◄إنّ الكرامة الإنسانية ترتبط في المفهوم الإسلامي بالحرية وبالمسؤولية، فهي ليست كرامة بدون دلالة عملية تنعكس في سلوك الفرد ومعاملته لأعضاء الأسرة البشرية. ولعلّ من أعمق البحوث التي عرضت لهذا الجانب من الكرامة الإنسانية ما كتبه عباس محمود العقاد في كتابه "الإنسان في القرآن"، حيث يقول: "إن مكان الإنسان في القرآن الكريم، هو أشرف مكان له في ميزان العقيدة، وفي ميزان الفكر، وفي ميزان الخليقة التي تُوزَن به طبائع الكائن بين عامة الكائنات، هو الكائن المكلَّف، وهو أصوب في التعريف من قول القائلين (الكائن الناطق) وأشرف في التقدير".
إنّ المسؤولية والحرية ترتبطان في المنظور الإسلامي بالكرامة الإنسانية ارتباطاً وثيقاً؛ فالله تعالى الذي كرّم بني آدم، هو الذي – سبحانه – جعل الإنسان مسؤولاً عن عمله، فرداً وجماعة، لا يؤخذ واحدٌ بوزر واحد، ولا أمة بوزر أُمّة؛ (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور/ 21)، (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286)، (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى) (النجم/ 39)، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8)، (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164). فهي إذن، كرامةٌ إنسانيةٌ مسؤولة تنبع من إحساس المرء بوجوده الحر، وبذاتيته المتفرّدة، تترتب عليها تبعاتٌ، إنْ نهض بها صاحبُها على النحو الذي يُرضي الله أولاً ثمّ يُرضي ضميره، كان منسجماً مع كرامته، مستمتعاً بها، موفياً لها حقَّها من المراعاة والاعتبار، ومن الحفظ والصون.
لقد جعلت المبادئ الإسلامية الإنسانَ سيّد نفسه في كنف عبوديته لله، فهو مخلوق مكرّم، استخلفه الله في الأرض لتعميرها، وليعبد الله بأنواع الطاعات والعبادات التي لا تعدّ ولا تحصى، فالإنسان المؤمن يعبد الله في كلّ الأحوال، بعقله وضميره، وبقلبه وجوارحه. ومن عبوديته لله، ومن طاعته للذات الإلهية وعبادته لها، يستمدُّ الإنسان إحساسَه العميق بالكرامة، وشعوره بالاعتزاز والارتياح والرضا والطمأنينة لفعله الخيرات، ولإقباله على الطاعات.
وهذا الشعور هو نعمةٌ تغمر قلب الإنسان المؤمن، وتفيض بها روحه، وتجيش بها جوارحه كلُّها.
إنّ الإسلام كرَّم الإنسان حين جعل شرف الإنسانية يتمثّل أوّلاً وآخراً في صلتها بالله، واستمدادها منه، وتقيّدها بشرائعه ووصاياه. والحرية الحقيقية – التي هي جوهر الكرامة الإنسانية – ليست في حقّ الإنسان أن يتدنَّس إذا شاء ويرتفع إذا شاء، بل الحرية أن يخضع لقيود الكمال، وأن يتصرف داخل نطاقها وحده. وقيود الكمال هذه تضعنا على الطريق إلى الله، طريق الكمال، والتصفية، والتحوّل عن مواطن الغفلة والركود، إلى مواطن الذكر والحرية، والسير في ميادين النفوس سيراً وجهتُهُ الله وعدتُه صالح الأخلاق والأعمال، وشاراته التوبة والرغبة إلى الله والورع والعفّة والقناعة والصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكّل والحب.
لقد جعل الإسلام التقوى أعلى درجات التكريم والإكرام للإنسان (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، ولذلك فكرامة الإنسان هي في تقرّبه إلى الله، باتباع تعاليم دينه ووصاياه، وباجتناب نواهيه وما حرّمه على عباده. وهذا السلوك المستقيم السويّ هو عينُ التقوى، إذ ليست التقوى شيئاً مجرداً، ولكنها إيمان وعمل وسلوك وممارسة وإقبال على فعل الطاعات والحسنات. وكلما أوغل الإنسان في هذه الطريق السالكة المؤدية إلى رضا الله على عبده، كان أوفر كرامة، تفيض عليه، وتغمره، وتملأ نفسه رضا وسكينة وطمأنينة وثقة في الله.
وللشيخ محمود شلتوت تعريفٌ لطيفٌ وبصيرٌ في تفسيره حيث يقول: "أمّا تقوى الله تعالى، فهي ترفع في معناها العالم إلى اتقاء الإنسان كلّ ما يضره في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والكمال الممكن في الدنيا والآخرة. والتقوى ليست خاصة بنوع من الطاعات، ولا بشيء من المظاهر، وإنّما هي كما قلنا، اتقاء الإنسان كلّ ما يضره في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين الكمال الممكن. ومن ثمرات التقوى حصول الفرقان – ما يفرق به المرء بين الخير والشر والضار والنافع في هذه الحياة –، فالعلم الصحيح، والقوّة، والعمل النافع، والخلق الكريم، وما إلى ذلك من آثار التقوى، هي الشجرة والفرقان هو الثمرة".
وبما أنّ الإسلام هو دين الحياة، فإنّه يدعو الإنسان إلى أن يمارس هذه الحياة بالحضور والمساهمة والإنتاج، وإلى أن يكون هذا الحضور متسماً بالعزّة والكرامة والشرف، مما لا يمكن أن يتحقّق إلّا بالحرية التي هي في طليعة حقوق الإنسان، والتي تُعَدُّ في الرؤية الإسلامية، قيمةً كبرى، سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة.
إنّ أعظم تكريم للإنسان، في المنظور الإسلامي، أن هداه الله إلى التوحيد. ومن التوحيد دعوةُ الإسلام إلى الكرامة وإلى الحرية. والتوحيد هو تحرير الإنسان من الشرك، ومما يقذفه الشرك في قلب المرء من شعور بالهزيمة والسقوط: سقوط القيمة والهمة والاعتبار، وسقوط الشخصية المعنوية والكرامة الإنسانية.
ولما كانت كرامة الإنسان في التوحيد، وكان التوحيد هو تحرير الإنسان من الشرك بكل معانيه ودلالاته، فإنّ الكرامة الإنسانية تتجلَّى أسطع وأقوى ما يكون التجلّي في:
1- مقاومة عبادة الأصنام والأوثان، (بكل أشكالها وأنواعها).
2- محاربة الخضوع للأهواء والنزوات، (بجميع أصنافها وأضرابها).
3- منع الانسياق لطغيان المال، (على أي وجه من الوجوه).
4- الوقوف ضد استعباد الإنسان للإنسان (أيَّا كانت الأسباب والدواعي).►
المصدر: كتاب الحوار من أجل التعايش
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق