◄يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21)، ويقول أيضاً: (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31)..
روى الإمام الباقر (ع) أن رسول الله (ص) قال: "لا نبيّ بعدي، ولا سنّة بعد سنّتي"[1].
للقدوة والأسوة العملية في المبادئ والقيم دور أساس وفعّال، فالقدوة تمنح الفكر قيمة عملية، وتمنح رجالاتها المصداقية والوثاقة.. وتمثل القدوة العملية الصيغة الحية للفكر والمبادئ.. وفي الحديث عن الرسول (ص) القدوة والاقتداء به ينبغي أن نجيب على السؤال الذي يثيره خصوم الإيمان، وهو: ما معنى أن يقتدي إنسان بانسان فيقلده ويتبعه خطوة بخطوة.. أليس في ذلك مصادرة لإرادة المقتدي، وتغييب لعقله واختياره.. أليس هناك تطورات زمنية وظروف مستجدة تختلف عن تلك التي عاشها الرسول (ص)؟
وللإجابة على هذه الإثارات الصادرة عن فهم سيِّئ لمعنى القدوة والاقتداء بالرسول (ص) ينبغي الانطلاق من الإيمان بالله تعالى والنبوة أوّلاً، وأنّ الله سبحانه أعلم حيث يضع رسالته، فهو الذي اصطفاه واختاره لحمل الرسالة والدعوة إليها.. وتلك المهمة تقتضي أن يكون النبيّ (ص) معصوماً[2] من ارتكاب المعصية، أي معصوماً من فعل القبائح والسيِّئات التي دعا الناس إلى تركها، وعاملاً بما أمر الناس العمل به.. وثانياً دراسة السيرة العملية والقولية للرسول (ص) على ضوء التحليل العلمي والنفسي لنكتشف الاستقامة والكمال البشري في سلوكه فنفهم لماذا القدوة.
والعصمة: هي صفة نفسية وعقلية تعني حصول درجة الكمال الإنساني عند المعصوم.. فالإنسان بإنسانيته التي فطره الله عليها له ماهية ممثلة لنوعه، كما لأي شيء مادي أو حيواني أو نباتي صورة عُليا ممثلة لنوعه.. فالماء له ماهية ممثلة لنوعه، والهواء له ماهية ممثلة لنوعه، والحيوان له بحيوانيته ماهية ممثلة لنوعه، والنبات بنباتيته له ماهية ممثلة لنوعه.. فالإنسان كما هو واضح ومفطور له هوية إنسانية صورتها الحقة في السلوك هي الكمال، كالصدق والعدل والرحمة، واستخدام الغريزة بما وضعت له تكوينياً.
وتحقيقها يتأتى باختيار الإنسان بما لديه من ملكات نفسية وعقلية وإرادة وتوازن في بناء الشخصية.
والمعصوم بلطف من الله، وبفعله الاختياري يحقق العصمة، يصنع من ذاته الإنسان الكامل، أو كما يقول أهل الفلسفة والعرفان يحقق الآدمية الكاملة.
ولكي تتحقق العصمة السلوكية من الناحية النظرية لدى الإنسان فإنّه يحتاج إلى توفر شيئين هما:
أوّلاً: العلم والمعرفة التامة بكل مفردة سلوكية ليعرف الحسَن من القبيح، والحق من الباطل، والضار من النافع.
ثانياً: تطابق الإرادة مع الحقيقة العلمية تلك بصورة دائمة، وتحقيق ذلك من الناحية العملية قد يسّره الله بلطفه لأنبيائه، ليكونوا الممثلين للنوع الإنساني ولصورة الإنسان المطلوب تحقيقها، وجاءت الشرائع بمنهاج سلوكي لتكون دليلاً للإنسان لبناء ذاته، كما تكون الخارطة دليلاً لبناء الجهاز الآلي، وإدارة عمله وصيانته، أو كما يهتدي الطيار والبحار بالخارطة في مساره، فلا يضل الطريق.
وتفيد الدراسات النفسية إنّ الإنحرافات السلوكية مثل الكذب والسرقة وجريمة القتل والحقد والأنانية واللجوء إلى الخمور أو الزنا واللواط أو ظلم الآخرين، وارتكاب السلوك العدواني، إنّما سببه الجهل والتربية السيئة، والتكوين النفسي والجسدي غير المتوازن، لا سيما أنشطة الغدد الصماء والجهاز العصبي ومناطق المخ، وضعف الإرادة، لذا فتح الله سبحانه باب التوبة والعفو والرحمة، ليكون أمام الإنسان متسع لتلافي ما صدر عنه من سوء بسبب تلك المؤثرات..
والمعصوم: قد سلمت فطرته التكوينية من تلك المؤثرات، وهو بعلمه واختياره النقي صار معصوماً، أي يسير في سلوكه وفق نقاء الفطرة من غير تلويث، وبذا فهو يمثل الهوية الإنسانية (الآدمية) بصيغتها التكاملية، وسلوكه يمثل السلوك الصحي السوي، الخالي من العقد والأمراض النفسية، والجهل والخطأ.. فهو يشخص بسلوكه قانونية السلوك الإنساني السليم، لذا فالاقتداء به هو عمل بالسلوك الإنساني السوي، وممارسة عملية لبناء الذات الإنسانية السويَّة..
وبذا يكون السلوك النبوي مقياساً للسلوك، فهو مصحح للسلوك والمحتوى الذاتي للإنسان، وعاصم له من الانحراف، فهو بيان عملي للمنهج والسلوك السوي علمياً في الحياة.
لذا فاتباعه إذاً ليس تقليداً أعمى يمارسه إنسان لإنسان، ولا مصادرة للذات الإنسانية، ولا إسقاطاً لهوية الإنسان المقتدي، كما يدعي خصوم الإيمان، بل هو عمل بالسلوك السوي المستقيم.
إنّ السيرة النبوية تشكل مقياساً وتفسيراً إسلامياً للقيم والمبادئ والمعتقد الإسلامي بشكله النقي الأصيل.. بعيداً عن عبث العابثين وتفسيرات الفلسفة والرأي والتأويل الخاطئ للنصوص.. فالسيرة صورة تنفيذية مفسِّرة للنص اللفظي، أو صانعة لمفهوم وتشريع إسلامي مجسَّد بشكله المادي المشرق المحسوس، كما أن مسألة إثبات ما صدر عن الرسول (ص) نجدها في مجال السيرة العملية أفضل منها في السنّة اللفظية، فالمكذوب في مدونات السيرة العملية ورواياتها أقل بكثير منه في السنّة اللفظية والقولية..
إن مجتمعنا المعاصر أحوج ما يكون إلى الاقتداء بسيرة الرسول (ص) العملية، وإن إحياء السيرة والسنّة النبوية مسألة أساسية وحضارية.. إنّنا بحاجة إلى تأسيس المشاريع والمؤسسات العصرية لإحياء السنّة.. فقد كان في كلّ سلوك سلكه الرسول (ص) مؤسسة خير وإصلاح وتطوير للمجتمع وبناء أخلاقي وحضاري للإنسان..
فكم دافع الرسول (ص) بمواقفه العملية عن المظلوم ومن ضُيّع حقّه، وكم اهتمّ بالأيتام، وكم قضى حوائج المحتاجين، وأغاث الملهوفين، وكم صدر عنه ما يؤكد عنايته بالحيوان.. وكم كان له من مواقف لحل المشاكل والإصلاح، وكم كان من وقته وجهده للعبادة والدعوة إلى الإسلام..
إنّ تأسيس المؤسسات ومشاريع البر التي تقوم بكل تلك الأنشطة، ونشر تراث السيرة، والتثقيف عليه، والحث على العمل به في حياتنا العملية، هو بناء لوجودنا الحضاري في مجال الأسرة والمجتمع والدولة، وفي التعامل مع ذوي القربى والجار والخصم والصديق، في الأفراح والأحزان، وهي أساس لتصحيح التقاليد الاجتماعية الخاطئة..
إنّ الدعوة إلى الإقتداء بالرسول (ص) وتعميق البحوث والدراسات التحليلية للسيرة هي دعوة لتطوير المجتمع، والتسامي به نحو إنسانية الإنسان وآدميته.►
..........................................................
[1]- أمالي الشيخ المفيد، ص53.
[2]- العصمة: عبارة عن قوة العقل من حيث لا يغلب، مع كونه قادراً على المعاصي كلها، كجائز الخطأ، وليس معنى العصمة أنّ الله يجبره على ترك المعصية، بل يفعل به ألطافاً يترك معها المعصية باختياره مع قدرته عليها، كقوّة العقل، وكمال الفطنة والذكاء ونهاية صفاء النفس، وكمال الاعتناء بطاعة الله تعالى. السيد عبدالله شبر، حق اليقين، ج1، ص90.
اعتصم: "في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من شيء كأنّه امتنع عن الوقوع في ما يكره وليس هي جنساً من أجناس الفعل". الشيخ المفيد، أوائل المقالات، ص150. "والعصمة في اصطلاح المتكلمين هي لطف خفي يفعله الله تعالى بالمكلف بحيث لا يكون له داعٍ إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك". العلامة الحلي، الباب الحادي عشر، ص37، شرح السيوري. عرفه الإمام الصادق (ع) بقوله: "المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله". المجلسي، بحار الأنوار، ج25، ص194.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق