• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاستقامة واستشعار معية الله

عمار كاظم

الاستقامة واستشعار معية الله

من المفاهيم التي أراد الله أن يؤكدها في وجدان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في خط الدعوة والحركة وفي وجدان كلّ المسلمين الذين اتبعوه، مفهوم الاستقامة، الذي أراد الله وله ولكلمة التوحيد أن يلخصا كلّ الإسلام وكلّ الدعوة، بحيث تكون الدعوة منطلقة من قاعدة التوحيد ثمّ الامتداد في خط الاستقامة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصّلت/ 30). يعتبر مبدأ الاستقامة من أهمّ المبادئ المحوريّة في الشخصيّة الإيمانية التي يتمحور حولها الكثير من الصفات والفضائل ومكارم الأخلاق، وبفقدانها يفقد المؤمن أهم ركائز الإيمان وأركانه. عن الإمام عليّ (عليه السلام): «لا مسلك أسلم من الاستقامة، لا سبيل أشرف من الاستقامة». وعنه (عليه السلام): «اعلموا أنّ الله تبارك وتعالى يبغض من عباده المتلوّن، فلا تزولوا عن الحقّ، وولاية أهل الحقّ، فإنّ من استبدل بنا هلك». والحديث عن الاستقامة حديثٌ عن ملكة تلازم أفعال أهل الإيمان، وعن مقامٍ روحيّ لا ينحدر عنه مهما قست العروض والتحدّيات، فهي ليست فعلاً عابراً أو موقفاً في حادثة أو لحظة تجلٍّ وتجرّد مع الله، بل هي استقامة دائمة بدوام الحياة واستمرار العمل والمواجهة مع أئمّة الكفر والضلال، ومن هنا فإنّ قيمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الهدى (عليهم السلام) تكمن في ثباتهم على هذا المبدأ وعدم تزلزلهم أو ضعفهم أو صدور ما ينافي الاستقامة في كافّة أعمالهم ومواقفهم وسلوكيّاتهم، رغم أنواع الابتلاءات والمحن والعذابات التي تعرّضوا لها، وما زال أتباعهم يتعرّضون لها اليوم على مساحة العالم كلّه. وتتجلّى الاستقامة في الشخصية الإيمانية في ميادين مختلفة ومتعدّدة أهمّها، الاستقامة الفكرية وهي الاستقامة في مجال التشريعات الإلهية والقيم والمبادئ التي دعت إليها الشريعة ومختلف الأبعاد العقائدية والأخلاقية لرسالة الإسلام، والاستقامة في هذا الجانب أرقى أنواع الاستقامة. أيضاً، الاستقامة في الميدان الاجتماعي وهي الاعتدال في مقام التعامل مع الناس وتربيتهم وتعليمهم واستقطابهم والمساواة بينهم، والحكم بينهم بالعدل، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وعدّم الاستقواء عليهم بل الإحسان إليهم ومعاملتهم بالحسنى والكلمة الطيِّبة، وحثّهم على العمل الصالح وفضائل الأعمال وتحذيرهم من عواقب السيِّئات والأعمال الخاطئة ومفاسد الأمور. وأخيراً، الاستقامة في الميدان السياسي وتعني عدم التفريط في حقوق المسلمين وشؤونهم العامّة، وفي إدارة السلطة وضرورة المحافظة على مقدّرات المسلمين وثرواتهم، ومقدّرات بلادهم، وعدم إباحتها لأعداء الدين وبلاد المشركين لنهبها وتحسين أوضاعهم الحياتية والمعيشيّة على حساب المسلمين.

ومن هنا فإنّ معنى أن يكون الله ربّك أن تكون أنت عبده، وأن تكون أنت عبده أن تسير في الخط الذي يجسد هذه العبودية، أن لا تتحسس من عبوديتك أمام الله، أن لا يخطر في بالك أن تعطي فكرك الحرّية التي ينفصل بها فكرك عن الله، وأن تعطي قلبك الحرّية التي تبتعد فيها عاطفتك عن الله، وأن تعطي حركتك الحرّية التي تذهب بعيداً طاعة الله فيما أمر وفيما نهى. أنت عبد في دائرة الله وعبوديتك هي سرّ حريتك أمام الكون وأمام الناس، فأنت توحّد الله لتوحيد عبوديتك له، ثمّ لتنطلق في كلّ الساحات لتشعر أنّك حرٌّ في فكرك أمام فكر الآخرين. عندما تكون القضية خصوصية فكرك وأنت حرّ أمام الآخرين، بحيث تقول ربّي الله، فلا معنى لأن تكون لك شريعةٌ غير شريعته، وأن تقول ربي الله فلا معنى لأن يكون لك أولياء غير أوليائه، أو يكون لك أعداء غير اعدائه، لأنّك لا تملك استقلالك في العاطفة أمام ما يريده الله لك في حركة العاطفة في وجدانك. وهكذا فإن تؤيد هنا أو ترفض شخصاً، خطاً، نهجاً، موقعاً هناك.. أن تَسْتَفتي رأيك قبل أن تعطي الموقف تأييداً، وأن يكون الذي تؤيده ممن يرضى الله عنه شخصاً، فكراً، نهجاً، موقفاً واقعاً وأن ترفض مثل ذلك إن كان ممن لا يرضى الله عنه.

ارسال التعليق

Top