أو يتعمد الشاعر تبديل مواضع الحروف في قافية البيت؛ ليفيد من استثمار إمكانات الجذر الصوتي. ويجب الانتباه إلى الفرق بين السجع والهندسة الصوتية، حتى لا يحدث التباس بين المفهومين – هنا – فالسجع يعمد الشاعر فيه إلى تكرار حرف واحد في نهاية بعض الكلمات، أما النهندسة الصوتية فتعني تكرار أكثر من حرف في قافية البيت، أي تكرار مقاطع معينة داخل القافية. يقول جرير[2]: ألَذّ وأشفى للفؤادِ من الجوى **** وأغيَظَ للواشِينَ منه ذوي المَحْلِ وهاجِدِ مِوْماةٍ بعَثْتُ إلى السُّرى **** وللنومِ أحلى عندَه من جَنَى النحْلِ يكون نُزولُ الرّكبِ فيها كلاّ ولا **** غِشاشاً ولا يَدْنونّ رَحلاً إلى رَحلِ نجد جريراً – هنا – يحافظ على التوازن الصوتي الذي يحافظ على تشابه حروف اللفظ في الكلمة الأخيرة من كل بيت، واقتراب صوتياته من الآخر "محل"، "نحل"، "رحل". وهو هنا يحافظ على الجذر الصوتي؛ حيث يظل واحداً في نهاية الأبيات الثلاثة مع تغيير حرف واحد فقط، هو "الميم"، "النون"، "الراء" على الترتيب. وهذا أدى بدوره إلى اختلاف المعنى في نهاية كل بيت. ويقول جرير أيضاً[3]: أبا المَوْتِ خَشَتْني قُيون مُجاشِعٍ **** وما زلتُ مجنيّاً عليه وجانيا تراغيتُم يَومَ الزُّبَير كأنكُمْ **** ضِباعٌ بذي قارٍ تُمَنَّى الأمانيا وآب ابنُ ذيالٍ بِأسْلابِ جارِكُمْ **** فسُمِّيتُمُ بَعْدَ الزُّبيرِ الزَّوانيا فبالإضافة إلى قصد جرير المحافظة على التوازن الصوتي، عن طريق تشابه الألفاظ وبالتالي اقتراب صوتياته من الآخر، نجده يلجأ إلى الحِيل والألعاب الصوتية، فيستبدل "الميم" في "أمانيا" بدلاً من "الجيم" في "جانيا"، والزاي والواو في "زوانيا". وهذه الطريقة مهمة جدّاً في حال إلقاء الشعر شفاهة؛ لأنّها تلفت انتباه السامع، وبالإضافة إلى ذلك، نجد الشاعر في الأبيات الثلاثة السابقة يلجأ إلى تجنيس الصيغة، ويعتمد في ذلك على تكرار ثنائيات من الكلمات تتوافق في الحروف وتختلف في المعنى "مجنياً/ جانيا" في البيت الأوّل، وأحياناً أخرى تتوافق في الحروف والمعنى معاً "تمنى/ الأمانيا" في البيت الثاني. وهذه الصيغ بالإضافة إلى أنها تعمل على جذب انتباه المتلقي وإعطائه فرصة للتذوق والقياس الصوتي والفكري، فإنّها تُثير انتباه الشاعر الآخر، لذا يمكن القول بأنّ الهندسة الصوتية في قصائد النقائض، لعبت دوراً مهماً في استثارة الشاعر المنافس شعرياً.. وقد يعمد الشاعر – أحياناً – إلى تبديل مواضع الحروف؛ ليفيد من إمكانات الجذر الصوتي، وذلك كما في قول جرير[4]: وأعطَيتُ عمراً مِن أُمامَةَ حكمة **** وللمُشترى مِنهُ أمامَةَ أربَحُ صحا القَلْبُ عن سَلْمَى وقد برحت به **** وما كان يلقى منْ تُماضرَ أبْرَحُ فجرير يستخدم التوازي الصوتي بين "أرجح/ أبرح" فالأصوات في الكلمتين واحدة، ولكن جريرا عمد إلى تبديل موضع "الباء" مكان "الراء"، و"الراء" مكان "الباء"؛ لإقامة توازٍ صوتي في نهاية البيتين، وتقريب صوتياته من الآخر؛ لكي يحدث إيقاعاً صوتياً معيناً، تتفاعل معه أذن المتلقي وتجذب اهتمامه. وهذه الألعاب الصوتية تُظهر قدرات لغوية خاصة لجرير، الأمر الذي يثير شاعرية الفرزدق، فيشرع في استخدام مهاراته اللغوية في التعبير عن نفسه، فنراه يعمد إلى تغيير حرفين من الكلمة؛ ليفيد – أيضاً – من إمكانات الجذر الصوتي، كقوله[5]: فَحَرّكَ أعلى حَبْله بِحُشاشةٍ **** ومن فْوْقِهِ خضْراءُ طامٍ بُحُررُها فما جاء حتى مَجّ والماءُ دونهُ **** مِنَ النَّفْس ألواناً عبيطاً نَحِيرُها فالفرزدق يستخدم التوازي الصوتي بين "بحورها/ نحيرها" فوضع "النون" في "نحيرها" مكان "الباء" في "بحورها"، و"الواو" في "بحورها" مكان "الياء" في "نحيرها"؛ لكي يحافظ على الجذر الصوتي بين الكلمتين. وقد يرسم الشاعر هندسة صوتية خاصة؛ ليضفي على نصه نوعاً من الخصوصية، كأن يأتي بكلمة في نهاية البيت، ثمّ يأتي بمقطعين من الكلمة نفسها في نهاية البيت التالي، وذلك كما في قول الفرزدق[6]: وراحَتْ تَشُلُّ الشَّول والفَحْلُ خَلْفَها **** زَفيفاً إلى نِيرانِها زَمْهَريرها شآميةٌ تَغْشَى الخَفائِرُ نارَها **** وَنَبْحُ كِلاب الحيِّ هَرِيرُها أتى الفرزدق بكلمة "زمهريرها" في نهاية البيت الأوّل، ثمّ كلمة "هريرها" في نهاية البيت التالي، ليؤسس لمنظومة صوتية، تعتمد على هندسة صوتية تتسم بالخصوصية، وتعطي شكلاً خاصاً للنص، وكلما تكررت هذه المقاطع، تكونت نغمة محببة تجذب انتباه المتلقي، هذا بالإضافة إلى أنها تريح الأذن عند سماعها، وتؤدي دوراً مهماً في تحديد المعنى داخل النص المكتوب وتأطيره[7]. الهوامش:[7]- السابق، القصيدة التي تحمل رقم (59)، الأبيات ص521.
المصدر: كتاب لسانيات الخطاب وأنساق الثقافة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق