وكان ذلك إيذاناً بتفكّك الكتلة الشرقية ونهاية الحرب الباردة بكل إفرازاتها الإيديولوجية والسياسية والعسكرية، وبداية مرحلة جديدة من سماتها الأساسية هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم وبروز مفاهيم جديد بدأت تظهر على السطح وتأخذ إطروحات سياسيّة وفكريّة لرسم ملامح العالم لمرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وإن مصطلح العولمة، شأنها شأن – الهوية – والحداثة، أو الحداثية، والديمقراطية وحقوق الإنسان والخصخصة أو التخاصية والنظام العالمي الجديد، وبعض المصطلحات والألفاظ الأخرى الشائعة منذ سنوات التي ما تزال يكتنفها الغموض والتي يذهب بعض النقاد والمبدعين والمحللين الاجتماعيين مذاهب شتى في فهمها وتعريفها وتفسيرها، ولذلك تأتي أحكامهم وطروحاتهم غامضة ومتباعدة ومتنافرة بسبب غموض منطلقاتهم واختلاف هذه المنطلقات، حتى أصبح الباحثون في هذا الموضوع والمتحدثون عنه يتساءلون هل من الأفضل أن تترك هذه الألفاظ والمصطلحات وأمثالها دون تحديد – ربما لأنّها بطبيعتها غير قابلة للتحديد –.
والعولمة في أصلها اقتصادية، قائمة على إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة لإتاحة حرِّية تنقل السلع ورأس المال ومع أنّ الاقتصاد والتجارة مقصودان لذاتهما في العولمة إلا أنّها لا تقتصر عليهما وحدهما وإنّما تتجاوزهما إلى الحياة الثقافية بأنماطها الأدبية والفنية والتراثية والفكرية جميعها.
وإنّ ميلنا إلى العولمة، كالحداثة، إنّما هي ظاهرة العصر وسمتُهُ وإنّ الوقوف في وجهها أو محاولة تجنبها أو العزلة عنها إنما هو خروج على العصر وتخلّف وراءه وعلينا أن نُسارع إلى دراسة عناصر هذه العولمة وفهم مكوّناتها، والتنبه لاتجاهاتها ثمّ علينا أن نتعامل معها من موقع الثقة بالنفس والإدراك العميق لخصائص ثقافتنا واستخراج كوامنها الأصيلة، وجواهرها الحقيقية أو تعريفها للتفاعل مع تلك الثقافة العالمية الوافدة: أخذاً وعطاءً، ولا يجوز لنا أن نقف مكتوفي الأيدي، عاجزين عن القيام بعمل حقيقي وفعل أصيل، ثمّ نتخبط في ردود أفعال آنية تلّفنا دوامتها فندور حول أنفسنا في حلقة مفرغة حتى يصيبنا الدوار.
لقد امتلأت قنواتنا الفضائية بالغناء الفاحش والرقص المائع والبرامج الهزيلة في الوقت الذي نتعرض إلى هجوم واسع وسيل كاسح عبر وسائل الإعلام الغربية، من تشويه صورة العرب والمسلمين وإلصاق التهم الباطلة لهم وقلب موازين الحقيقة وطمس حقوقهم المشروعة وتغييب ركائز العدل والإنصاف نحو الظلم والاعتداء.
إنّ الدعوة إلى التفاعل الثقافي مع العولمة: أخذاً وعطاءً دون وجل ومن موقع الثقة بنفوسنا وبثقافتنا وبحضارتنا، إنما تستلزم القدرة على الإسهام والمشاركة وذلك يتطلب أن يكون لدينا ما نسهم به ونشارك.
حيث لم يكن من السهل على حركة الخط العربي في هذا الوقت وعند بعض المجتمعات أن تبقى ثابتة القوى راسخة البنيان، وذلك أنّ ثورة العولمة تسير جنباً إلى جنب مع التيارات التي تتمسك بمبدأ التغيير والتبديل، وتمضي في كثافة شعوبية ومساندة مجتمعيّة ومسلحة بتكنولوجيا حديثة بدأت تغزو ثقافة الفنون.
وترتكز على أكتاف الذين يهرولون وراء شعارات براقة ومسميات لمّاعة تدخل جميعها في تغييب عنصر التراث والأصالة.
ذلك أنّ القليل من الناس هم الذين ينظرون إلى حركة الخط العربي بأشكال متنوعة واتجاهات متعددة وأنماط مختلفة وإنّ هذه القلة القليلة لا يمكن لها أن تستطيع أن توقف تياراً هائجاً يحملون جميع وسائل الدعاية وبألوان الطيف المختلفة وبأجهزة حديثة متطورة.. لذلك قامت هذه الثورة على أنقاض هؤلاء القلّة. كما إنّ التيار في مجتمعاتنا تنظر إلى حركة الخط العربي من منظور الإعلان والصورة والحجم والدلالة. وهذه الجوانب تبقى منغلقة على هؤلاء الذين لا يملكون من المميزات الجماليّة لهذا الفن إلا النذر اليسير.
وإنّ معظم مجتمعاتنا وحتى النخب المثقفة تعاني من غياب ثقافة هذا الفن. لذلك تبقى مفاهيمهم سطحية (كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا) (البقرة/ 264)، من هذا المنحى فهم لا يكترثون بغياب هذا الإرث الحضاري الذي يقوم بدوره على صياغة تراث أمّة بأكملها، وإن أيّ تهميش وضياع لهذا الفن هو بالضرورة انعكاسٌ مباشر إلى جوهر هذا التراث، والذي يُعد إحدى ثوابت الأُمّة.
لذلك فالمتغيرات الدولية، وسرعة حركة وسائل الإعلام وغياب روح المسؤولية جعلت معظم الناس تستجيب لهذه الظاهرة وتتمسك بها.
وإذا انتقلنا إلى البعد الأخلاقي لهذا التغيير فإنّ مجموعة من الأسئلة ستثار في هذا السياق.
فأوّلاً: علينا أن نتعرّف على هدف عولمة الخط العربي في هذا الوقت بالذات ذلك أنّ الأُمم تفتخر بتاريخها المجيد وتستنهض أبناءها في سبيل الحفاظ على على ذلك التراث كما إنّ غياب ذلك التاريخ هو في الوقت نفسه تفكيك كيان الأُمّة ورميها بعيداً عن الضوء والدراسة والبحث والتأويل.
والأُمّة التي تفقد جزءاً من تاريخها هي الأُمّة التي تستسلم للضياع وتفقد مقوّمات الإبداع.
كما إنّ أيَّ بادرة في دراسة ذلك التاريخ سيكون غائباً ومهمشاً، وهذا بالفعل هو ما تنادي به الجانب الثقافي والفكري من هذه العولمة، عبر منظومة قوية قادرة على إضفاء روح القابلية والاستجابة وليس التشريع عند معظم الناس.
وإنّ أي خلل أو تفكيك لذلك التراث سيفقد الأحكام القيميّة التي تأتي من ظهراني ذلك الفن بأبهى حالاته وأجمل صوره.
كما إنّ نتاج ذلك الفن ليسَ مقتصراً على شخص دون آخر وهي ليست رؤى شخصيّة، ولكنها تاريخ أمة قامت بها مجموعة من الجهابذة والفنّانين والمحترفين والموهوبين الذين فتحوا العالم وأضاؤوا على الدنيا نوراً وهّاجاً، وحملوا إلى الإنسانية حللاً من العبقرية التي قلَّ نظيرها كانت رسالة الحق والخير والجمال.
فلا ننسَ أنّهم خير من تذوّقوا الناحية الفنية في الخط، وتحسسوا حلاوة الحرف وجماله حين يكون جزءاً من بناء متكامل "لقد زاوجوا بين المعنى والشكل في براعة نادرة ونفخوا في رسم الكلمات روحاً شفافة، تتراءى بين الحروف، لتصبح الجملة المكتوبة آية يموج فيها الجمال الحيّ النابض".
هؤلاء الذين أنجبهم التاريخ في لحظة نادرة كي يرسموا المعالم الهامّة والقيم النبيلة لهذا الفن العريق، والضارب جذوره في أعماق التاريخ.
فالقضية ليست قضية رأي، ولكنها قضية مبدأ، ترتكز على سيادتها مجموعة كبيرة من الأبحاث والدراسات التي تلم بجوانب التراث والحضارة.
فالتطور الذي حصل للصحافة والمجلات العربية من تغييب لنمط الحروف وأنواعها المتعددة فالذين يهتمّون في اقتنائها يقتنعون بتلك التبدلات ويتأقلمون مع ما تبثُّ به تلك المنظومة الثقافية.
وفي هذه الحالة سيبقى الخط العربي وحده رهين الاعتقال والتهميش والانحياز بعيداً عن ساحة العمل الجاد والدراسة العميقة والمكاشفة.
ذلك التطوّر حصل أيضاً مع الطبقة الحديثة للكتب المدرسية من قِبَل وزارة التربية التي خرجت مليئة بالإبداع التقني ولكنها فاقدة ذلك التوهج الذي كان يمتلئ به صدر الكتاب من يد الخطّاط المبدعة والمليئة بالروحانية إلى حروف جامدة خاوية خالية من الأحاسيس والشعور وكأنها أسقف مستعارة لبيوت مسبقة الصنع.
كل هذه الآراء تخص الجانب الكتابي للغة العربية، فكلّما كانت اللغة عظيمة فإنّ الجذور المرتبطة بتلك اللغة تبقى أعظم وأشمل وأرقى وأكمل.
ذلك أنّ اللغة هي وليدة الكتابة ولولا الكتابة لما ظهرت اللغة. وكلما ارتقت اللغة بخطوات حاسمة نحو التألق والتباهي فإنّ ذلك يجب أن يعكس بشكل مباشر على خاصية الكتابة التي خرجت منها تلك اللغة.
إلا أنني أرى الواقع عكس ذلك.. فشوارعنا ومكاتبنا ومدارسنا وأماكن تجمعنا مليئة بتلك الخطوط المقولبة التي تأخذ طابع الجمود في جميع حالاتها.
ففي الوقت الذي يعترف فيه أعداء اللغة العربية من المستشرقين وغيرهم بقوّة اللغة العربية وحيويتها وسرعة انتشارها حيث يقول: "أرنست رينان".
"من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سَلِسَه أي سلاسة، غنيّة أي غِنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أيّ تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأوّل أمرها تامّة مستحكمة، من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأُمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر حتى إنّه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى".
ويقول جورج سارنوت: "ولغة القرآن على اعتبار أنّها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة، وقد وهبها الرسول (ص) مرونة جعلتها قادرة على أن تدوّن الوحي الإلهي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن يعبّر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد".
ويقول بروكلمان: "بفضل القرآن بلغت العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأنّ اللغة العربية هي وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا اكتسبت اللغة العربية منذ زمان طويل، مكانة رفيعة فاتت جميع لغات الدنيا الأخرى التي تنطق بها الشعوب الإسلامية.
هذه الأقوال هي بعض الشهادات التي نطق بها هؤلاء المستشرقين الغربيين حول مكانة لغتنا العربيّة بين الأُمم والشعوب.
فالحرف العربي يُعد بمثابة البناء المتكامل القوام لتلك اللغة الرشيقة والصوت الصّادح بالعذوبة والرِّقة والكمال، فهو رداء اللغة ولابُدّ أن نكسوها بنبض العبقرية وجمال الحرف وروعة الكلمة.
· مصادر البحث
- مجلة الفيصل: محمد نشطاوي العدد 325 – العالم الإسلامي بين نهاية التاريخ وصدام الحضارات.
- نحن والآخر: ناصرالدين الأسد. المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت – لبنان – ط1/ 1977م.
- نحن والعصر: ناصرالدين الأسد – نفس الدار ط1/ 1998م.
- مجلّة التراث العربي: العدد 90، حزيران 2003م – د. محمد يوسف الشريجي – أثر القرآن الكريم في اللغة العربية والتحديات المعاصرة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق