وقال أيضاً سبحانه: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النساء/ 103).
وقد روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّ عمود الدين الصلاة وهي أوّل ما ينظر فيه من عمل ابن آدم فإن صحت نظر في عمله وإن لم تصح لم ينظر في بقية عمله".
وقد روى معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله عزّ وجلّ ما هو؟
فقال: ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى ابن مريم (ع) قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم/ 31).
وانظر وتأمل كيف حثّ أمير المؤمنين (ع) على الاهتمام بالصلاة وعدم التقصير في أدائها عندما قال (ع): "تعاهدوا أمر الصلاة وحافظوا عليها واستكثروا منها وتقربوا بها فإنّها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ألا تسمعون إلى جواب أهل النار حين سُئلوا: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (المدثر/ 42-43)، وإنّها لتحتُّ الذنوب حت الورق وتطلقها إطلاق الرّبق، وشبهها رسول الله (ص) بالحَمّة[1] تكون على باب الرجل فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات فما عسى أن يبقى عليه من الدرن؟ وقد عرف حقّها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع ولا قرة عين من ولد ولا مال، يقول الله سبحانه (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) (النور/ 37).
كما أنّ شفاعة نبينا محمّد (ص) لا تنال تاركاً لصلاته ومستخفاً بها فقد قال أبو بصير: دخلت على حميدة أعزيها بأبي عبد الله الصادق (ع) فبكت فبكيت لبكائها، ثمّ قالت: يا أبا محمّد لو رأيت أبا عبد الله (ع) عند الموت لرأيت عجباً، فتح عينيه ثمّ قال: اجمعوا لي كلّ من بيني وبينه قرابة، قالت: فلم نترك أحداً إلّا جمعناه، قالت: فنظر إليهم ثمّ قال: "إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة".
فإياك أن تكسل عنها أو تتهاون بحقّها أو تضيع حدها وحدودها أو تنقرها نقر الديك أو تستخف بها أو تشتغل عنها بشيء من عرض الحياة الدنيا وزينتها.
فالمحافظة على الإتيان بالصلاة في أوّل وقتها حتى تنال الدرجة الرفيعة والمقام المحمود عند الله سبحانه، فقد ورد عن إمامنا جعفر الصادق (ع) أنّ رسول الله (ص) قال: "من حبس نفسه على صلاة فريضة ينتظر وقتها فصلاها في أوّل وقتها فأتم ركوعها وسجودها وخشوعها ثمّ مجّد الله عزّ وجلّ وحمده حتى يدخل وقت صلاة أخرى لم يلغُ بينهما، كتب الله له كأجر الحاج (و)المعتمر وكان من أهل عليين".
وانظر إلى ما روي من أنّ أمير الؤمنين (ع) كان يوماً في حرب صفين مشتغلاً بالحرب والقتال وهو مع ذلك بين الصفين يراقب المس، فقال له ابن عباس: وهل هذا وقت صلاة؟ إنّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة، فقال عليّ (ع): "على ما نقاتلهم؟ إنّما نقاتلهم على الصلاة".
وكذلك قال (ع) في وصيته لابنه الحسن (ع): "... وأوصيك يا بني بالصلاة عند وقتها".
وقال (ع) أيضاً: "ليس عمل أحب إلى الله عزّ وجلّ من الصلاة فلا يشغلنكم على أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فإنّ الله عزّ وجلّ ذم أقواماً فقال: الذين هم عن صلاتهم ساهون، يعني أنّهم غافلون استهانوا بأوقاتها".
جعلك الله يا مؤمن من المصلين الخاشعين أنّه لابدّ من أن تحضر بكلّ قلبك وذهنك عند الصلاة فإنّه لا يقبل من الصلاة إلّا ما أقبل العبد فيها على ربه وقد روي أنّ رسول الله (ص) قال: "ركعتان خفيفتان في التفكر خير من قيام ليلة".
فعليك باستشعار الخشوع والذلة والعبودية وأنت تقف بين يدي ربٍ سميع بصير عليم خبير، فجاهد نفسك على أن يكون وقوفك بين يديه وقوف الخائف المستجير الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
وعليك أن تستذكر دائماً أنّه من الجائز أن تكون هذه الصلاة هي آخر صلاة لك، فصلها صلاة مودع يخاف أن لا يعود إليها أبداً، وعليك بالتأمل في قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 1-2)، وانظر إلى ما روي عن إمامنا أبي جعفر الصادق (ع) حيث ورد أنّه قال: "إذا قمت في الصلاة فعليك بالإقبال في صلاتك فإنّما يحسب لك منها ما أقبلت عليه، ولا تعبث فيها بيدك ولا برأسك ولا بلحيتك ولا تحدث نفسك ولا تتثاءب ولا تتمط ولا تكفّر فإنما يفعل ذلك المجوس ولا تلثم ولا تحتفز و(لا) تفرّج كما يتفرج البعير ولا تقع على قدميك ولا تفترش ذراعيك ولا تفرقع أصابعك فإنّ ذلك كلّه نقصان من الصلاة ولا تقم إلى الصلاة متكاسلاً ولا متناعساً ولا متثاقلاً فإنّها من خلال النفاق فإنّ الله سبحانه نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى يعني سكر النوم، وقال للمنافقين: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا) (النساء/ 142).
وروي عن إمامنا الصادق (ع) أنّه قال: "إذا صليت صلاة فريضة فصلها لوقتها صلاة مودع يخاف أن لا يعود إليها أبداً، ثمّ اصرف ببصرك إلى موضع سجودك، فلو تعلم من عن يمينك وشمالك لأحسنت صلاتك واعلم أنّك قدام مَن يراك ولا تراه".
وعليك بالإضافة إلى التوجه وحضور القلب أن تحسن القيام والركوع والسجود وغيرها من أجزاء صلاتك، ولا يتم ويكمل ذلك إلّا بالوقوف والتأمل في مستحبات الصلاة وإتيانها، وسأنقل في هذا المقام ما ذكره حماد بن عيسى حيث قال: قال لي أبو عبد الله (ع) يوماً: "يا حماد تحسن أن تصلي؟ قال: فقلت: يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة، فقال: لا عليك يا حماد قم فصلّ، قال: فقمت بين يديه متوجهاً إلى القبلة فاستفتحت الصلاة فركعت وسجدت، فقال: يا حماد لا تحسن أن تصلي، ما أقبح بالرجل منكم يأتي عليه ستون أو سبعون سنة فلا يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة، قال حماد: فأصابني في نفسي الذل، فقلت: جعلت فداك فعلمني الصلاة، فقام أبو عبد الله (ع) مستقبل القبلة منتصباً فأرسل يديه جميعاً على فخذيه، قد ضم أصابعه وقرّب بين قدميه حتى كان بينهما قدر ثلاث أصابع منفرجات واستقبل بأصابع رجليه جميعاً القبلة لم يحرفهما عن القبلة وقال بخشوع: الله أكبر، ثمّ قرأ الحمد بترتيل وقُل هُوَ اللهُ أحدٌ ثمّ صبر هنية بقدر ما يتنفس وهو قائم ثمّ رفع يديه حيال وجهه وقال: الله أكبر وهو قائم ثمّ ركع وملأ كفيه من ركبتيه منفرجات ورد ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره حتى لو صب عليه قطرة من ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره، ومد عنقه وغمض عينيه ثمّ سبح ثلاثاً بترتيل فقال: سبحان ربي العظيم وبحمده، ثمّ استوى قائماً فلما استمكن من القيام قال: سمع الله لمن حمده، ثمّ كبر وهو قائم ورفع يديه حيال وجهه ثمّ سجد وبسط كفيه مضمومتي الأصابع بين يديه ركبتيه حيال وجهه فقال: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاث مرات ولم يضع شيئاً من جسده على شيء منه وسجد على ثمانية أعظم: الكفين والركبتين وأنامل إبهامي الرجلين والجبهة والأنف وقال: سبعة منها فرض يسجد عليها وهي التي ذكرها الله في كتابه فقال: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن/ 18)، وهي الجبهة والكفان والركبتان والإبهامان، ووضع الأنف على الأرض سنة، ثمّ رفع رأسه من السجود فلما استوى جالساً قال: الله أكبر، ثمّ قعد على فخذه الأيسر وقد وضع ظاهر قدمه الأيمن على بطن قدمه الأيسر وقال: استغفر الله ربي وأتوب إليه، ثمّ كبر وهو جالس وسجد السجدة الثانية وقال كما قال في الأولى ولم يضع شيئاً من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود وكان مُجنّحاً ولم يضع ذراعيه على الأرض فصلى ركعتين على هذا ويداه مضمومتا الأصابع وهو جالس في التشهد فلما فرغ من التشهد سلم فقال: يا حماد هكذا صلِّ.
فالاهتمام والمواظبة على ما ورد من مستحبات كثيرة تؤتى في الصلاة وما بعدها من تعقيبات لاسيّما تسبيح السيدة الزهراء (عليها السلام) منها حيث ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنّه قال: "مَن سبح تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) في دبر الفريضة قبل أن يثني رجليه غفر الله له".
وكذلك فالسجود عقيب كلّ صلاة تصليها شكراً لله تعالى ذكره على ما منّن به عليك من أداء تلك الصلاة، وأدنى ما يجزي فيها أن تقول شكراً لله ثلاث مرات.
كما أنّ الإتيان بالنوافل اليومية لتأكد استحبابها تأكداً عظيماً ولمّا لها من الشأن والعظمة عند الله سبحانه، حيث ورد أنّ صلاة النوافل "قربان كلّ مؤمن"، ولمّا ورد عن إمامنا الباقر (ع) من أنّ الله جلّ جلاله قال: "ما يتقرب إلي عبد من عبادي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وإنّه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته".
ولأنّ تلك النوافل هي المتممة لما ينقص من الإقبال والتوجه في الصلاة حيث قال إمامنا الباقر (ع): "إنّ العبد ليُرفع له من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع له إلّا ما أقبل عليه بقلبه، وإنّما أمرنا بالنافلة ليتم لهم بها ما نقصوا من الفريضة".
صلاة الليل:
جعلك الله يا أخي من المتهجدين والمستغفرين بالأسحار – بالإتيان بصلاة الليل والمداومة عليها حيث الناس نيام والعبّاد قيام، وذلك لمّا ورد من الثواب الجزيل والأجر العظيم فقد قال النبيّ المصطفى (ص) عند موته لأبي ذر (رحمة الله عليه): "يا أبا ذر احفظ وصية نبيك تنفعك: من خُتم له بقيام الليل ثمّ مات فله الجنّة".
واعلم أنّها سنة نبيك الأكرم (ص) حيث يقول تعالى له: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/ 79).
إنّ صلاة الليل هي أيضاً شرف المؤمن وهي دأب الصالحين، ولها الآثار الجليلة والمهمة في الدنيا والآخرة من جلب الرزق ودفع الأسقام ونيل محبة الله والمقام المحمود عنده وغير ذلك من الأمور المهمّة.
الهامش:
[1]- الحمة: بالفتح، كلّ عين ينبع منها الماء الحار، ويستشفى بها من العلل.
المصدر: كتاب سبيل الصالحين
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق