• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

يوم لا ينفع مال ولا بنون

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

يوم لا ينفع مال ولا بنون

- الآخرة ونتائج الأعمال:

نحن بحاجة دائماً إلى أن نعيش في عقولنا وقلوبنا أجواء يوم القيامة، قبل أن نلتقي بيوم القيامة، وذلك حتى نستطيع أن نتوازن في كلّ خطواتنا في الحياة الدنيا، ولنعرف أنّ صورتنا في الآخرة هي صورتنا في الحياة الدنيا، ولندرك أنّ الآخرة هي مسألة النتائج التي تظهر من خلال أعمالنا في الدنيا. ونحن في الدنيا نعيش في ساحة عمل نأخذ فيها كلَّ حريتنا، فليس هناك أيّة قوّة تمنعنا من أن نعمل ما نريد. والله تعالى لم يشأ أن يضغط علينا في دنيانا، وإنّما ترك لنا أن نختار عملنا بأنفسنا، لتكون نتائج هذا العمل منطلقةً من اختيارنا حيث في يوم القيامة (تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (غافر/ 17)، فالإنسان في الدنيا يملك الحرية في إرادته من خلال حريته فيما يفكّر فيه، ولكنّ الله سبحانه ومع إعطائه الحرية للناس في اختياراتهم، أحبَّ لهم أن يختاروا الخيرَ بدلاً من الشرّ، وأراد لهم اختيار الإيمان على الكفر، مع إعطاء عقولهم التوجيه الكامل لتتحرّك بالطريقة التي تُرشد إرادتهم وحركتهم في الحياة. ولذلك عَرَض علينا القرآن يوم القيامة بعدّة صور ومشاهد لنستحضر في وعينا على الدوام يوم القيامة عندما نحدّد خياراتنا وننطلق بأعمالنا. فإذا غاب عن وعينا الإهتمام بالنتائج التي تترتّب على أعمالنا والتي نحصدها يوم القيامة، فإنّ الشيطان قد يأتي إلى الواحد منّا ليقتحم عليه وحدته، وليوحي إليه بأنّه حرٌّ فيما يصنعه بعيداً عمّا أحلّ الله وحرّم، فيزني مثلاً ويرتكب الفواحش ويقوم بكلّ الأعمال التي لا يرضاها الله، لأنّ الشيطان يعمل على أن يصدّه عن الحقّ ويُوحي إليه بأنّه في مأمنٍ من ملاحقة الناس ومعاقبتهم.. ولكن إذا عاش في وعيه وقوف الناس أمام الله في يوم القيامة للحساب، فإنّ وعيه يطالبه بأنّه إذا كان في أمانٍ من الناس، فكيف يمكن أن يكون في أمانٍ من الله؟ وهكذا عندما يعيش جوَّ السيطرة في بيته فينادي فيه الشيطان أن يظلم زوجته وأولاده وأبويه العاجزين، أو يظلم إخوته اليتامى فيأكل أموالهم ويعتدي على حقوقهم منطلقاً في ذلك من إيحاءات الشيطان الذي يزيّن له أعماله فيحسّ بأنّه القوي الذي لا تقف أيّة قوة في وجهه، ولا يجرؤ أحدٌ أن يتعرّض له بسوء، لأنّ القانون بجانبه، والناس تؤيده وتخاف منه.. هذا إذا لم يعش في أعماقه جوَّ يوم القيامة وأهواله، أما إذا استحضر هذا اليوم، لابدّ له أن يرتدع عندما يعرف أنّ الله سبحانه وتعالى سيقتصُّ لكلّ مظلومٍ من ظالمه، وسيفكّر بأنّه إذا كان قويّاً في دنياه، فهل يستطيع أن يكون قويّاً أمام الله في يوم القيامة؟ وبالتالي سوف يقف أمام الشيطان عندما يطلب منه أن يضغط على حريات الناس ويظلمهم كونه يملك موقعاً سياسياً أو اجتماعياً، هذا الشيطان الذي يقول له، خذ حريتك، أنت أكبر من القانون، القانون للضعفاء وأنت القويّ، القانون للمستضعفين وأنت المستكبر.. خذ حريتَك، القانون في خدمتك، والعهد عهدُك، وقوة الجماعة الآن قوتك، أنت تحكم، وليس هناك حاكمٌ عليك. كلُّ هذه الإيحاءات تسقط، عندما يعي حقيقة المصير يوم القيامة، ويعرف أنّ القانون ورجال القانون ومواقع القوة كلّها لن تحميه (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأنعام/ 15)، وإذا جاءته تهاويل الشيطان يردّد في نفسه (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (هود/ 63).   - تحذيرٌ من قساوة القلب: ومن هنا، كانت مسألة يوم القيامة من المسائل التي أبرزها القرآن، ولذلك، قلَّما نجد سورة لا تشير إلى يوم القيامة بآية أو أكثر، حتى تلين قلوبنا وتخشع (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) (الحديد/ 16)، ويقول سبحانه محذّراً المؤمنين: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/ 16)، فالقلب إذا قسا، فإنّه لن يعطيك روحاً، ولا أيّة حركةٍ في اتجاه الخير، ولهذا، فإنّنا نحتاج دائماً أن نتذكّر الجنّة والنار. وأمير المؤمنين علي (ع) يصوّر لنا واقع المتقّين فيقول (ع): "فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها مُنَعمّون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون"[1]. وبعض الناس يقولون، ليس من المستحسن أن نتحدّث عن الجنّة والنار ويوم القيامة، بل يجب أن نتحدّث عن فلسفة الإسلام في غير ذلك من الشؤون والقضايا. هذا صحيح، لكنّ الفلسفة عمل العقل، والموعظة عمل القلب، فكما نحتاج إلى ما يُغذّي عقولنا، نحتاج إلى ما يُغذي قلوبنا، ويجعلها تخشع وتلين وتتفتح على الروحانية. ومن هنا، فإنّ الصلاة والصوم والحج والأدعية والأذكار والتسبيحات، إنما يبرز دورها في توجيه القلب وتنقيته وتطهيره، والبعض من الناس قد يكون عقله مفتوحاً على حقائق الحياة، ولكنّ قلبه مغلقٌ عنها، وعندما تحدّثه عن الله، فإنّه يحدّثك عن فلسفة وجود الله، وعندما تأتي لتقيم عمله، فإنّك لا تجد عملاً على الإطلاق. ولذا، فإنّه لا يكفي أن يكون العقل مفتوحاً، بينما القلب مغلق. وكما أنّ هناك وسائل لانفتاح العقل، هناك وسائل لانفتاح القلب. فقد يأتينا مَن يُلقي علينا محاضرة، فلا شيء يتحرّك فينا، وقد يأتي آخر بأسلوب معيّن، يستطيع من خلال كلماته أن يلامس قلوبنا ومشاعرنا فننفتح على ما يريد أن يُقنعنا به. فكما نحتاج في عالم الهداية إلى استخدام الوسائل العقلية للهداية، كذلك نحتاج إلى استخدام الوسائل العاطفية، ومن هنا جاء الأسلوب القرآني قويّاً في بيانه في الحديث عن يوم القيامة، فيقول سبحانه وتعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثية/ 27-28). هناك أناسٌ في الدنيا يسيرون في خطِّ الباطل، ويشعرون بأنّهم يملكون مقومات النجاح في الحياة، لأنّهم يملكون مواقع القوة ومقاليد الأمور، ويستغرق البعض في نجاحهم في وقت يرون أنّ أهل الحقّ هم الفاشلون، لأنّ الإيمان لم يعطهم شيئاً، ولم يوفّر لهم مالاً ولا منصباً ولا موقعاً، فهم خاسرون لأنّهم يسيرون عكس التيار، أما الآخرون فقد مالوا مع الريح حيث مالت، فاكتسبوا المواقع المهمة في الحياة، وحقّقوا ما رغبت فيه شهواتهم وأهواؤُهم. هؤلاء عاشوا البدايات ولم يفكّروا في النهايات، وليس مهمّاً أن يكسبوا في بداياتهم، فهم قد ينجحون في بدايات أمورهم، ولكنهم سيواجهون الفشل في النهايات (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) في النهاية، عندما يقف الناس بين يديّ الله تعالى، سيخسر كلُّ الذين عاشوا مع الباطل، سواء كان باطلاً في الفكر أو العمل أو العلاقات، لأنّ الباطل لا يمنح صاحبه فرصةً عند الله تعالى، وهو إن منحه فرصة عند الناس المبطلين، ولكن عند الله لن يحصل على شيءٍ مطلقاً (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) (الحج/ 62)، فكلُّ باطل لا يلتقي بالله أبداً.   - الموقف العظيم: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً)، وتأتي الطوائف والجماعات والعشائر، وكُلٌّ جَاثٍ على ركبتيه ينتظر الحساب (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) ويُنادي على كُلّ طائفة وأمّة، تعالوا، هذا كتابكم، فيه ما فعلتم وما قُلتم وما تمرّدتم، وهذا الكتاب يحدّد لكم مصيركم في هذا اليوم العظيم بما يشتمل من أعمالكم، فاقرأوه لتتذكروا ما عملتم وما أسلفتم (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الجاثية/ 29)، فتتحوّل أعمالكم إلى تقارير تُقدّم إليكم يوم الحساب. أما حال الذين اهتدوا (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) (الجاثية/ 30)، ينطلق هؤلاء إلى جنّتهم (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) (الجاثية/ 31)، فإنّهم يُقَفون لِتُتلى الحجّةُ عليهم (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ) (الجاثية/ 31)، سمعتم المواعظ والنصائح، سمعتم آيات الله تُتلى عليكم، قامت الحجّة عليكم من الله، فاستكبرتم، رفضتم كما يرفض المستكبرون أن يكونوا مع المؤمنين في مساجدهم، لأنّ المساجد بزعمهم، هي للطبقة المستضعفة في المجتمع، فهم "كبار"، ومكان الكبار، ليس المساجد، بل الصالونات المخمليّة الفاخرة. هذا منطق الذين يفكّرون استكباراً (فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ)، هؤلاء يأتيهم التقرير يوم القيامة مفصّلاً عن حياتهم، فهم الذين مارسوا الجريمة، وعاشوها في معصيتهم لله وظلمهم للناس وفي إساءَتهم للحياة كلِّها، فيما حرّكوه من قوى الشر، وفيما أسقطوه من قِيمَ الخير والعدل والحرية. وهم عندما كانت الموعظة والنصيحة تُتلى عليهم (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (الجاثية/ 32، وعندما جاءهم الدعاة والمؤمنون يحذّرونهم بأنّ الله سيجمع الخلق، وسيحاسبهم على أعمالهم، إنْ خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ، حاولوا إبعادَ الأمور، رافضين أن يعيشوا حالة اليقين في ذلك، معتبرين أنّ الحديث عن يوم القيامة ما هو إلا حالةٌ تخويفيّة. (وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الجاثية/ 33)، وظهرت لهم الحقائق، وبانّ الحق وقُدمّت أعمالُهم السيئة بين أيديهم في يوم المحشر.. فما كانت النتائج؟ (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ) الجاثية/ 34)، الله لا ينسى، ولكنّه يُهملهم ككمية ملقاة بلا اعتناء، فهم يُنْسَوْن مثلما نسوا يوم القيامة، وأهملوا الإستعداد له، واستسلموا لشهواتهم، وتركوا كل ما أنزل الله من آيات على رُسُله (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الجاثية/ 34)، ويدخلون النار ويواجهون المصير (ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) (الجاثية/ 35)، وأطلقتم الضحكات الساخرة الفاجرة بوجه آيات الله في كتبه وشرائعه، واستهزأتم بالمؤمنين والمؤمنات (وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) (الجاثية/ 35)، رأيتم المال بين أيديكم، والجاه يحيط بكم، وعشتم القوة في أجسادكم، وكانت الحياة مفتوحة أمامكم، ولكن لم تفكّروا في حجم هذه الحياة وفي مداها ونهايتها فغرّتكم واستسلمتم لها (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (الجاثية/ 35)، لا يُسمح لهم بأن يدخلوا في عتاب أو حوار ليبرّروا مواقفهم، لأنّ العمر الذين وُهِبوه من الله، كان كافياً لأن تُفتح لهم فيه أبواب الحوار والتأمّل والتفكير، فليس في النار مجالٌ للحوار والنقاش، لأنّها نهاية المصير الحتميّ لهم. ويدخل أهل الجنة إلى الجنّة، وأهل النار إلى النار، وماذا يبقى؟ (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الجاثية/ 36-37). الكلُّ صغارٌ أمامه وفقراء إليه، هو العزيز الذي لا يُنتقص من عزته، والحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، فلماذا يختارون ربّاً غير الله؟   الهامش:

[1]- نهج البلاغة الخطبة 193.

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top