◄إنّ الإسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، وقد جاء إلى البشرية بما تتضمنه شريعة موسى وعيسى (ع) ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق وتتمشى مع جميع الظروف والأوضاع.
ومع أنّ السيد المسيح (ع) وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إلّا أنّ ميلاده (ع) لم يُتخَذ لديهم مبدأ للتاريخ والتوقيت.
وكانت العرب قد جعلت عام الفيل مبدأ لتاريخها، وكانت تقيس حوادثها وأمورها إليه فترة من الزمن، ومع أنّ رسول الله (ص) كان قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه، إلّا أنّ المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأ للتاريخ، لأنّه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان والإسلام.
ولأجل هذا أيضاً يتخذوا عام البعثة مبدأ لتاريخ المسلمين أيضاً لأنّ عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص، إذن فلم يكن في أي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً لاتخاذه مبدأ للتوقيت والتاريخ، إذ لابدّ أن يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرة بالغة الأهمية؟
ولكنه في السنة الأولى من الأعوام الهجرية حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً، وقد أُسست فيه حكومة مستقلة وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطة واحدة، وبيئة حرة لا أثرَ فيها للكبت والاضطهاد، من هنا جعلوا ذلك العام (أي العام الذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم) مبدأً لتاريخهم، وأخذوا يقيسون إليه وحتى الآن – كل ما يحدث ويقع من خير وشر، لتحديد تاريخ وقوعه.
من هنا يكون قد مضى على عام هجرة النبيّ (ص) من مكة إلى المدينة ألف وأربعمائة وتسعة أعوام.
الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة:
ولقد جعل رسول الله (ص) التاريخ الهجري بنفسه.
وانّ أي إعراض وتجاهل لهذا التاريخ، واختيار تاريخ آخر مكانه إعراضٌ عن سنة رسول الإسلام الكريم (ص)، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال.
إنّ وجود تاريخ معيّن ثابت (مؤلّف من السنة والشهر واليوم) وفي الحياة الاجتماعية البشرية، من الأمور الضرورية الحيوية بل هو في غاية الضرورة والحيوية، من أجل أن لا تتوقف عجلة الحياة الاجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم للأمور والحوادث.
وتلك حقيقة لا حاجة إلى إقامة البرهان عليها لأنّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الأمور البديهية.
فهل يكون تنظيم المعاهدات، والمواثيق السياسية والعسكرية، والاتفاقيات، والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر تاريخ معيّن فيها أمراً مفيداً؟ كلا حتماً، ودون ريب.
فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ (ص) عن علة اختلاف أشكال القمر، وانّه لماذا يكون هلالاً تارة ثمّ بدراً أخرى. ثمّ يعود إلى سيرته الأولى هلالاً، نزل الوحي الإلهي، يبيّنُ بعض حكمة هذ الظاهرة الطبيعية إذ قال تعالى: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ) (البقرة/ 189).
أي انّ اختلاف أشكال القمر وهيئاته انما هو لأجل أن يعرف الناسُ به الوقت والتاريخ فيعرفوا في أي يوم من الشهرهم، في مبدئه أو منتصفه، أو منتهاه، ولكي يعرفوا بواسطة ذلك مواعيد واجباتهم الشرعية والاجتماعية، ويعرف الدُّيّان موعد تسلّم دُيونهم، ويعمَدُ المَدِينون إلى دفع ما عليهم في وقته، ويقوم المؤمنون بفرائضهم المقيَّدة بالأزمنة والأوقات كالصوم والحج وما شابه ذلك.
من هنا لا مجال للنقاش في احتياج كل أُمّة إلى تاريخ معيّن ثابت محدّد تجعله ملاكاً للتوقيت، ومداراً لتحديداتها الزمنية.
إنّما الكلام هو في ما ينبغي إتباعه والجري عليه من التواريخ، وتنظيم المستندات والمكاتبات والمواعيد وفقاً له.
وبعبارة أخرى: إنّ الكلام إنما هو في ما ينبغي جعله مبدأً للتاريخ يقاس به كل العُقودِ والاتفاقات من حيث الزمان، والتوقيت.
فما الذي يصلح أو ينبغي إتخاذه مبدأً للتاريخ للأُمّة الإسلامية؟
الجواب:
إنّ الإجابة على هذا السؤال واضحة جدّاً، وتلك الإجابة هي:
إذا كانت لأُمة من الأُمم حوادث لامعة وسوابق مشرقة في حياتها، وثقافة خاصة بها، وديناً ومسلكاً مستقلاً وشخصيات علمية وسياسية بارزة، وأحداث ووقائع عظيمة مثيرة، تبعث على الفخر والاعتزاز، ولم تكن كنبتة وحشية نبتت عفواً واعتباطاً من غير قانون ولا جذور كبعض الجماعات والشعوب الجديدة الظهور التي لا ترتكز على أصول ثابتة معلومة.
فإنّ على مثل هذه الأُمّة أن تتخذ من أعظم حوادثها الاجتماعية والدينية مبدأً لتاريخها الذي تقيس، وتنظم عليه بقية حوادثها وأعمالها التي سبقت تلكم الحادثة العظمى، أو التي وقعت أو تقع بعدها.
ومن هنا تكون قد اكسبت شخصيتها وكيانها قوةً أكبر، وصانت نفسها من التبعية للشعوب والأُمم الأخرى، والميعان والفناء فيها. وإذا لم يكن في تاريخ الأُمّة الإسلامية شخصية أعلى شأناً من شخصية رسول الله (ص)، كما لم يكن هناك حادثة أعظم، وأنفع من حادثة الهجرة النبوية المباركة، لأنّ هجرة النبي (ص) فتحت – في الحقيقة – صفحةً جديدةً في حياة البشرية، فقد خرج رسول الإسلام واتباعه من بيئة مكة الرازحة تحت الكبت، إلى بيئة مناسبة حرة مكنّتهم من إحداث انطلاقة كبرى لم يشهد التاريخُ البشريُ برمّته لها مثلاً. فقد استقبل أهلُ المدينة رسول الله (ص) ومن هاجر معه من المسلمين إلى يثرب استقبالاً حاراً، ووضعوا تحت تصرّفه كلَّ ما توفر لديهم من الإمكانات والقوى، فلم يمض زمن إلّا وتمتع الإسلام بفضل هذه الهجرة المباركة بتشكيلات سياسية وعسكرية، واتخذ صورة وشكّل حكومة قوية لها وزُنها، وشأنُها، وجانبُها المرهوب في شبه الجزيرة العربية، وسرعان ما نشر رايته على البسيطة كلها تقريباً، وأسس حضارةً عظمى لم تر البشرية لها نظيراً.
فإذا لم تحدث تلك الهجرة المباركة المعطاء لقُضي على الإسلام في محيط مكة، وحُرمَ العالم الإنساني من هذا الفيض العظيم.
من هنا، ولأجل هذا اتخذ المسلمون هجرة رسول الله (ص) مبدأً لتاريخهم، ودأبوا على ذلك إلى الآن حيث ينقضي أكثر من ألف وأربعمائة عام، أي أنّ هذه الأُمة الكبرى تركت وراءها إلى هذا اليوم أربعة عشر قرناً من الأمجاد والمفاخر، وهي الآن على أعتاب القرن الخامس عشر؟
من الذي جعل الهجرة مبدأً للتاريخ؟
على العكس مما هو مشهور بين المؤرخين من أنّ الخليفة الثاني جعل هجرة النبي (ص) مبدأً للتاريخ باقتراح وتأييد من الإمام أمير المؤمنين عليّ (ع) وأمر بأن تؤرخ الدواوين، والرسائل والعهود وما شابه ذلك بذلك التاريخ، فإنّ الإمعان في مراسلات النبي (ص) ومكاتباته التي هي مدرجة في الأغلب في كتب التاريخ والسيرة والحديث والسنة، وكذا غير ذلك من الأدلة التي سوف نذكرها في هذه الصفحات يثبت أنّ النبيّ (ص) هو نفسه أوّل من اعتمد تلك الحادثة الكبرى كمبدأ للتاريخ، وكان يؤرّخ رسائله، وكتبه إلى أمراء العرب، وزعماء القبائل وغيرهم من الشخصيات البارزة بذلك التاريخ (أي التاريخ الهجري).
وها نحن ندرج هنا نماذج من تلك الرسائل النبوية المؤرخة بهذا التاريخ، ثمّ نعمد بعد ذلك إلى استعراض الدلائل الأُخرى على هذا الأمر، ونحن نحتمل أن تكون هناك أدلة أخرى غير ما سنذكره هنا – أيضاً – لم نقف عليها.
نماذج من رسائل النبي المؤرَّخة:
1- طلب سلمان من النبيّ (ص) أن يكتب له ولأخيه (ماه بنداذ) ولأهله وصية مفيدة ينتفع بها، فاستدعى رسول الله (ص) عليّاً وأملى عليه أموراً، وكتبها عليّ (ع) ثمّ جاء في آخر تلك الوصية: (وكتب عليّ بن أبي طالب بأمر رسول الله (ص) في رجب سنة تسع من الهجرة).
2- أدرج المؤرخُ الشهير (البلاذري) في كتابه (فتوح البلدان) نصَّ معاهدة رسول الله (ص) مع يهود (المقنا) وذكر أنّ مصرياً رأى نص هذه المعاهدة في جلد أحمر اللون عتيق وكان قد استنسخَها، فقرأها لي.
3- ثمّ نقل البذاري نص تلك المعاهدة وقد جاء في نهايتها:
(وليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل بيت رسول الله (ص) وكتب عليّ بن أبو طالب في سنة تسع) ومع أنّ (أبا طالب) يجب أن يكتب حسب القواعد الأدبية في المقام "أبي طالب" لكونه مضافاً إليه فقد كتب: "عليّ بن أبي طالب" ولكن مع ذلك ذكر المحققون انّ قبيلة قريش كانت تتلفظ لفظة أب في جميع الموارد (أي في حالة النصب والرفع والجرّ) بـ(أبو) وتكتبها كذلك أيضاً، وقد صرح الأصمعيّ بهذا من بين الأدباء.
ويقول البروفيسور (محمّد حميد الله) مؤلف كتاب "الوثائق السياسية": إني لما كنت في المدينة المنورة في شهر محرم سنة 1358 وجدت في الكتابة القديمة التي في جنوبي جبل سلع في المدينة المنورة (أنا عليّ بن أبو طالب).
4- جاء في معاهدة الصلح التي نظمها (خالد بن الوليد) لأهل دمشق، ونص فيها على احترام دمائهم، وأموالهم وكنائسهم: (وكتب سنة ثلاث عشرة). وكلنا نعلم أنّ دمشق فُتحت في أواخر حياة الخليفة الأوّل.
فما يدعيه البعض من انّ التاريخ الهجري قد اتخذ في عهد الخليفة الثاني بارشاد وتأييد من الإمام عليّ (ع) غير صحيح فإنّ تاريخ ذلك يرتبط بالسنة السادسة عشرة أو السابعة عشرة من الهجرة، والحال انّ هذه المعاهدة قد نظِّمت ودُوّنت وأُرخت بالتاريخ الهجري قبل ذلك بأربع سنوات.
إنّ كتاب الصلح الذي كتبه الإمام عليّ (ع) بأمر رسول الله (ص) لنصارى نجران مؤرَّخ بالسنة الهجرية الخامسة.
فقد جاء في هذه الرسالة: وأمر علياً أن يكتب فيه انّه كتب لخمس من الهجرة.
إنّ هذه الجملة تفيد بوضوح انّ النبيّ الأكرم (ص) هو واضع التاريخ الهجري ومؤسسه الأوّل وهو الذي أمر علياً (ع) بأن يؤرِّخ ذلك الكتاب بالتاريخ الهجري في ذيله.
5- جاء في مقدمة الصحيفة السجادية: قال جبرئيل وهو يفسر رؤيا رآها رسول الله (ص): تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشر، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمس وثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمس، ثمّ لابدّ من رحى ضلالة هي قامة على قطبها.
6- يروي المحدثون الإسلاميُّون أنّ رسول الله (ص) قال لأُم سلمة: يُقتَل الحسين بن عليّ على رأس ستين من مهاجري.
7- قال أنس بن مالك: "حدثنا أصحاب النبي (ص) قال: لا تأتي مائة سنة من الهجرة ومنكم عين تطرف".
8- أرخ أصحاب النبيّ (ص) في أيام حياته الحوادث الإسلامية بهجرته فقالوا: وقع كذا في الشهر كذا من الهجرة، مثلا كانوا يقولون: حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في شهر شعبان ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً أو ثمانية عشر شهراً.
على رأس ثمانية عشر شهراً فرِضَ صوم شهر رمضان.
وقال عبدالله بن أنيس أمير الوفد الذي بعثه رسول الله (ص): خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس خلونَ من المحرم على رأس أربعة وخمسين شهراً.
وقال محمّد بن سلمة عن غزوة القرطاء: خرجتُ في عشر ليال خلون من المحرم فغبت تسع عشرة وقدمتُ لليلة بقيت من المحرم على رأس خمسة وخمسين شهراً.
إنّ هذا النوع من تاريخ الحوادث والوقائع يكشف عن انّ المسلمين كانوا إلى السنة الخامسة من الهجرة يقيسون الحوادث بهجرة النبيّ (ص) ويؤرخون بها عن طريق عدّ الأشهر، حتى إذا كانت السنة الخامسة من الهجرة أمر رسول الله (ص) باحلال السنة الهجرية مكان الشهر الهجري (كما مرّ في الرسالة رقم 4) حيث أمر النبيّ (ص) بأنّ يؤرَّخ الكتاب الذي كتبه لنصارى نجران بالعام الهجري.
9- نقل المحدثون الإسلاميون عن الزهري قوله: انّ رسول الله (ص) لما قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (أي شهر قدومه المدينة).
10- روى (الحاكم) عن (ابن عباس) انّ التاريخ الهجري بدأ من السنة التي قدم فيها النبيّ (ص) المدينة.
إنّ هذه النصوص تحكي عن أنّ قائد الإسلام الأكبر قد أوضح مسألة التاريخ من اليوم الأوّل. وانّه جعل هجرته مبدأ لذلك التاريخ. غاية ما هنالك انّ هذا التاريخ كان إلى فترة من الزمن يعدُّ بالأشهر ثمّ حل العدُّ بالأعوام منذ حلول السنة الخامسة من الهجرة محل العدّ بالأشهر.
سؤال:
ويمكن أن يسأل سائل: إذا كان حقاً أنّ النبيّ (ص) هو مؤسس التاريخ الهجري وواضعه الأوّل فماذا نفعل بالخبر الذي رواه كثيرٌ من المحدثين والمؤرِّخين؟
فإنّهم يقولون: رفع رجل إلى عمر صكاً مكتوباً على آخر بدَين يحلّ عليه في شعبان فقال عمر: أي شعبان؟ أمن هذه السنة أم التي قبلها أم التي بعدها؟ ثمّ جمع الناس "أي أصحاب رسول الله (ص) فقال: ضعوا للناس شيئاً يعرفون به حلول ديونهم... فيقال: أنّ بعضهم أراد أن يؤرخوا كما تؤرخ الفرس بملوكهم كلما هلك ملك أرّخوا من تاريخ ولاية الذي بعده فكرهوا ذلك.
ومنهم من قال: ارخوا بتاريخ الروم من زمان اسكندر فكرهوا ذلك لطوله أيضاً.
وقال آخرون: أرّخوا من مولد رسول الله (ص).
وقال آخرون: أرخوا من مبعثه. وأشار عليّ بن أبي طالب (ع) أن يؤرخ من هجرته إلى المدينة لظهوره على كل أحد، فإنّه أظهر من المولد والمبعث، فاستحسن عمر ذلك والصحابة، فأمر عمر أن يؤرخ من هجرة رسول الله (ص).
الجواب:
إنّ هذا القسم من التاريخ لا يمكن الاستناد إليه في مقابل النصوص الكثيرة التي وصفت الرسول العظيم (ص) بكونه واضعَ التاريخ الهجري ومؤسسه الأوّل.
هذا مضافاً إلى أنّه من الممكن أن يكون التاريخ الهجري الذي وضعه النبيّ الكريم (ص) قد تعرّض للترك، وفقد رسميته بمرور الزمن وقلة الحاجة إلى التاريخ ولكن جُدِّد في زمن الخليفة الثاني، بسبب اتساع نطاق العلاقات وأُعيد الاهتمام به لاشتداد الحاجة إليه في هذا العهد.
المصدر: مجلة الغدير/ العدد 64 لسنة 2003م
ارسال التعليق