يتألف الجهاز الهضمي من القناة الهضمية ومن أعضاء وغدد مساعدة. تبدأ القناة الهضمية بالفم الذي يتصل بالبلعوم، ثمّ يليه المريء فالمعدة فالأثنا عشر فالأمعاء الدقيقة فالأمعاء الغليظة التي تنتهي بالمستقيم والشرج.
هناك غدد لعابية عدة تطرح مفرزاتها المطرِّية والهاضمة إلى تجويف الفم هي: النكفية وتحت اللسانية وتحت الفكية. أما الأعضاء التابعة للجهاز الهضمي والتي تلعب دوراً أساسياً في هضم وتمثيل الأغذية فهي البنكرياس (المعثكلة) والكبد. تسعى كافة أعضاء الجهاز الهضمي إلى غاية واحدة، وهي هضم الأغذية وتحليلها من مواد مركّبة ومعقدة إلى أخرى بسيطة يسهل امتصاصها عبر جدار الأمعاء وبالتالي نقلها إلى الكبد وتحويلها هناك إلى مواد أخرى أبسط وأكثر ملاءمة لخلايا وأنسجة الجسم. فالسكر المركب أو النشاء على سبيل المثال مادة كثيرة الوجود في الأغذية، ولكنها عاجزة عن عبور جدار الأمعاء إن بقيت على حالها من دون هضم وتحليل، ولو أدخلناها إلى الجسم كما هي، كأن نحقنها من طريق الوريد، فسيتعذّر على خلايا وأعضاء الجسم الاستفادة منها أو استهلاكها. ليس هذا وحسب، بل إنّ وجودها في الدم على شكلها الخام من دون أن تخضع لعمليتيِّ الهضم والتمثيل الغذائي سيسبِّب أذية كبيرة للجسم. لذلك يقوم اللعاب وعصارة البنكرياس بتفكيك النشاء إلى مكوّناته من السكر البسيط، بعد ذلك يتم امتصاص جزيئات السكر البسيط عبر جدار الأمعاء الذي سينقلها إلى وريد الباب، الذي يصبُّ في الكبد، الذي تنتهي إليه كافة الأغذية المهضومة. وفي الكبد سيتم تحويل الأغذية إلى مركبات أخرى بسيطة أكثر ملاءمة لخلايا الجسم، وهذا ما يدعى بالتمثيل الغذائي. ومن خلال التمثيل الغذائي ستتحوّل السكريات والنشويات إلى سكر غلوكوز، الذي يعتبر الغذاء الرئيسي والطاقة الأساسية للدماغ ولعضلة القلب ولكافة خلايا الجسم. أمّا الفائض من سكر الغلوكوز فإنّه سيتخزَّن على شكل سكر مركّب (غليكوجين) في خلايا الكبد والعضلات ليتم استخدامه في حالات الإجهاد العضلي والنقص الغذائي كالصيام المديد والمجاعة وما شابه ذلك. وإذا كان الفائض من السكر كبيراً ويفوق حاجة الجسم وقدرته على التخزين فإنّه سيتحول من خلال عمليات التمثيل الغذائي إلى دهون يتم ترسّبها وتخزينها تحت الجلد. إذا تأمّلنا – من خلال البحث – في عملية المضغ والبلع وهضم الطعام في المعدة والأمعاء، وفي الدور العظيم الذي يلعبه كل من الكبد والبنكرياس، وفي آلية تفريغ الأمعاء وطرح الفضلات، سيخشع القلب أمام القدرة الإلهية المذهلة وأمام الصنعة الفذة والعلم الواسع الذي تمخَّض عن هذا الإعجاز وعن هذه الأعضاء البالغة التطور وما تقوم به من أعمال رائعة تأخذ الألباب لتوفِّر للعضوية حاجتها من الماء والبروتينات والسكريات والدهون والعناصر المعدنية والفيتامينات والطاقة التي لابدّ منها للبقاء والاستمرار على قيد الحياة. ولكي ينجز الجهاز الهضمي هذه المهام لابدّ من توافر الأساسيّات التالية: 1- إمكانية دفع الطعام من المريء إلى المعدة ومنها إلى الأمعاء فالوسط الخارجي. 2- صناعة وإفراز العصارات الهاضمة لكافة أنواع الأغذية. 3- القدرة على امتصاص الأغذية المهضومة. 4- توافر دورة دموية خاصة لتنقل الأغذية المهضومة من جدار الأمعاء إلى الكبد من دون أن يتسرَّب شيء منها إلى الدورة الدموية العامة لئلا تؤذي الجسم. 5- قدرة الكبد على تحويل المواد الغذائية الخام إلى مواد أخرى أكثر ملاءمة لأعضاء وخلايا الجسم المختلفة. 6- توافر سيطرة عصبية وهورمونية على كافة هذه النشاطات. تعتمد الحركة على العضلات الملساء الموجودة في جدار المعدة والأمعاء. تسيطر على هذه الحركة شبكة عصبية محلِّية أوجدها الخالق العظيم في جدار القناة الهضمية، وهي مؤلفة من (100) مليون عصب مستقل لا تخضع للجهاز العصبي المركزي ولا الإنباتي. أمّا الجهاز العصبي الإنباتي فإنّه يسيطر على حركة وتفريغ المعدة والأمعاء وعلى نشاطهما الإفرازي من خلال الألياف العصبية الودية (السيمبتاوية) ونظيرة الودِّية (الباراسيمبتاوية)، كما يشارك الجذع الدماغي والدماغ في كافة النشاطات من خلال العصب المبهم (Vagus nerve). لقد كسا الخالق العظيم جدار القناة الهضمية بطبقتين عضليتين؛ داخلية: وهي ذات ألياف دائرية ملتفَّة حول محيط الأمعاء، وخارجية: وهي ذات ألياف طولانية طول الواحدة من (200-500) مايكرون وقطرها من (2-10) مايكرون، وهي مرتَّبة على شكل حزم عضلية مؤلفة من (100) ليفة. تتَّصل الألياف ببعضها داخل الحزمة الواحدة، كما تتّصل الحزم بعضها ببعض اتصالاً وثيقاً يجعلها تتقلَّص وتتحرّك برمتها في آن واحد فور تعرُّض أحد مراكزها أو أعصابها أو أليافها إلى عامل محرِّض، فتكون النتيجة حدوث حركة واضحة وفعّالة تشمل العضو المحرَّض بأكمله، سواء كان معدة أو أمعاء دقيقة أو غليظة أو غير ذلك. ولتحقيق هذه الغاية، ولإنجاز هذه الأعمال البالغة الدقّة والتعقيد، زوَّد الخالق العظيم القناة الهضمية بشبكتين عصبيتين في جدارها، إحداهما متوضِّعة بين طبقتي العضلات الملساء سميت بشبكة أورباخ Auerbach، والثانية وهي شبكة مايسنر Meissner الموجودة بين طبقة المخاطية وما تحتها. تقوم الأولى بتحريض حركة القناة الهضمية التي ستدفع الطعام من المريء إلى المعدة فالأثني عشر فالأمعاء الدقيقة فالغليظة فالشرج، ومنه إلى الوسط الخارجي. أمّا الشبكة الأخرى فإنها وبحكم تواجدها قريبة من الأغشية المخاطية المبطِّنة للقناة الهضمية فقد خصَّصها العليّ القدير بتحريض إفراز الخمائر الهاضمة وعصارة المعدة والأمعاء، كما تحرِّض امتصاص الأغذية المهضومة. ومن خلال العصب المبهم Vagus يسيطر الدماغ بشكل فاعل على وظائف الفم والبلعوم والمريء والمعدة والاثني عشر والبنكرياس والنصف العلوي من الأمعاء الدقيقة والأقنية الصفراوية. أمّا العصب الحوضي pelvic nerve الذي يخرج من النخاع الشوكي ويعصِّب الكولون السيني والمستقيم والشرج، فإنّه يتحكّم في عملية التغوُّط من خلال الألياف العصبية الباراسيمبتاوية الموجودة فيه. أمّا الجهاز العصبي السيمبتاوي (الودِّي) فإنّه يخرج على شكل ألياف دقيقة من النخاع الشوكي ليصيب بتفرعاته كافة أعضاء وأنحاء الجهاز الهضمي من الفم إلى الشرج. لقد شاءت الحكمة الإلهية الفذّة أن توجد منعكسات عصبية هضمية محليّة في مناطق عدّة من الجهاز الهضمي وهي ذاتية العمل ومستقلة عن الجهاز العصبي المركزي. - من أهم هذه المنعكسات: 1- المنعكس المعدي – الكولوني: بعد تناول الطعام وبعد امتلاء المعدة تنطلق سيَّالة عصبية من المعدة إلى الكولون السيني وإلى الشرج والمستقيم لتفرِّغ محتواها من فضلات من خلال التغوُّط. 2- المنعكس المعوي – المعدي: ينطلق هذا المنعكس من الأمعاء الدقيقة والكولون ليثبط نشاط المعدة الحركي والإفرازي، وكذلك تفريغ الطعام منها. 3- المنعكس الكولوني – المعوي: يثبِّط هذا المنعكس عملية تفريغ محتوى الأمعاء الدقيقة عبر الصمّام المعوي – الكولوني (الصمام البوهيمي). أمّا منعكس بافلوف فإنّه سيهيِّئ المعدة والغدد اللعابية للعمل واستقبال الطعام بمجرد مشاهدته أو شمّ رائحته أو حتى السماع عنه. وبتراكم المواد البرازية في الكولون السيني والمستقيم ستنطلق سيّالة عصبية إلى النخاع الشوكي، الذي سيصدر أوامره إلى عضلات جدار البطن وعضلات قاع الحوض والمعصِّرة الشرجية لتتمِّم منعكس التغوّط. تتم هذه المنعكسات بشكل تلقائي متناغم، لذا لا يدركها الإنسان العادي، ولكن ما إن يختلَّ أحدها حتى تضطرب العضوية بأكملها. فلو تعذَّر التغوُّط، على سبيل المثال، سيتراكم البراز في الكولون والأمعاء وسيتطبَّل البطن بالهواء، ثمّ يتمزق الكولون أو ينفجر، وبذلك تصبح حياة المريض في خطر. سنتابع الآن لقمة الطعام لنرى ما سيطرأ عليها من عمليات ميكانيكية وحيوية حتى يتم هضمها وامتصاصها وتحويلها في الكبد من مواد خام إلى أخرى أكثر ملاءمة لأعضاء وخلايا الجسم. عندما نقرِّب اللقمة من الفم ينخفض الفك السفلي بفعل انقباض بعض العضلات فينفتح الفم، وبمجرد إدخالها ينغلق، وبالوقت نفسه تقوم عضلات أخرى بضغط الفكين على بعضهما بعضاً لكي تطحن الأضراس ما في داخل الفم من طعام. لقد قدِّرت قوة قطع الطعام بواسطة الأسنان القواطع بـ(28) كليوغراماً، أمّا قوة الطحن بالأضراس فقد قدِّرت بأكثر من (100) كيلوغرام. وبما أنّ المعدة عاجزة عن تحطيم وهضم غشاء الخلايا النباتية السليلوزية، لذا أوجد الخالق الحكيم الأضراس لكي تطحن هذا الغشاء وتحطّمه فيتحرّر ما بداخله من أغذية. ولولا المضغ لما تمكَّن الإنسان من هضم وامتصاص الأغذية النباتية، كما يقوم المضغ بخلط اللعاب الغني بالخمائر الهاضمة بالطعام، فيساعد بذلك على تطريته وهضمه وتهيئته للبلع. يتم البلع بقذف الطعام إلى البلعوم من خلال ضغطه بين سطح اللسان وسقف تجويف الفم، في هذه اللحظة تنطلق شيفرة عصبيّة من البلعوم إلى الجذع الدماغي، وهناك يتم تحليلها ومن ثم إرسال الأوامر إلى عضلات البلعوم المعقَّدة التصميم فتغلق فوهتي الأنف الخلفيتين المنفتحتين على البلعوم لتحول دون عودة الطعام إلى تجويف الأنف أثناء البلع. كما تظهر أثناء البلع ثنيَّتان عضليتان على جانبي البلعوم فتضيِّقه من كلا ناحيتيه لتجبر اللقمة الممضوغة على التوجُّه إلى مؤخرة البلعوم لتصبح فوق فوهة المريء مباشرة. وبما أنّ الحنجرة ترتفع إلى الأعلى أثناء البلع، لذا ستجد اللقمة نفسها منزلقة تلقائياً إلى المريء لأنّ الأخير يرافق الحنجرة في ارتفاعها. ولكي لا ينزلق شيء من الطعام عبر الحنجرة إلى الرغامى والجهاز التنفسي، شاءت الحكمة الإلهية الفذّة أن يقترب حبلا الصوت من بعضهما ليغلقا فوهة الحنجرة والرغامى. وفي آنٍ واحد وعندما تتحرَّض مراكز البلع الدماغية تتثبَّط مراكز التنفس فترة وجيزة لا تزيد عن الثانية الواحدة، وبذلك لن يتسنّى للطعام أن يدخل إلى الرئتين مع هواء الشهيق. وبارتفاع الحنجرة أثناء البلع ستلتصق بالفلكة (اللهاة) التي تعلوها، فتنغلق في وجه الطعام بشكل كامل. وعندما تقع كتلة الطعام على ظهر لسان المزمار ستنزلق نحو الخلف لتسقط في فوهة المريء العلوية المتَّسعة والمتهيِّئة لاستقبالها وتلقّفها. يزول استرخاء الجزء العلوي من المريء أثناء الشهيق وينقبض بشدة فينغلق أمام الهواء فيذهب إلى الرئتين. ولولا هذه الآلية الرائعة لرأينا بطن الإنسان منتفخاً ومتطبلاً ومؤلماً على الدوام. تتمّ كافة هذه العمليات خلال ثانية واحدة أو اثنتين وتتكرّر تلقائياً عند بلع كل لقمة بنظام وتواتر مدهشين، حتى تبدو وكأنّها عمليات بسيطة أوتوماتيكية، بينما يتعاضد على إنجازها العديد من الأعصاب الدماغية والمراكز العصبية في الجذع الدماغي وعدد كبير من العضلات والأعضاء كاللسان والبلعوم واللهاة والحنجرة وحبال الصوت والمريء وغيرها. فهل يمكن للطبيعة أن توجد مثل هذا التصميم الفذّ؟ وهل يمكن للمصادفة أن توجد هذه الآلية المعقَّدة والفسيولوجية الباهرة؟ فسبحان الله ربّ العزّة عما يصفون وسبحان: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة/ 7). بمجرد أن تدخل اللقمة تجويف المريء تحرِّض الأعصاب في جداره لتحدث فيه حركة حييويَّة كل (5-8) ثوان. تبدأ هذه الحركة عند النهاية العلوية للمريء، وتنتهي عند نهايته السفلية وبذلك فإنّها ستدفع باللقمة إلى المعدة. يساهم في عملية البلع هذه العصب المبهم الذي يعمل أيضاً على استرخاء المعصِّرة العضلية الموجودة عند التقاء المريء بالمعدة (الفؤاد)، وبذلك ستعبر اللقمة من دون عائق يذكر. تسترخي المعدة فيزداد حجمها لتستوعب الطعام القادم ثمّ تفرز عصارتها الغنية بالخمائر الهاضمة وبحامض كلور الماء. وبما أنّ المريء شديد الحسّاسية لحامض كلور الماء ولعصارة المعدة، لذا تنقبض معصِّرة الفؤاد لتغلق المريء بشكل كامل. أيّ خلل في آلية عمل دسّام الفؤاد سيؤدي إلى تراجع الطعام وعصارة المعدة إلى المريء لتحدث فيه التهابات وتقرّحات قد تنتهي بتضيُّقه أو بإحداث أورام فيه. يقوم العصب المبهم والشبكة العصبية في جدار المعدة بإحداث تقلّصات عضلية تبدو كحركات حييوية تبدأ من أعلى المعدة، وتنتشر إلى نهايتها عند صمام البواب. تتكرَّر هذه الموجات الحركية كل (15) ثانية. مهمة هذه التقلُّصات عجن الطعام وخلطه بعصارة المعدة وتقليبه حتى يسهل هضمه ويكتمل، عندئذ يصبح قوامه شبه سائل أو مستحلباً أبيض اللون يدعى الكيموس chyme. بعد اكتمال الهضم في المعدة ستزداد انقباضات جدارها شدّة وفاعلية فتدفع ببضعة ميللمترات من الكيموس عبر فوهة البواب الضيقة. تتناسب هذه الكمية الضئيلة مع قدرة الأمعاء الدقيقة على الاستيعاب والهضم. إذا كان التفريغ سريعاً أو كانت حموضة الكيموس كبيرة ومؤذية للأثني عشر وللأمعاء الدقيقة فستنطلق تيارات عصبية من هذين العضوين لتأمر البواب بالانغلاق بشكل كامل لئلا يسمح للمزيد من الكيموس الحامض بالعبور. كما تأمر هذه التيارات العصبية المحلية جدار المعدة أن يستقر ويهدأ وأن يُقلع عن الانقباض وعن دفع محتواه إلى الأمعاء. كما يستعين الاثنا عشر بالجهاز العصبي السيمبتاوي وبالمراكز العصبية الدماغية على إنجاز هذه المهمة. كما يفرز الأثنا عشر مادة الكوليسيستوكينين Cholecystokinin التي تثبِّط كافة نشاطات المعدة وتغلق بوابها. كما يرسل الأثنا عشر أوامر مشابهة إلى البنكرياس فتفرز المزيد من عصارتها الهاضمة لتهضم الدهون والبروتينات المرتفعة التركيز في الكيموس الحامض، وبما أنّ هذه العصارة قلوية التفاعل لذا فإنّها ستعدِّل من حموضة الكيموس. وبالأسلوب نفسه يأمر الأثنا عشر الحويصلة المرارية فتنقبض في الحال فيخرج محتواها من السائل الصفراوي الذي سيعدِّل حموضة الكيموس المفرطة وسيساعد على هضم الدهون الموجودة فيه. كما تذهب أوامر مشابهة إلى النصف العلوي من المعدة الذي سيفرز كمية كبيرة من السوائل الغنية ببيكربونات الصوديوم التي ستعدِّل الحموضة المفرطة. أمّا إذا كانت حموضة الكيموس ضئيلة بسبب خمول الخلايا الجدارية في المعدة فإنّ الجزء أو السفلي من المعدة سيستشعر الأمر وسيرسل أوامره المحرِّضة إلى خلايا المعدة المتخصِّصة بإنتاج هورمون الغاسترين الذين سيحرِّض بدوره إنتاج حمض كلور الماء من الخلايا المسخَّرة لذلك من الله سبحانه وتعالى. كما تتم هذه المنعكسات المحلية والتفاعلات الهورمونية الكيميائية عندما يكون الطعام غنياً بالدهون وبالبروتينات، فيقوم حمض كلور الماء بحلِّها وهضمها. - مراحل التحريض المعدي: 1- المرحلة الدماغية: عندما يشهد المرء طعاماً شهياً أو يشمُّ رائحته الزكية تتهيَّج مراكز الشهية في الدماغ فترسل تيارات عصبية محرِّضة إلى مراكز العصب المبهم في النخاع المستطيل عند قاعدة الدماغ. تنتهي تفرعات هذا العصب الدماغي المتناهية في صغرها ودقتها على جدار الخلايا الجدارية في المعدة. تفرز هذه النهايات مادة الأسيتايل كولين Acetyl choline في المراكز الحسية المتخصصة باستقبال هذه المادة فتتحرَّض الخلايا الجدارية لتفرز المزيد من حمض كلور الماء الضروري للهضم. كما يحرِّض العصب المبهم إفراز هورمون البيبسينوجين Pepsinogen من خلايا جدار المعدة الرئيسية chief cells وكذلك مادة الغاسترين Gastrin من الجزء النهائي أو السفلي من المعدة الذي يحرِّض إفراز حامض المعدة. 2- المرحلة المعدية: عندما تمتلئ المعدة بالطعام تنشط منعكساتها العصبية الموضعية التي ستحرِّض إفراز عصارة المعدة الغنية بحمض كلور الماء والخمائر الهاضمة المختلفة. كما تحرِّض البروتينات والأحماض الأمينية والدهنية والدهون إفراز المزيد من حمض كلور الماء اللازم لهضمها. ولكي تأخذ هذه الأغذية الوقت الكافي لهضمها تأمر بواب المعدة فينغلق في وجه الأغذية غير المهضومة ويمنعها من العبور إلى الأمعاء. كما يحول البواب من دون خروج الكيموس الشديد الحموضة ليحول ذلك دون تلف الغشاء المخاطي للاثني عشر الذي سيؤدي إلى حدوث قرحات وخيمة ومؤلمة. 3- المرحلة المعوية: إذا كان الكيموس مركّزاً وغنياً بالبروتينات والدهون أو بالأحماض الأمينية والدهنية الناجمة عن تحطُّم وهضم البروتينات والدهون فإنّه سيحرِّض الغشاء المخاطي للاثني عشر والأمعاء الدقيقة لتفرز هورمون الكوليسيسوكينين cholecystikinin الذي سيقفل صمام البواب ليمنع خروج المزيد من هذه الأطعمة من المعدة، كما يحرِّض إفراز المزيد من حمض كلور الماء اللازم لهضمها. هذا ومن ناحية أخرى فإنّ الحموضة المفرطة للكيموس الذي بلغ الاثني عشر ستؤدي إلى إفراز هورمون السيكريتين secrtin والسيروتونين serotonin والـGip والـVip والـGli من الأثني عشر والتي ستذهب عبر الدورة الدموية إلى خلايا المعدة الجدارية فتثبِّطها وتحرِّض باقي خلايا المعدة على إفراز المزيد من الماء وبيكربونات الصوديوم ليعدِّلا الحموضة المُفرطة. أمّا إذا كانت نسبة البيكربونات مرتفعة في الكيموس فأضحى قلوياً، فسيتثبَّط إنتاج السيكريتين من الاثني عشر فيختفي تأثيره المثبِّط على الخلايا الجدارية في المعدة فيزداد بذلك إنتاجها من حمض كلور الماء. من هذا العرض نرى أنّ في الغشاء المخاطي للمعدة العديد من الخلايا ذات المهام المختلفة والخواص المتباينة، فمنها ما يفرز حمض كلور الماء ومنها ما ينتج هورمون الغاسترين ومنها ما ينتج البيبسينوجين ومنها ما يصنِّع البروستاغلاندين، ومها ما تخصّص في إنتاج بيكربونات الصوديوم والماء، ومنها الذي سخّره الله لإنتاج المادة المخاطية التي ستغطّي بطانة المعدة لتحميها من الأثر المخرِّش والمخرِّب لحمض كلور الماء، كما تنتج الخلايا الجدارية العامل الأساسي intrinsic factor اللازم لامتصاص فيتامين (ب-12) في نهاية الأمعاء الدقيقة، وبفقدان هذا العامل سيصاب الإنسان بفقر الدم. كيف لهذه الخلايا ذات التركيب والبنيان الواحد والتي تتبع لعضو واحد أو لطبقة واحدة من طبقاته وتستمدّ الغذاء نفسه من الدم، نفسه، أن تتباين في مهامها وخواصها وفي طبيعة مفرزاتها؟ هل تملك المعدة دماغاً يحكمها فهي بذلك تعقل وتدرك؟ أم أنّها القدرة الإلهية المذهلة التي جعلت في جدار خلايا الغشاء المخاطي للمعدة مراكز متناهية في الدقة تستجيب للمحرِّضات العصبية والهورمونية والكيميائية المختلفة؟ كيف للطبيعة أن تشيِّد هذا البنيان النسيجيّ الرائع وهذه المستقبلات البالغة الدقّة في جدار الخلايا، علماً أن قطر الخلية لا يزيد عن بضعة ميكرونات؟ فإذا كانت الخلية بهذا الحجم فما حجم هذه المستقبلات؟ إنها لا تزيد عن بضعة أنغسترومات (الأنغستروم جزء من مليون من الملليمتر الواحد!!..)، فتأمّل هذا الخلق المعجز واسأل نفسك: أيعقل لهذا الخلق الدقيق أن يكون وليد صدفة؟ أم أنّ هذه الادِّعاءات إفك وتهريف ابتدعها فلاسفة الإلحاد والتخريف؟ العجيب في هؤلاء المارقين أنهم اعتمدوا على الظنِّ والتخمين من دون أن يستندوا إلى حقائق علمية ثمّ صدَّقوا افتراءاتهم والأدهى من هذا وذاك أنهم راحوا يتبجَّحون ويتشدَّقون بها في كل محفل: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) (الفرقان/ 44). كما قال فيهم العليُّ القدير: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/ 179). نعم، إنّ من يرى كل هذا الإعجاز وهذه الآيات التي تسطع بنور الله ثم لا يلين قلبه فهو غافل وقلبه مقفل وهو أعمى البصر والبصيرة. لقد كشف لنا الحكيم العليم حجاب الغيب عن بعض تصميماته لنرى قدراته فندرك مدى حكمته وعلمه وعظمته فنؤمن به إيماناً يقينياً راسخاً لا يتهالك أمام وساوس الشيطان وفلسفة الإلحاد: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (النمل/ 93). وقال عزّ من قائل: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (الأنعام/ 104). كما يتحقق الإعجاز الإلهي العظيم في الغاسترين والبيبسين وحمض كلور الماء التي تهضم البروتينات واللحوم والدهون بأنواعها من دون أن تهضم المعدة نفسها، ولا الخلايا التي تصنِّعها وتفرزها، علماً أنّها مصنوعة من البروتينات والمواد الغذائية نفسها!!.. ولو وضعنا حمض كلور الماء على جزء من المعدة في أنبوب اختبار فإنّه سيذيبه! ولو وضعنا هذا الحمض على الرخام لأثّر فيه! فلماذا لا تهضم معدتنا نفسها؟ إنّه: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل/ 88). يقول بعض العلماء: إنّ بعض خلايا المعدة تفرز مواد مخاطية، وأخرى تفرز مادة البروستاغلاندين التي تحرِّض خلايا معيّنة لتفرز مواد مضادة لحمض كلور الماء. ولكن كيف تتم آلية هذا الدفاع الذاتي؟ وكيف تعمل هذه المواد والهورمونات؟ يبقى الجواب في علم الغيب على رغم التقدّم العلمي المذهل الذي نعاصره!!.. لقد كشف الخالق العظيم جانباً من الحقيقة ترك جانبها الآخر سراً من أسراره لندرك وجوده وعظيم شأنه وقدرته، ومدى إبداعه في خلقه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت/ 53). نعود أدراجنا إلى الحديث عن الهضم ومتابعة ما يجري للقمة الطعام منذ إدخالها إلى الفم وحتى خروج بقاياها من الجسم. تفرز الغدد اللعابية ما يزيد عن ليتر من اللعاب يومياً. يختلط هذا اللعاب الغنيّ بخميرة الأميليز بالطعام الممضوغ فتهضم محتواه من النشويات وتحوِّلها إلى مواد سكرية بسيطة. يتحرَّض إفراز اللعاب دماغياً عند رؤية طعام شهي أو عند شمِّ رائحته الزكية أو عند تذوّقه. يتميز بالخاصية الأخيرة الليمون وما شابهه من حمضيات. أمّا آلية التحريض فإنها تتم على النحو التالي: تنطلق تيارات عصبية من الحواس عبر العصب البصري وعصب الشمّ ومن حملات الذوق في اللسان إلى مراكز الشهية في القشرة الدماغية. وبتحرُّض هذه المراكز العليا ستنطلق تيارات عصبية إلى المراكز المتخصِّصة بإفراز اللعاب في الجذع الدماغي فتحرِّضها. ومن هذه تنتقل الأوامر إلى الغدد اللعابية عبر الألياف العصبية نظيرة الوديّة (الباراسيمبتاوية) التي تتفرَّغ إلى نهايات دقيقة يصعب حصرها. تنتشر هذه النهايات لتبلغ كافة خلايا الغدد اللعابية. تتم هذه التيارات والمنعكسات العصبية وما يرافقها من تفاعلات كيميائية حيويّة وكذلك الاستجابة الغدِّية في أقلِّ من ثانية. ينشط إفراز اللعاب عندما تتخرَّش المعدة والاثنا عشر بتأثيرٍ من بعض الأطعمة الحاذقة والحامضة، يقوم اللعاب بتخفيف وتمديد الطعام فيعدِّل حموضته بما يحتويه من بيكربونات الصوديوم والماء. عند ازدياد الطلب على اللعاب تفرز الغدد اللعابية مادة الكاليكرين Kallikren التي ستجري في الدم. وهناك ستحوِّل غلوبيولين – ألفا – (2) إلى مادة البراديكينين Bradykinin التي ستوسِّع الأوعية الدموية الذاهبة إلى الغدد اللعابية فيزداد تدفُّق الدم فيها. وبما أنّ الدم هو المصدر الرئيسي للمواد الخام التي ستأخذها خلايا الغدد لتصنِّع منها خمائرها وما تحتاجه من بيكربونات مواد أخرى مختلفة، لذا ستزداد المواد الخام وسيزداد بالتالي الإنتاج. بالإضافة إلى اللعاب تفرز بطانة الفم والبلعوم والمريء مواد مخاطية تحمي بطانة هذه الأعضاء من الأذى الذي قد تسبِّبه الأغذية الصلبة التي لم يتمّ مضغها جيِّداً. يحتوي اللعاب والمواد المخاطية على مواد حيويةٍ فعالةٍ تحطِّم البروتينات التي يتكون منها جدار الجراثيم فتقتلها. من هذه المواد الليزوزيم والثيوسيانين. كما تحطِّم هذه المواد بقايا الطعام وتحلِّلها لتصبح وسطاً معادياً لنمو وتكاثر الجراثيم التي تسبِّب نخر الأسنان وغيره من أمراض الفم الجرثومية. كما يحتوي اللعاب على أجسام مناعية ضدِّية تقتل الجراثيم الغازية. بهذا الأسلوب البديع يتصرَّف اللعاب كالحارس الأمين على إحدى بوابات الجسم ويشارك في الدفاع عنه وحمايته من الأمراض. فسبحان الله. لم أتعرَّض إلى تركيب المواد الكيميائية التي تفرزها خلايا المعدة والغدد اللعابية ولا لآلية تصنيعها بسبب تعقيدها البالغ، ولكني رأيت أن أعطي القارئ الكريم فكرة عن تركيب أبسطها وهو هورمون الغاسترين الذي يتألف من العديد من الأحماض الأمينية على النحو التالي: Glu – gly – pro – trp – leu – glu – glu – glu – glu – glu – ala – tyr – gly – trp – met – Asp – Phe - NH² يتركَّب كل واحد من هذه الأحماض الأمينية من عدد كبير من المواد والعناصر التي اتَّحدت ببعضها بعضاً بأسلوب مغاير لما هي عليه في المواد والهورمونات الأخرى، فجعلت من الغاسترين مادة ذات صفات ومهام خاصة ومنفردة في وظيفتها عن باقي مفرزات المعدة: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ). بعد هذا العرض وهذا البيان الذي تكرَّر على ألسنة العلماء والأطباء والمدرِّسين، ما زلنا نرى أناساً يكذِّبون بما جاءهم من آيات الحقّ جلّ جلاله، وأمرهم فيها مريج، ومنهم من التبست عليهم الحقيقة لضعفٍ في إدراكهم وقدرتهم على التأمّل والتبصُّر، ومنهم من عرف الحقيقة ولكن أخذته العزَّة بالإثم، فراح يجادل في الباطل ليدحض به الحقّن ومنهم من راح يطلق أقوالاً شاذّة مختلفة، يؤفك عنها من أفك، إنهم خرّاصون مأفونون ومغالطون: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحج/ 8-9). وإن كان مكر هؤلاء لتزول منه الجبال إلّا أنّه واهن ومكشوف أمام قدرات الله وعظمته: (وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر/ 10). لهؤلاء وللذين جحدوا ربوبية الله وخلقه نقول: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (لقمان/ 11). وقال لهم الكبير المتعال: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (ق/ 6-8). علماً أنّ خلق السماوات والأرض أكبر وأعظم من خلق الناس: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (غافر/ 57). المصدر: كتاب الإعجاز الإلهي في خلق الإنسانمقالات ذات صلة
ارسال التعليق