• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الوعي بالمستقبل

الوعي بالمستقبل

يعدّ الوعي بالمستقبل واستشراف آفاقه وفهم تحدّياته وفرصه من المقومات الرئيسة في صناعة النجاح سواء على الصعيد الشخصي أو على الصعيد الاجتماعي أو على الصعيد الحضاري؛ فلا يمكن أن يستمر النجاح لأحد إذا لم يكن يمتلك رؤية واضحة لمعالم المستقبل.

  المحور الأوّل: أهمّية الوعي بالمستقبل

1-         التعامل مع الحاضر

2-         الإعداد للمستقبل

3-         فهم العصر

المحور الثاني: كيفية تكوين رؤية للمستقبل

1-         دراسة الماضي وفهم الحاضر

2-         متابعة وفهم المتغيرات الجديدة

3-         الاطلاع على قضايا المستقبل

فالنجاح الدائم إنّما يرتكز على الوعي بالمستقبل. أمّا وعي الحاضر فهو وإن كان مهماً وضرورياً إلّا أنّه لا يكفي لوحده لصناعة النجاح الدائم، بَيْدَ أنّه قد يكفي لنجاح مؤقت ولكنّه نجاح يعقبه الفشل الذريع في غالب الأحيان إن لم يكن مصحوباً بفهم الحاضر ووعي المستقبل.

وأريد التركيز على محورين في موضوع الوعي بالمستقبل وهما:

المحور الأوّل: أهمّية الوعي بالمستقبل

تنبع أهمّية الوعي بالمستقبل وتشكيل رؤية واضحة عن أبعاده ومعالمه من النقاط التالية:

1-   التعامل مع الحاضر

إنّ مَن لا يملك رؤية واضحة للمستقبل لا يعرف بصورة صحيحة كيف يتعامل مع الحاضر؛ ففهم الحاضر يتطلب فهم المستقبل، وبناء الحاضر يجب أن يرتكز على استيعاب آفاق المستقبل.

وكثير من الناس يخفقون في حياتهم العملية لأنّهم ببساطة لا يمتلكون وعياً بالمستقبل، ومن ثمّ، يخبطون خبط عشواء في حياتهم الحاضرة، ولذلك فإنّ وعي المستقبل مهم لفهم الحاضر، ومعرفة التعامل معه.

ومن المهم للغاية إدراك أنّ الحاضر الآن سيصبح بعد فترة من الزمن ماضياً، وأنّ المستقبل سيكون هو الحاضر؛ وإدراك هذه الحقيقة الواضحة بجب أن يكون المنطلق للتعامل مع الحاضر برؤية ثاقبة.

ومشكلة البعض من الناس أنّه يتعامل مع الحاضر بعقلية الماضي، ويجهل أبسط معالم المستقبل، هؤلاء بالتأكيد لن يحالفهم النجاح في الحاضر فضلاً عن المستقبل، بَيْدَ أنّهم يضيعون على أنفُسهم الفرصة تلو الأُخرى اعتماداً على فرصة أفضل ستأتي فيما بعد، ولكن الفرصة قد تأتي مرّة أُخرى وقد لا تأتي، يقول الإمام عليّ (ع): «الفرصة تمر مَرَّ السحاب، فانتهزوا فرص الخير» وعنه (ع) أيضاً قال: «إضاعة الفرصة غصة» وقال (ع) أيضاً: «الفرصة سريعة الفوت، بطيئة العود» ولذلك فمن يملك فهماً للحاضر ووعياً بالمستقبل يغتنم كلّ فرصة تأتي؛ لأنّ الفرص نفسها لا تتكرّر، وإذا تكرّرت قد لا تملك القدرة على استثمارها؛ فإن شئت النجاح والتقدّم فاغتنم كلّ فرصة، وبادر إلى كلّ خير، ولا تؤجِّل عمل اليوم إلى الغد.. وبهذا تستطيع أن تحلّق في سماء النجاح والتفوق والتقدّم.

2-   الإعداد للمستقبل

الإعداد للمستقبل إنّما يتم في الحاضر؛ بحيث يكون الفرد أو المجتمع قادراً على تشييد البُنَى التحتية المهمّة لتشييد المستقبل. ومَن يبدأ بالعمل للمستقبل في الحاضر يستطيع النجاح والتقدّم والتطوّر في الحاضر والمستقبل، أمّا مَن لا يفكّر إلّا في اللحظة الحاضرة فإنّه لن يكون قادراً على التكيّف مع المستقبل، بالإضافة إلى أنّه قد يفشل حتى في الحاضر.

وقلة من الناس مَن يعمل بجد واجتهاد من أجل المستقبل، ومن يُعدّ نفسه لتحدّيات وفرص المستقبل؛ وهؤلاء القلة - عادة - هم من يُمسكون زمام الأُمور في المستقبل.

ومَن يريد النجاح في المستقبل عليه أن يُعدّ نفسه في الحاضر، فالطالب مطالب بتأهيل نفسه علمياً وعملياً كي يتمكّن من تحقيق أحلامه وآماله في المستقبل، والتاجر عليه أن يُعدّ نفسه من الآن لمواجهة تحدّيات المستقبل، وما ستفرضه (العولمة الاقتصادية) من تحدّيات جديدة، وفرص جديدة، في ظل تحرير الأسواق العالمية من جميع الحواجز والحدود والسدود، والكاتب كما المفكّر عليه أن يرتقي إلى مستوى المنافسة والتحدّي الذي تفرضه (العولمة الثقافية)، وتعدّد القنوات الفضائية، وانسياب المعلومات عبر شبكة (الإنترنت) العالمية، وتدفق الأفكار والمعلومات كتدفق الأمطار الغزيرة في فصل الشتاء… وهكذا يجب على كلّ شخص في مجال عمله وتخصّصه أن يُعدّ نفسه في الحاضر ليرتقي إلى ما يتطلبه المستقبل من مؤهلات علمية وعملية. وكذلك الحال بالنسبة إلى المجتمعات؛ فكلّ مجتمع مطالب بالبناء والإعداد في الحاضر بجد وإخلاص من أجل الارتقاء إلى ما تفرضه تحدّيات وفرص المستقبل.

3-   فهم العصر

تنبع أهمّية الوعي بالمستقبل من أهمّية فهم العصر الذي نعايشه؛ فلا يمكن فهم العصر ولغته من دون فهم المستقبل وآفاقه؛ فلكي نفهم العصر علينا أن نفهم المستقبل الذي ينتظرنا.

ومعرفة العصر ضرورة من الضرورات المهمّة في حياتنا؛ حتى لا نُفاجأ بأحداث لا نتوقعها؛ فمَن يعرف العصر (الزمان) لا يُفاجأ بأحداث المستقبل. وقد أشار الإمام عليّ (ع) إلى ذلك بقوله: «أعرف الناس بالزمان مَن لم يتعجب من أحداثه»، ويقول الإمام الصادق (ع): «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس» فمعرفة (الزمان) الذي نعايشه ونعيش فيه يحمي الإنسان من الوقوع في الأخطاء، أو مفاجأة الأحداث له من غير أن يكون محتسباً لها. كما أنّ الوعي بالزمان يعني الوعي بالمستقبل من خلال فهم ما يجري في الحاضر، وما يُخطط له من أجل المستقبل.

المحور الثاني: كيفية تكوين رؤية للمستقبل

يمكن لنا تكوين صورة واضحة ورؤية ثاقبة عن معالم المستقبل وآفاقه من خلال اتباع ما يلي:

1-   دراسة الماضي وفهم الحاضر

لكي نُكَوِّن رؤية عن المستقبل علينا أن ندرس الماضي، ونستفيد من دروسه، كما ينبغي فهم الحاضر ومكوناته؛ كما أنّه من المهم ربط المستقبل بما يحدث في الحاضر، واستيعاب دروس الماضي بما فيها من نقاط قوّة أو ضعف، فغالباً إن لم يكن دائماً ما يكون تطوّر المجتمعات الإنسانية ناتجاً من عملية تراكمية. أمّا مجرد التغني بأمجاد الماضي كهروب من مواجهة الحاضر والاستعداد للمستقبل فهو لا يعدو أن يكون إلّا خداعاً للنفس؛ كما أنّه يشكّل أكبر خطورة على مستقبلنا وحاضرنا؛ إذ إنّ ذلك يعني أنّنا نعيش في الحاضر على أغاني الماضي وبطولاته، فيما لا نبذل أي جهد من أجل صناعة الحاضر والمستقبل.

والمطلوب دراسة الماضي لنستفيد من دروسه وعبره؛ فالتاريخ يعيد نفسه في غالب الأحيان؛ كما أنّ من الضروري فهم الحاضر بكلّ جوانبه وأبعاده ومكوناته لكي نفهم كيف نتعامل معه ونستثمر نقاط القوّة المتوافرة فيه.

وإذا استطعنا استيعاب دروس الماضي واستثمارها من أجل العمل في الحاضر، وفهم الحاضر بكلّ جوانبه.. فإن هذا سيكون خير معين لنا لنفهم آفاق المستقبل وأبعاده ومعالمه.

2-   متابعة وفهم المتغيرات الجديدة

يتميز عالم اليوم بالكثير من التطوّرات والتغيرات والمستجدات على مختلف الصُّعُد والمستويات؛ ولكي نفهم المستقبل لابدّ من متابعة جميع المستجدات والتغيرات المتلاحقة، والسعي لفهم ما يجري، وتشكيل رؤية تجاه ما يحدث وما سيحدث، وقراءة المتغيرات بروح علمية ومنهجية ومنطقية.

وممّا يؤسف له حقّاً أن يعيش البعض منا الحاضر - وفي الألفية الثالثة - ولكن بعقلية قديمة، بل وموغلة في القِدَم، وكأنّه غير معني بما يحدث في الحاضر من تغيرات سريعة لم تشهد لها البشرية مثيلاً على طول تاريخها الطويل.

إنّ تكوين الوعي بالمستقبل يستلزم بالضرورة أن نفتح أعيُننا وقلوبنا على كلّ ما يجري من حولنا من تغيرات سواء في عالم السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو التعليم والتربية أو الإعلام ووسائل الاتصال الأُخرى أو التكنولوجيا والتقنية المتقدمة… وغير ذلك كثير.

ومن المفيد للغاية أن نحلّل كلّ التغيرات، ونتابعها بدقة وموضوعية، ونرصد التحولات التي تحدث في مختلف المجتمعات الإنسانية إذا ما أردنا أن نفهم معالم المستقبل وآفاقه.

3-   الاطّلاع على قضايا المستقبل

قضايا المستقبل تشمل عناوين كثيرة، ومواضيع متعدّدة، سواء ما يتعلّق بالأفراد أو المجتمعات أو الدول. وفي الغرب توجد العديد من المراكز التي تُعنى بشؤون المستقبل وقضاياه، كما توجد الكثير من الدراسات التي تتناول قضايا المستقبل، كما تصدر العديد من المجلات المتخصّصة التي ترصد قضايا المستقبل ومعالمه. ومن المؤسف حقّاً أنّه لا يوجد - إلّا نادراً - في العالم العربي أي اهتمام يذكر بقضايا وشؤون المستقبل ممّا ساهم في غياب رسم إستراتيجية واضحة لشؤون المستقبل وما يرتبط به من قضايا وأبعاد سواء ما يتعلّق بالدول أو المجتمعات أو الأفراد. ومن المهم لكلّ مَن يريد تكوين رؤية للمستقبل الاطّلاع على الدراسات والكُتُب والأبحاث التي تتناول شؤون المستقبل كي يتمكن من تكوين وعي دقيق بالمستقبل.

ومَن يعي المستقبل ويعمل من أجله هو القادر - حاضراً ومستقبلاً - على الإمساك بزمام الأُمور في مختلف الجوانب؛ أمّا مَن لا يفكّر إلّا في اللحظة الراهنة فإنّه لن يستطيع تجاوز تلك اللحظة، أو التعامل مع غيرها. ولذلك نجد في واقعنا الاجتماعي الكثير من الناس ممّن يتحسرون على ضياع الفرص التي أُتيحت إليهم ولم يستثمروها، كما نجد الكثير من الكهول والشيوخ ممّن يتحسرون على ضياع مرحلة الشباب من دون أن يستثمروها في تأهيل أنفُسهم علمياً وعملياً.. ولكن هذا الندم والتحسر يأتي بعد فوات الأوان!

والإنسان العاقل والذكي، كما المجتمع العاقل والذكي.. هو مَن يفكّر في المستقبل ويعمل من أجله بجد واجتهاد.. وهذا هو وحده مَن يحوز على النجاح تلو النجاح في الحاضر والمستقبل معاً.

ارسال التعليق

Top