• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرآن وقانون التنازع في البقاء

محمد حسين الطباطبائي

القرآن وقانون التنازع في البقاء

يعتقد كثير من علماء الطبيعة بأن تطور الأحياء وتكاملها يخضع لنظام "تنازع البقاء وانتقاء الأصلح".
فالنباتات والحيوانات تتمتع بصفات وخصائص تجعلها في نزاع مستمرّ مع غيرها من الأحياء ويكتب النصر دائماً للأقوى.
وتعمل الطبيعة على سحق الأحياء الضعيفة لتبلغ بالأقوى إلى الكمال.
ويستند العلماء في إثبات وجهة نظرهم إلى التجارب والبحوث العلمية وكيفية انقراض الحيوانات المختلفة من وجه الأرض.
ويطبق علماء الاجتماع نفس النظرية على المجتمعات البشرية حيث يؤكدون بصراحة بأنّ البقاء هو للأصلح.
وعلى ضوء النظرية السابقة تفسّر الحقائق التاريخية واندثار الحضارات القديمة وانقراض الأُمم المتباينة.
يرفض بعضهم نظرية بقاء الأصلح استناداً إلى المشاهدات في عالم الأحياء حيث نرى الحيوانات الواطئة الضعيفة تعيش في كنف القويّة.
وقد استطاع الإنسان أن يؤثر في الكائنات الحيّة بالتربية ويعمل على تحسين بعض الحيوانات الوحشية وتطورها إلى كائنات ارقى في حين اضمحلّت وزالت التي لم تنل العناية أو بقيت على ما كانت.
ولذا التجأ بعض العلماء بقانون التكيّف للبيئة، فكل كائن لابدّ له وأن يتأثر بالظروف الجغرافية والمناخية والعوامل الطبيعيّة التي تحيط به ويكيّف نفسه لملائمة الظروف ومقاومة الأعداء وهؤلاء يفسّرون جميع التطوّرات على ضوء قانون التكيّف للبيئة.
وتكيّف الأحياء الحيوانية والنباتية لشروط البيئة لا يطابق كلياً قانون تنازع البقاء واختيار الأصلح.
وحتى الفرضية الثانية القائلة بالتكيف لا ينطبق على جميع الأحياء. ومن هذا نستنتج بأنّ القواعد الثلاث المذكورة ليست قواعد عامة ولا يمكن تطبيقها في كل الحالات.
هذا ويؤدي تعميم قانون تنازع البقاء وانتقاء الأصلح بالنسبة للعلاقات الاجتماعية إلى الفساد وسوء المصير. فقانون تنازع البقاء يبيح الحرب ويعتبرها ضرورة طبيعية. وقانون انتخاب الأصلح يحرم الضعفاء حق الحياة، ويشجع الأقوياء على التعسف والتعدي.
وأمّا قانون التكيف للمحيط فيخلق عبيداً أو يسلب الإنسان استقلاله الفكري والروحي حيث يرى التبعية أمراً طبيعياً..
ولكن تعتمد الأصول الفلسفية على الفكرة القائلة:
إنّ جميع التغيّرات والتطورات المادية وكذلك أساس ظهورها تخضع لقانون العليّة والمعلوليّة، فقانون العلية يؤكد على تأثير كل موجود مادي في بقية الموجودات.
وبعبارة أخرى كل موجود يحاول أن يأخذ من غيره ويضيف إلى نفسه، وبهذا يفسر موضوع العلل والمعلولات المادية نظرية التنازع على البقاء.
ومن ناحية أخرى نلاحظ بأنّ موضوع التأثير والتأثر يشمل جميع الموجودات، فالعوامل الأقوى تؤثر بصورة تدريجية في الكائنات الأضعف وتحاول تغييرها إلى شكلها.
وهذا التأثير يؤدي بدوره إلى بقاء الأقوى وزوال الأضعف. وبالتالي يفسر قانون بقاء الأصلح.
ولكي يتم فعل قانون التأثير على ضوء العلة والمعلول يجب أن يستقر كائن ما تحت تأثير ظروف وعلل بيئوية وهذا يفسر قانون التكيف للبيئة.
ونستنتج مما سلف بأنّه يمكننا أن نجد الجذور الأساسية للأركان الثلاثة التي مر ذكرها في قانون العلية والمعلوليّة.
ويجب أن نؤكد بأن تطبيقها يخص حالات معيّنة خاضعة لهذا القانون، أي في المواضيع التي يكون فيها التأثير والتأثر خاضعاً لقانون العليّة والمعلولية.
وما لم يتحكم فيه قانون العلة والمعلول يعتبر خارجاً عن نطاق تلك الأسس.
وأمّا في نظر القرآن فقد ظنَّ بعض المفسرين بأنّ الآيات التالية تشير إلى أصل تنازع البقاء والانتقاء الطبيعي:
1- (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرعد/ 17).
فيفسرون الآية بقولهم: إن طوفان الأحداث لا تبقى ولا تذر رعاع الناس في معركة تنازع البقاء، بل تستأصل شأفتهم كزبد البحر الذي يجرف معه الباطل ويذهب هباء ليفسح المجال للأفضل ليحل محلهم.
2- (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 39-40).
ويشرح هؤلاء صدر الآية بقانون تنازع البقاء وعجزها بانتخاب الأصلح.
3- (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 251).
ويؤكدون بهذه الآية الإشارة إلى القانون المذكورين.
ولكن قانون تنازع البقاء وانتقاء الأصلح كما ذكرنا سابقاً ينطبق على بعض الحالات دون غيرها.
ولا ننكر أنّ القرآن الكريم يؤكد هذه الحقائق وأمثالها بصورة عامة، ومع ذلك فإنّ الآيات المذكورة لا علاقة لها بالقوانين.
فالآية الأولى تخبرنا بأنّ الحق يثبت أبداً بينما يزهق الباطل، سواء حدث بينهما تنازع أو لا.
وتستشهد الآية بالسيول والزبد على بقاء الحق وفناء الباطل، فالزبد يزول والأراضي الخصبة التي تنتج على أثر السيول تعمل على نمو النباتات المختلفة، وكذلك الآية الثانية والثالثة فهما تشيران إلى انتصار أهل الحق على أهل الباطل.
ومما لا يخفى أنّ الإنتصار لا يعود إلى شدّة بأس أهل الحق وقواهم الطبيعية (كما يقول قانون التنازع وانتخاب الأصلح) بل يعود إلى تأييد ونصر إلهي. والآية الثانية تصرح بضعف القوى المادية لفريق الحق.
نحن نعتقد بأنّ المجتمع البشري يدور حول محور الاستخدام والآية الأخيرة تشير إلى ذلك.
ملاحظة: يحب الإنسان غريزياً أن يسخر ويستثمر قوى غيره لمصلحته الخاصة، ولا يرغب الفرد في تسخير قواه لمنفعة غيره مجاناً. وهذا أدى إلى أن يجند جزءاً من قواه لخدمة غيره حتى يستثمر جهود الأفراد الباقين.
وتوظيف الطاقات والنشاطات في ميدان النفع والانتفاع سبب تكوين المجتمع التعاوني.
فهذا الاتفاق المستمر في استغلال المواهب الإلهية واستخدام الطاقلات المثمرة يصون المجتمع ويضمن تقدمه وتكامله.
ويكتب الفناء لكل نظام يخل بالأساس التعاوني في المجتمع لأنّه – كما يقول القرآن – يبعث على الفساد في الأرض لعدم توافقه مع الناموس الطبيعي والغريزة الإنسانية.
فالقصد من الآية هو روح التعاون وأهميتها في بقاء وتماسك المجتمع.
فهي لا تصرح بأنّ الله يبيد قوماً بواسطة آخرين حتى يتحقق قانون التنازع، فالدفع لا يرمي إلى الإبادة وتفسخ المجتمع..

المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 40 لسنة 2010

ارسال التعليق

Top