المثقف هو ذلك الشخص الذي يملك قدرا من المعرفة تمكنه من قراءة أوضاع المجتمع وتحليلها وتحديد أبعادها في ضوء تطورات وأحداث الماضي واتجاهات وتوقعات المستقبل، انه ذلك الشخص الذي يعي الواقع ويعمل على تغييره إلى الأفضل يستجيب لنداء الفقير والضعيف وينصف المقهور والمظلوم.
لكن دور المثقف اليوم تغير بعد تبلور الفردية، واتساع فجوة الدخل بين الفقراء والأغنياء ، واتساع نطاق العولمة التي أدت إلى خلق هوة عميقة بين المثقفين والعامة من ناحية، وهوة أعمق بينهم وبين الفقراء من ناحية أخرى. وفي الواقع، كانت الفجوة الاجتماعية، أي فجوة الدخل الاقتصادية، تعكس وباستمرار فجوة ثقافية. فكلما اتسعت فجوة الدخل تعمقت فجوة الثقافة، وكلما تعمقت الفجوة الثقافية بين الفئات والجماعات المختلفة اتسعت فجوة الدخل والثروة والنفوذ. وهذا أدى بدوره إلى عودة المثقفين فيما عدا قلة قليلة، إلى جذورها الطبقية المنتمية إما إلى الطبقة الوسطى أو إلى الطبقة العليا، وبالتالي تراجع اهتمام والتزام المثقفين بالفقراء والمستضعفين. إلى جانب ذلك، أدت الفجوة الثقافية التي تتزايد عمقا يوما بعد يوم إلى تطوير لغة خاصة بالمثقفين لا تفهمها العامة، وتطوير لغة للفقراء والمستضعفين لا تستسيغها الفئات المثقفة. وهذا جعل الفقراء والمستضعفين لا يفهمون لغة المثقفين ويشكون في إخلاصهم عندما يتبنون قضايا الفقر والظلم والاستغلال والبيئة، وجعل المثقفين في المقابل غير قادرين على فهم لغة الفقراء والمستضعفين ويشكون في عقلانيتهم. وبذلك فقد الفقراء والمستضعفين سندهم الأهم وقيادتهم التاريخية التي تحملت مسؤولية الدفاع عنهم، وفقد المثقفون القضية الأساسية التي مكنتهم من الاستحواذ على قوة أخلاقية ومكانة اجتماعية ومجتمعية. ولقد ترتب على هذا ان غالبية المثقفين تنقسم إلى مثقفي المال ومثقفي السلطة، تعيش الفئة الأولى على فتات الأثرياء وتفلسف لهم مواقف الجشع والاستغلال، وتعيش الثانية على فتات السلطة وتفلسف لها أساليب الكبت وسياسات القمع. وبالتالي فقدنا ما يعرف بالمثقف العضوي كما عرفه " جرامشي " وهو المثقف الرافض تصور النشاط الفكري أو الذهني كمسألة أو خاصية متأصلة لطبقة اجتماعية بعينها و ليس مجرد أحد عناصر البنية الفوقية ، وإنما يجب البحث عنه في مجمل العلاقات الاجتماعية . فالمثقفون هم :
أولاً : منظمو الوظيفة الاقتصادية للطبقة التي يرتبطون بها عضوياً .
ثانياً : هم حملة وظيفة الهيمنة التي تمارسها الطبقة السائدة في المجتمع المدني .
ثالثاً : هم منظمو الإكراه الذي تمارسه الطبقة السائدة علي سائر الطبقات بواسطة الدولة . وذلك لأن المثقفين عموماً تخلقهم الطبقات الاجتماعية أثناء تطورها ، وبالتالي فإن البحث عنهم يجب أن يكون بحثاً في إطار الوظيفة التي تمارسها هذه الطبقة أو تلك ، بحكم المكانة التي تحتلها في نمط الإنتاج .
كل ذلك يحمل " جرامشي " علي القول بأن لكل طبقة اجتماعية مثقفيها الذين يرتبطون بها عضوياً وينشرون وعيها وتصورها عن العالم ، ويقول في ذلك " الوعي الذاتي النقدي يعني تاريخياً وسياسياً ، خلق نخبة من المثقفين ، فالكتلة البشرية لا تتميز ولا تصير مستقلة من تلقاء ذاتها دون أن تنظم نفسها ، ولا تنظيم بغير مثقفين ، أي بدون منظمين وبدون قادة ، فالوعي النقدي لا يتحقق إذاً بدون مثقفين . ومن هنا فالمثقفون شريحة اجتماعية تمثل كافة الفئات والطبقات الموجودة في المجتمع ، وهم لسان حالها ، الناطقون باسمها يمثلون مصالحها المتفقة والمتعارضة ويعبرون عنها .
ويؤكد " جرامشي " علي أن المثقفين هم منظمو الزعامة الاجتماعية ، وذلك باعتبارهم موظفين في البناء الفوقي للمجتمع و يستطيعون أن يتوسطوا عالم الثقافة وعالم الإنتاج ، وأن يقدموا أفكاراً يتقبلها جماهير الشعب بطريقة تلقائية علي أنها أفكار مشروعة ، لأنها تعبر عما هو أكبر بكثير من مصالح الجماعة المسيطرة
ويميز " جرامشي " بين فئتين متمايزتين من المثقفين ، الأولي : أطلق عليها المثقف التقليدي ، والثانية : نعتها بالمثقف العضوي . " إن كل جماعة اجتماعية تظهر إلى حيز الوجود في عالم الإنتاج الاقتصادي ، حيث تؤدي وظفتها الجوهرية ، تخلق معها عضوياً شريحة أو أكثر من المثقفين ، تمنحها التجانس والوعي بوظيفتها ، لا في الميدان الاقتصادي وحده ، بل في الميدانين الاجتماعي والسياسي أيضاً .
والمثقف العضوي، هو المثقف المرتبط بطبقة معينة، يقوم بتنظيم وظيفتها الاقتصادية ، وهو أيضاً من حملة وظيفة الهيمنة التي تمارسها في المجتمع المدني، بهدف تحقيق قبول وإجماع الطبقات الأخرى، وذلك من خلال عملهم في مختلف الهيئات الثقافية والإعلامية كالمدارس والجامعات، وأجهزة النشر وغيرها . وفي هذا كله تبرز وظيفة العضويين باعتبارهم " أسمنتاً " يربط البنية الفوقية والتحتية للمجتمع
أما المثقف التقليدي ، فيختلف عن المثقف العضوي حيث إن المثقف العضوي يولد في آن واحد مع طبقة ذات دور أساسي في عملية الإنتاج ، أما المثقف التقليدي فينتسب – تاريخياً – إلى الحقبة التي تسبق ولادة هذه الطبقة الجديدة ، مما يدفع المثقفين التقليديين إلى اعتبار أنفسهم فئة قائمة بذاتها ، وأنهم فوق ذلك مستقلون عن الطبقات الحاكمة ، كما أن النموذج التقليدي للمثقف علي عكس النموذج العضوي ، من حيث أنهم يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بنمط أو أسلوب إنتاج ، وهم – أي المثقفون التقليديون – يقعون بين الطبقات أي يوجدون بين جوانب المجتمع ، يربطون الماضي بالحاضر كعملية مستمرة تاريخياً ، بينما يقدم مثقفو النموذج العضوي أفكاراً تضع حداً فاصلاً بين الماضي والحاضر. والمتأمل في المثقفين العرب يلاحظ ان المثقف العضوي قد انتفى دوره و تطور دور المثقف التقليدي الذي اصبح اداة تكرس الفردية و الانانينة وتشرع للاستغلال و الاضطهاد الاقتصادي و السياسي والاستلاب الثقافي .
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق