العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
يقول الإمام الصادق (ع) في كلمة أطلقها في مجتمع جماهيري احتشد في بيته، بحيث اجتمع لديه أكثر من شخص من بلدان مختلفة، فـ"عن أبي الربيع الشامي، قال: دخلت على أبي عبدالله (ع) والبيت غاصّ بأهله: الخراساني والشامي ومن أهل الآفاق، فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبدالله (ع) وكان متكئاً وقال: يا شيعة آل محمد" ونستوحي من هذا أنّ الأئمة من أهل البيت (ع) ولاسيما الإمام جعفر الصادق (ع) الذي انفتحت له الساحة من خلال الظروف السياسية التي ملك فيها حرية الدعوة، أنّهم كانوا يعيشون مع الناس وهم يتحسسون المسؤولية في أن يجلس إليهم أحد إلا ويبادرونه بالموعظة والنصيحة ولا ينتظرون أن يسألهم الناس بل كانوا يبدأونهم، وذلك هو شأن رسول الله (ص) وشأن علي (ع) وشأن الأئمة (ع) من قبل الصادق وبعده، فلقد كانوا يتحسسون المسؤولية في أن يفتحوا على الناس مغاليق غفلتهم لينقذوهم منها، وكانوا يشعرون بأنّ العلم الذي وهبهم الله لابدّ من أن يغني كلّ مجتمعهم بطريقة وبأخرى، لأنّ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في عهد الرسالة وعهد الإمامة كانت منفتحة على الناس كلّهم، فالسيرة النبوية الشريفة تحدثنا عن أنّ النبي (ص) كما يوصف من قبل صحابته ومعاصريه "كان فينا كأحدنا" فلم يميّز نفسه عن الناس، فكان يلتقيهم ويحدّثهم ويبتدرهم ويجيب على أسئلتهم.
وعندما ندرس علياً (ع) فإنّنا نراه يتألم لأنّ هناك مجتمعاً لا يستمع إليه، وكان يقول "إنّ ها هنا لعلماً جمّا لو وجدت له حملة". كان يبحث عمّن يسأله، وعمّن يسمعه، ولذلك فإنّنا عندما نقرأ تراثه فإنّنا نجد أكثر ما صدر عنه (ع) كان ابتداءً منه، فلقد كان الخليفة الذي يريد أن يثقّف الناس بالإسلام لأنّه كان يرى أنّ الناس كلّما تثقفوا بالإسلام أكثر وعوا أكثر، وانفتحوا على الحياة أكثر، وأخذوا بأسباب التقدّم أكثر، وتطوّرت حركتهم أكثر، فلم تكن العلاقة بين النبي (ص) أو الإمام (ع) وبين الناس علاقة رسمية بحيث يحتاجون عندما يأتون إلى الشخصية الدينية إلى الكثير من التحفّظات وحالات الهيبة فلا يأخذون حريتهم في المناقشة وفي السؤال، لأنّ عصور التخلّف جعلت من هذه الوجودات أقرب إلى الوجودات الرسمية التي تضع الحواجز بين المسؤول وبين الناس حتى ليخاف هؤلاء من طرح أسئلتهم.
ولكن الأئمة (ع) لم يكونوا كذلك، فتصوّروا مثلاً أنّ هؤلاء جاءوا ليسلّموا على الإمام الصادق (ع) وكانوا من شيعته، وكان يرى أنّ التشيع ليس شيئاً غير الإسلام، وليس شيئاً زائداً عن الإسلام "من كان ولياً لله فهو لنا وليّ ومن كان عدواً لله فهو لنا عدوّ". هذا هو خط التشيع، بأنّ تكون مسلماً كما هو الإسلام في كلّ معناه وامتداداته.
وأحبّ أن انقل في هذا المجال قصة للعلامة الكبير المرحوم السيد محسن الأمين صاحب كتاب (أعيان الشيعة) والذي كان يقطن في دمشق، وكان عالماً جليلاً، فلقد جاءه شخص سنّي وقال له: إنني أريد أن أكون شيعياً، فقال له وهو يدرس الجوّ الاجتماعي والديني كلّه، ليس هناك فرق بين الشيعة والسنّة، فالسنّة مسلمون والشيعة مسلمون فأصرّ الرجل على طلبه، فقال له السيد الأمين – رحمه الله –: هل تريد أن تصبح شيعياً؟ قال الرجل: بلى، فقال له: قل أشهد أن لا إله إلا الله، فقال ذلك، فقال له: قل أشهد أنّ محمداً رسول الله، فنطق بهذه الشهادة أيضاً، فقال له: صرت شيعياً!!
فالولاية حينما تبحث فإنّها تبحث من خلال كتاب الله وسنّة رسوله، فهي ليست شيئاً زائداً على الشهادة لله بالوحدانية والشهادة للرسول بالرسالة، لا بل إن كلّ ما جاء به الرسول (ص) هو الذي يركّز لنا خط الولاية إذا اثبتناها وهي ثابتة لدينا، وهو الذي يركّز لنا الخطوط الأخرى إذا أثبتنا أصولها وهي كذلك ثابتة لدينا. وهذا الموقف يؤكّد الوعي الذي يحمله العلماء الكبار في أن يفتحوا للناس خطّ أهل البيت (ع) من باب الإسلام، ولا يتحدثون إليهم عن شيء زائد عن الإسلام، بل هو الإسلام الأصيل. وقد قال الإمام زين العابدين (ع) "أحبّونا حبّ الإسلام". لا تحبّونا حبّاً ذاتياً بل أحبّونا على أساس ما نمثّل من إمامة الإسلام وخطّه فهذا الحبّ هو الذي يربطكم بالإسلام الذي قد نرحل ذات يوم ويبقى.
لذلك فإنّ الإمام جعفر الصادق (ع) كان قد لاحظ أنّ هؤلاء قد يفهمون التشيّع نبضة قلب وخفقة إحساس ومحبّة ساذجة، فأراد أن يبيّن لهم أنّ التشيّع الذي يمثل الانتماء إلى أهل البيت (ع) لابدّ فيه من أن يكون انتماءً إلى منهج الإسلام في أخلاقيته، ولابدّ أن يكون منفتحاً على واقع المجتمع بحيث يكون الإنسان المنتمي إلى خطّ أهل البيت (ع) إنساناً يعيش إنسانيته في إنسانية الآخر، ولا يكون منغلقاً على الآخر، ولا يكون الإنسان الانعزالي أو الأناني أو الذي ينفتح على الناس من خلال مطامعه أو شهواته.
استمعوا إليه (ع) يقول: "إعلموا أنّه ليس منّا" وهذا يعني أنّ الشخص الذي يريد أن يصفه الإمام (ع) لا ينتمي لمدرستهم، لأنّ الانتماء إليهم ليس انتماءً لأشخاص ولكنه انتماءٌ إلى الإسلام وإلى المنهج الذي طرحناه للناس "من لم يملك نفسه عند غضبه" فالإنفعاليون الذين إذا غضبوا ابتعدوا عن خط الاستقامة في الحق وعن خط العدالة مع الناس، ليسوا من مدرسة أهل البيت (ع) في شيء لأنّ الخط الإسلامي هو (.. وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134). وهذا هو خط التقوى.
فليس منهم من لم يملك نفسه عند غضبه، سواء كان غضبه في البيت مع زوجته وأولاده، أو كان غضبه في المجتمع وساحات الصراع، أو كان غضبه في عمله، أو في المواقع السياسية أو غيرها، فإذا كنت في خط أهل البيت (ع) فلابدّ أن يكون صدرك واسعاً سعة الحياة كلّها بحيث يمتص كلّ حالات الانفعال، ولابدّ أن يكون عقلك موضوعياً يبقى في دراسة الأمور بشكل هادئ عاقل طبيعي جدّاً، وإلا فإنّ الغاضب الانفعالي الذي لا يضبط نفسه ولا يملك زمامها عند الغضب يخرج عن التشيع.
المصدر: كتاب الندوة/ العدد 9 لسنة2002
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق