◄لا شكّ أن للقرآن حقاً عظيماً، بل حقوقاً عظيمة علينا نحن معشر المسلمين..
سيقتصر حديثنا في هذا الموضوع على خمس واجبات، ليتنا نحصيها ونحفظها ونطبِّقها في حياتنا:
الأوّل: كثرة القراءة وتحديد ورد ثابت كل يوم:
والسؤال: هل هناك مسلم لا يمكن أن يختم القرآن في حياته؟! هذه مصيبة كبرى! وأنا أسألك أيها القارئ الكريم: أتذكُر آخر مرة ختمت فيها القرآن؟! أخشى أن تكون ختمة رمضان الماضي؟!.. وأن يكون مصحفك قد وُضع على الرف بعد رمضان وعلاه التراب.. واحذر أن يشهد عليك القرآن أنك هجرته يوم القيامة!! وماذا تفعل لو لم تقرأ وردك اليومي؟!
بعض الصحابة كان إذا فاته ورده يبكي.. وقد دخلوا على أحدهم ذات مرة فوجوده يبكي بشدة، فسألوه: أتشتكي وجعاً؟ قال: أشد.. أشد، قالوا: وما ذاك؟ قال: نمتُ بالأمس ولم أقرأ وردي، وما ذلك إلا بذنب أذنبته!!
إنّ كثيراً من الناس يقضون أوقاتاً طويلة في قراءة الجرائد.. وقد ينزلون بالليل لكي يحصلوا على صحيفة الغد بتلهف واهتمام! فلماذا لا يحظى كتاب الله ولو بمثل هذا الاهتمام؟! أتزهد في ثواب القرآن؟! وبعض الناس يُضيّع وقته في التفكير والنظر إلى لا شيء وإذا سُئِل يقول: لا أجد شيئاً أعمله!! وهل نسي المسكين كتاب الله؟.
روي أنّ عبدالله بن عمر أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ فقال: "في ثلاثين" (أي تقرأ كل يوم جزءاً)، فقال ابن عمر: في ثلاثين! إني أطيق أكثر من ذلك! (وانظر إلى هذا النهم وهذا الحب وهذه اللهفة على قراءة القرآن) فقال: "ففي عشرين" قال: إني أجد قوة (أنا أقوى من هذا) قال: "ففي عشر"، فقال: فإني أطيق أكثر من ذلك فقال: "ففي خمس"، قال: يا رسول الله: إني أطيق أكثر من ذلك! قال (ص): "في ثلاث ولا أقل من هذا".. وقال (ص): "من قرأه – أي القرآن – في أقل من ثلاث لم يفقهه".
ولهذا أيها الأحباب، لا ينبغي أن تكون مدة ختام المسلم للقرآن في أقل من ثلاث ولا في أكثر من شهر؛ طبقاً للحديث السابق ذكره.
ونحن لا نطالب بأن نكون كالصحابة.. الأمر يحتاج إلى تدرج، ومن لا يقرأ القرآن وليس له ورد فليبدأ ولو بربع ثمّ بحزب ثمّ بجزء.. وإن استطاع أن يقرأ بعد ذلك جزءين أو ثلاثة في اليوم فبها ونعمت، وله ثواب الأجر (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا) (الكهف/ 30).
الثاني: تعلُّم قراءة القرآن:
وهذا الأمر ليس صعباً، فمعظم الناس قد يتعلمون الإنجليزية أو الفرنسية، فلماذا يصعب عليهم تعلم القرآن الذي نزل بلغتهم وحديثهم اليومي؟! ولماذا يصير كلام الله الذي يقول عنه تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/ 17)، لماذا يصير صعباً عليك!!
لا شكّ أن كل واحد يعرف الإجابة عن هذا السؤال.
يقول النبي (ص): "خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلمه".
فأحسن المسلمين من تعلم كيف يقرأ القرآن ثمّ علمه لغيره.
ويقول (ص): "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به (أي يقرأ القرآن كما أنزل..) مع السفرة الكرام البررة (مع الملائكة المقربين)، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" (أجر القراءة وأجر المشقة)! ومعنى يتتعتع: أي يتلجلج ويضطرب.
وهناك سؤال: ما معنى تعلم القرآن؟!
معنى تعلم القرآن أن يقرأ المسلم القرآن بأحكامه: يمد الممدود ويغن الغنة ويقلقل القلقلة.. إلخ؛ لأنّ المسلم مطالب أن يقرأ القرآن كما كان يقرؤه الحبيب المصطفى (ص).
والسؤال: أين تتعلم تجويد القرآن؟!
والإجابة: على يد الشيخ في المسجد أو في بيتك أو في بيته.. والأمر كله لا يستغرق أكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر!! وبها تصير مع الملائكة الكرام البررة، وبهذا يرقى المسلم وتزداد منزلته عند الله تعالى!
ولذلك كان النبي (ص) يقول لأصحابه: "أيكم يحب أن يغدو إلى السوق فيأتي بناقتين زاهروتين" (أي جميلتين عظيمتين) "من غير إثم أو قطيعة رحم" (من غير إسراف أو شجار مع أحد)؟ فقالوا: كلنا نحب ذلك يا رسول الله، فقال: "لئن تغدو إلى المسجد فتتعلم الآيتين من القرآن كل يوم خير لك من أن تذهب إلى السوق فتأخذ كذا وكذا"، أي أن تعلم آيتين أفضل – بمقاييس اليوم – من ألف جنيه على الأقل! فمن منا يعزف عن هذا الفضل وهذا الكرم العظيم؟!
الثالث: التأثُّر عند قراءة القرآن:
يجب على المسلم أن يتأثَّر بالقرآن عند تلاوته ويتفاعل معه فيضطرب أو يهتز قلبه، ويشعر أنّ القرآن يتنزل عليه هو وفي لحظة قراءته، كما حكى الشاعر الكبير محمد إقبال قال: كان أبي يقول لي: يا بني اقرأ القرآن وكأنّما عليك أنزل!! وبهذا يذوق المسلم حلاوة القرآن ويستشعر عظمته..
وهذا هو الرسول الأكرم والمعلم الأعظم يضرب المثل والقدوة في التأثير بالقرآن والتجارب مع آياته الكريمة، قال يوماً لعبدالله بن مسعود: "اقرأ عليّ القرآن"، فيقول ابن مسعود: يا رسول الله: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، فجلست أقرأ عليه سورة النساء، حتى وصلت إلى قول الله عزّ وجلّ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) (النساء/ 41)، فقال له (ص): "حسبك الآن" (أي كفى) فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان (أي يبكي (ص) من التأثر بالقرآن والتعايش معه؛ إذ علم أنّه (ص) المقصود والمعني بهذه الآية).
وأنا أسألك – أخي القارئ العزيز – هل بكيت وأنت تقرأ القرآن ذات مرّة؟!
وهذا صحابي آخر يقول: كنا نسمع لرسول الله (ص) وهو يقرأ القرآن في الصلاة أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء (أي أنّه (ص) كان يحدث مثل الهزة عند القراءة لشدة تأثُّره بها، وأزيز المرجل هو صوت الإناء الذي يغلي به الماء)!!
وهذا هو الصديق – رضي الله عنه – تلميذ النبي الأوّل ورفيقه في حياته وبعد مماته – كما اشتكى النبي (ص)مرضه الذي مات فيه قال لآل بيته: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فكأنهم تعجبوا من ذلك وقالوا يا رسول الله: إن أبا بكر رجل أسيف (شديد التأثر بالقرآن) إذا قرأ القرآن بكى!!
- فهل شعر أحد منكم بلذة القرآن وحلاوته؟ هل دخل أحدكم مرة في صلاة القيام وكان ينوي أن يصلي بربع فإذا به لا يستطيع مقاومة حلاوة القرآن فقرأ أكثر من ذلك واستمتع بالقرآن ومناجاة الرحمن؟!
الناس يتفاوتون في التجاوب مع القرآن، ونرى هذا واضحاً في شهر رمضان، لا سيما في صلاة التهجد، فبعضهم يتأثر ويبكي وبعضهم يتأثر ولا يبكي وبعضهم لا يتأثر ولا يبكي، والعجب أنك قد ترى رجلاً غير عربي باكستانياً أو بنغالياً مثلاً، ومع ذلك يبكي عند سماع القرآن، وسبحان الله.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والقلب إذا قسا – والعياذ بالله – لا يتأثر بالقرآن. يقول تعالى عن اليهود في سورة البقرة: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (البقرة/ 74)، إلى آخر الآية.
ويتحدّث النبي (ص) وكأنّه يصف أحوال قلوبنا التي قلما تتأثر الآن بالقرآن – فيقول: "سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب، فيقرؤونه لا يجدون له لذة، إن قصروا قالوا: سنبلغ (أي سنصل إلى ما نريد)، وإن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا".
الرابع: تدبُّر القرآن:
سبق أن ذكرنا واجبين من واجبات المسلم نحو القرآن وهما القراءة والتعلم.. والواجب الثالث هو: القراءة بتدبر.. ومن فضل الله علينا أنّ القرآن نزل بلسان عربي مبين سهل واضح.. واسمع مثلاً إلى قوله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا) (الأنعام/ 59)، آية بينة واضحة تتحدّث عن علم الله المحيط، ومن قرأها لابدّ أن يحس بعظمة الله تعالى وقدرته.. وإن لم يحس بهذا فليعلم أنّه لم يتدبر الآية وأنّه قرأها بقلب غافل ساهٍ.
ومن لا يتدبّر القرآن لا شكّ أن على قلبه قفلاً. قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24) ويقول تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (الزمر/ 23).
وبعض الوسائل المعينة على تدبر القرآن، قراءة بعض تفاسير القرآن لمعرفة ما قد يغمض منه من كلمات أو يدقّ من معانٍ، ويُفضل أن نبدأ بتفسير "ابن كثير"، فهو تفسير بسيط، فإن أردت أن تستزيد فاقرأ "في ظلال القرآن".
الخامس: مراجعة ما نحفظ من القرآن:
فلا يصح لمسلم أن يحفظ كلام الله ثمّ ينساه، ومما يعين على الحفظ كثرة المراجعة والصلاة بما تحفظ خاصة في قيام الليل.
يقول النبي (ص): "عُرضتْ عليَّ ذنوب أمتي فلم أجد ذنباً أعظم من سورة أو آية من قرآن أوتيها رجل ثمّ نسيها"..
وهذا تحذير من النبي (ص)، وبيان لصعوبة موقف المسلم الذي لا يعتني بالقرآن العناية الواجبة، فينساه بعد أن يحفظه.
ويقول (ص): "تعاهدوا هذا القرآن (أي احرصوا على قراءته ومراجعته) فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتاً من الإبل في عُقلها".
ويفضل لمن لا يحفظ شيئاً من القرآن أو من يودّ الحفظ بشكل منتظم أن يبدأ من سورة الناس.. وحبذا لو حرصتَ على قراءة تفسير ما تقرأ أو تحفظ، لأنّ معرفة التفسير من الوسائل المعينة على تثبيت الحفظ وسرعة التذكر.. وأكرر نصيحتي لك بأن تحرص على أن تقوم الليل بما تحفظ من القرآن.
السادس: العمل بالقرآن:
من واجبات المسلم نحو القرآن العمل به – أي بأوامره ونواهيه – يقول (ص): "والقرآن حجة لك أو عليك".. ويكون حجة عليك عندما تقرؤه فلا يتجاوز آذانك ولا ينعكس على سلوكياتك وتصرفاتك..
ولا تنس أنّ النبي (ص) كان خلقه القرآن.. أي كان يحرص على تطبيق ما في القرآن.
ويقول عبدالله بن مسعود (رض): كنا نتعلم العشر آيات من القرآن فلا ندعها حتى نعمل بها – أو فلا نجاوزها إلى غيرها حتى نعمل بها – فتعلمنا العلم والعمل جميعاً.
ولأنّ الصحابة كان يفقهون آيات القرآن ويعيشون معها كانوا يسارعون إلى طاعة أوامر الله عزّ وجلّ واجتناب نواهيه.. ولهذا لما نزلت آيات النهي عن شرب الخمر سكب المسلمون ما عندهم من أواني الخمر حتى امتلأت بها سكك المدينة، أي شوارعها وطرقاتها وقالوا: انتهينا يا ربنا. وكذلك آيات الحجاب.. لما نزلت سارعت نساء الأنصار إلى أثوابهنّ وجعلن منها حجاباً كما أمر الله تعالى.. وكذلك عندما نزلت آيات الزكاة والصدقة.. (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران/ 92)، قام سيدنا أبو الدحداح إلى أجمل حديقة عنده وأحبِّها إليه فتصدق بها.. والفرق بيننا وبين الصحابة – رضي الله عنهم – أنهم كانوا يتلقون القرآن للعمل والتنفيذ، أما نحن فللأسف نتلقاه للاستماع والإعجاب فقط، وقلما يلتزم أحد الآن بواجباته كلها نحو القرآن العظيم.
ويا لسوء عاقبة من ينطبق عليه قول الرسول (ص): (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان/ 30). فهل تحب أن تتحمل أن يشكوك الرسول (ص) إلى ربك وخالقك ورازقك تعالى؟! إنّه لموقف عصيب شديد.
كيف نفهم القرآن؟!
من فضل الله تعالى أنّه أنزل القرآن بلسان عربي مبين.. ولذا فإنّ العرب سيكونون أشد الناس حساباً على القرآن يوم القيامة.. واللغة العربية هي لغة أهل الجنة، واللغة العربية ثرية بألفاظها ومفرداتها وتراكيبها.. وأصول الكلمات في اللغة العربية 50 ألف كلمة، بينما هي في الإنجليزية 20 ألفاً فقط.
فمثلاً كلمة (حبيب).. أقصى عدد من الاشتقاقات لها في الإنجليزية اثنا عشر اشتقاقاً، بينما تصل في العربية إلى ما بين 40 و45 اشتقاقاً..
ومعلوم أنّ اللغة العربية استفادت كثيراً من القرآن، ولولا ذلك لانتهت هذه اللغة أو أوشكت، فالقرآن هو الذي حفظ لهذه اللغة بقاءها ونماءها وتطورها وتجددها وحيويتها، ومعلوم أن لغات أوربا كلها أصلها اللاتينية، ولكن لما انقسمت وتعددت دول أوربا ظهرت عشرات اللغات فيها كالفرنسية والألمانية والبرتغالية والأسبانية... إلخ، وكلها متداخلة مع بعضها، لأنّه ليس بينها رابط، أما غاللغة العربية فبقيت محفوظة ببقاء القرآن، وإن تعددت اللهجات. ولكن إذا تحدثت بالعربية الفصحى يفهمك أخوك العربي في أي مكان. ولهذا فإن علينا أن نفخر بانتمائنا للأُمّة العربية والدين الإسلامي معاً.. وعلينا أن نحرص على التحدُّث بها، ولا نستحي منها، ولا يكون عندنا عقدة نقص فنتشدق ببعض الكلمات الأجنبية التي نحفظها ونهجر العربية، لغة القرآن.►
المصدر: كتاب عبادات المؤمن
تعليقات
حدد سيف الدين
جيد ممتاز 100/100