• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حوار الحضارات.. طموح تفصله مسافات

زكي الميلاد

حوار الحضارات.. طموح تفصله مسافات

الدكتور "هشام نشابة" يبيّن إلى أنّ الدعوة إلى حوار الحضارات، هي من الخصائص الممزية للنصف الثاني من القرن العشرين، ويضيف "فكأنما أدرك العالم أنّ البشرية لا تستطيع أن تتحمل حروباً عالمية جديدة، بعد أن شهدت ما جلبته الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية من ويلات، لم ترافقها حلول للمشكلات الكبرى التي ظل يعاني منها المنتصر فضلاً عن المغلوب. كما بقيت الإنسانية تعاني مشكلات الجوع والفقر والجهل والمرض من جهة، وتردي البيئة وجنون التقدم التكنولوجي والمادية المفرطة من جهة أخرى"[1].

ولعل أنضج طرح اتصف بالانفتاح على الحضارات والجدية سعة الرؤية والاستيعاب التاريخي، هو الذي قدمه "روجيه غارودي" في كتابه "من أجل حوار بين الحضارات" الذي صدر في طبعته الفرنسية سنة 1977م، وفي طبعته العربية سنة 1978م. في هذا الكتاب حاول "غارودي" أن يوجه نقداً قاسياً لسلوك الغرب في تاريخ علاقته بالأُمم والحضارات غير الغربية، ويدعو الغرب إلى أن يعيد النظر إلى ذاته وإلى الآخر الحضاري من خارج محيطه الغربي، والانفتاح عليه، وأكثر من ذلك حين يطالب "غارودي" الغرب بأن يتعلم من الحضارات الأخرى، ويعتبر أن "من الواجب أن نتعلم من الحضارات الأخرى، بصورة أساسية المعنى الحقيقي لعلاقة المشاركة الإنسانية التي تجد كل فاعلية ذاتها وهي تنهض بعبء من أعباء المجتمع المسؤول.. إنّ الحضارات اللاغربية تعلمنا، بادىء ذي بدء، انّ الفرد ليس مركز كل شيء، وأن فضلها الأعظم يرجع إلى أنّها تجعلنا نكتشف الآخر وكل الآخر دون فكرة مبيّتة تضمر التنافس والسيطرة"[2]. كما حاول "غارودي"، أيضاً أن يدفع الغرب إلى رؤية مختلفة للمستقبل، المستقبل الذي لا يجد الغرب فيه إلا ذاته، وإنما شراكته مع الأمم الأخرى على قاعدة أن يخترع الجميع مستقبل الجميع، وهو مشروع الأمل عند "غارودي" الذي عبر عنه بقوله: "إن من شأن إبتكار مستقبل حقيقي أنّه يقتضي العثور مجدداً على جميع أبعاد الإنسان التي نمت في الحضارات والثقافات اللاغربية. وبهذا الحوار بين الحضارات وحده يمكن أن يولد مشروع كوني يتسق مع اختراع المستقبل. وذلك ابتغاء أن يخترع الجميع مستقبل الجميع"[3]. وإذا كان من الصعب على الغرب أن يقتنع برؤية "غارودي" في هذا الكتاب، فإنّه، أي الغرب، بحاجة إلى أن يكون أكثر تواضعاً، وهذا ليس وعظاً، فالغرب ليس هو نهاية التقدم، ولا نهاية العالم، ولا هو نهاية التاريخ كما ظن خطأ "فوكوياما". وآخر ما يختم به "برنارد لويس" كلامه في نقده لـ"هنتنغتون" قوله: "قد كانت هناك حضارات مهيمنة في الماضي، وبدون شك ستكون هناك أخرى في المستقبل، الحضارات الغربية تدمج حداثات سابقة عديدة، بمعنى أنّها مثرية بإسهامات وتأثيرات ثقافية أخرى سبقتها في الزعامة. وهي نفسها ستترك إرثاً ثقافياً غريباً لحضارات أخرى ستأتي"[4]. وكان من الأجدر والأصلح للنخبة في العالم أن تنشغل بأطروحة "غارودي" في حوار الحضارات، لا أن تنشغل بأطروحة "هنتنغتون" في صدام الحضارات، مع ذلك فإن أطروحة "هنتنغتون" أعادت الحديث والاهتمام من جديد إلى مقولة "حوار الحضارات" التي جاءت في سياق الاعتراض على تلك الأطروحة، وانقسام الرأي حولها، لكن بزخم أقل منها. وقد وجد الدكتور "طه جابر العلواني" في هذه الطريقة من الاستعادة في الخطاب العربي والإسلامي، ما ينتقده منهجياً ومعرفياً، إذ يقول: "لعل ما أثير في الفترة الأخيرة من اهتمام بحوار الحضارات يمثل حالة بالغة التعبير عن عمق الأزمة التي يعيشها الفكر العربي والإسلامي. وتتجلى هذه الأزمة في حالة التبعية الظاهرة المتمثلة في نقل الأطر النظرية والفكرية وتبنيها بصورة أيديولوجية، أو في التبعية الكامنة التي تتمثل في فكر المقاربات والمقارنات. وجوهر الأزمة أن من يحدد الإشكالات، ويثير القضايا ويحدد أجندة البحث والاهتمام، وأولويات التفكير، يقع خارج البيئة الفكرية والاجتماعية العربية والإسلامية، ويتحرك في إطار نموذج معرفي، ومعطيات اجتماعية وتاريخية، ومصالح اقتصادية وسياسية، وقيم وأهداف مختلفة إن لم تكن متعارضة متناقضة، مع تلك التي يتحرك في إطارها الباحث والمفكر العربي والمسلم. وقد ارتبطت قضية الحوار بين الحضارات في طرحها الأخير بما أثير حول دراسة "صموئيل هنتنغتون"، عن نفس الموضوع، فبدأ العقل المسلم والعربي ينشغل بهذه القضية وتستحوذ على أولوياته، دون أن يكون ذلك نابعاً من ضرورة اجتماعية، أو إشكالية فكرية، أو مصلحة سياسية للمجتمعات العربية والإسلامية، ودون أن ينبع الطرح من داخل هذه المجتمعات بل جاء من خارجها، وقد حاول هذا العقل أن يقدم إجابات عن سؤال لم ينبع منه ولم يمثل إشكالية ملحة، على الأقل في المرحلة الراهنة لهذه المجتمعات العربية والإسلامية، إذا ما قيس بما يواجه هذه المجتمعات من قضايا وتحديات أخرى"[5]. مع ذلك فإن من المبرر أن يعاد طرح مقولة حوار الحضارات مع ما أثارته من جدل لم ينقطع بعد، مقولة صدام الحضارات، لأن حوار الحضارات هي المقولة الجاهزة والاعتراضية على المقولة الثانية، لكن هل في مقدورها الحلول مكانها؟ هذا ما يصعب إثباته. قد تستخدم وسيلة اعتراض ونقد، لكن هل في مقدورها الحلول مكانها؟ هذا ما يصعب إثباته. قد تستخدم وسيلة اعتراض ونقد، لكن أن تكون هي الأساس في تشكيل رؤية الغرب للعالم والمستقبل، فهذا محل خلاف لعدم وجود ما يسنده من الأدلة والبراهين والشواهد. والذي أتوقف عنده، هل انّ البيئة العالمية وصلت إلى مرحلة من النضج تتقبل فيه حوار الحضارات بالاستعداد الحيوي والتفاهم المشترك! وهل الغرب يسمح لنفسه بأن يدخل في حوار مع حضارات لا يجد فيها التكافؤ معه، وهو المحكوم بعقلية التوازنات المادية! وهل أنّ الحضارات الأخرى كالحضارة الإسلامية والهندية والسلافية والإفريقية وحضارات العالم الثالث، أخذت توازنها الطبيعي في البناء الحضاري، واستعادت مقوماتها وقدراتها بما يؤهلها إلى حوار مع الحضارات الكبرى والمتقدمة في العالم بصورة متكافئة؟ والخلاصة: يبقى أن مقولة حوار الحضارات، هي أصلح وأسبق من مقولة صدام الحضارات على مستوى المعرفة والفكر، لكن الوصول إليها كواقع وممارسة تقف دونه مسافات طويلة تمنع من أن يتقدم العالم خطوات نحوها.   الهوامش:
  [1]- في حوار الحضارت، د. هشام نشابه، ورقة مقدمة لمؤتمر "المسلمون وحوار الحضارات في العالم المعاصر" الدورة العاشرة للمجتمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية. مؤسسة آل البيت، عمان، الاردن، 7-9 صفر 1416هـ/ 5-7 تموز – يوليو 1995م. [2]- حوار الحضارات، مصدر سابق، ص190-191. [3]- المصدر نفسه، ص9. [4]- مقالة برنارد لويس، السفير، بيروت، مصدر سابق.

[5]- الأبعاد المعرفية لحوار الحضارات. د. طه جابر العلواني، ورقة لمؤتمر "المسلمون وحوار الحضارات في العالم المعاصر" الدورة العاشرة للمجتمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية. مؤسسة آل البيت، عمان – الأردن، 7-9 صفر 1416هـ/ 5-7 تموز – يوليو 1995م.

المصدر: المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟

ارسال التعليق

Top