قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب/ 70-71).
نِعمة اللسان
إنّ من أهمّ النِّعَم التي أنعم الله بها على الإنسان، والتي تستوجب منه ثناءً وشُكراً لله، منحه القدرة على التعبير باللسان أو بالكتابة.
ويكفي ليعرف الإنسان أهمّية هذه النِّعمة، أن يتخيّل أثر زوالها عليه وعلى مَن حوله، أو أن يراقب مَن لا قدرة لديهم على النطق أو الكتابة، ويستشعر مدى الصعوبات التي يواجهونها، والتي ندعو إلى تخفيفها عنهم، عبر تأمين الفرص التعليمية والعلاجية والعملانية المؤاتية لهم.
فالقدرة على التعبير أو الكلام لها دور أساس في حياة الإنسان، فبها يُعبِّر عن مكنونات نفسه، وما يعتمل في داخله من مشاعر وعواطف وأحاسيس، أو شكاوى وهموم وغموم، وبها يُعبِّر عن أفكاره وتوجّهاته ونظرته إلى القضايا التي تُطرَح عليه، وهي وسيلة التواصل مع الآخرين، وبدونها، يصعب الحوار وتبادل الأفكار والآراء.
ولكنّ قيمة هذه النِّعمة وشُكرها، يكون بحُسن استثمارها والاستفادة منها، بأن تكون أداةً لبثّ روح الألفة والمحبّة، وزرع الخير في نفوس الآخرين، وتحقيق الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف مع قضايا الحقّ والعدل، وكلّ ما فيه خدمة للأفراد والمجتمع.
تأثير الكلمة
وإلّا، فإنّ هذه النِّعمة قد تتحوَّل إلى نقمة وإلى مشكلة لصاحبها وللناس، عندما يكون الكلام أداةً لزرع الفتن والأحقاد، أو خلق التوترات ونشر الفساد والانحراف، ولتأييد الظالم والفاسد، ولتثبيط العزائم عن قضايا الحقّ والعدل والحرّية، أو الدعوة إلى ترك المعروف وفعل المنكر.
ويكفي حتى يعرف الإنسان ما تفعله الكلمات، أن ندخل البيوت، أو ننزل إلى الشارع، أو نذهب إلى المستشفيات والسجون، أو إلى المقابر...
وتزداد هذه العواقب مع تطوّر وسائل الإعلام والتواصل، التي ألغت كلّ الحواجز أمام الكلمات على مستوى الزمان والمكان.
ولهذا، لم تعد تأثيرات الكلمة في هذا العصر تقف عند حدود ما يسعى إليه مطلقها، بل تصل إلى مواقع لم يكن يتوقَّعها، وقد لا يريدها، وينطبق على ذلك قول الإمام عليّ (ع): «الكلامُ في وَثَاقِك ما لم تتكلَّمْ به، فإذا تكلَّمْتَ به صِرْتَ في وَثَاقِه».
وقد أشارت الأحاديث إلى هذه التداعيات، وقد ورد في ذلك عن رسول الله (ص) أنّه قال: «إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغتِ، يكتب الله تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظنّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه».
وقد ورد في الحديث عن عليّ (ع): «رُبَّ قولٍ أنفذُ من صَولٍ». وفي حديثٍ آخر عنه: « رُبَّ كلامٍ أنفذ من سهام».
وقد قال الشاعر:
جراحات السِّنان لها التئام ***** ولا يلتأم ما جرح اللسان
ولذلك، عندما سُئِل عليّ (ع) عن أيّ شيء ممّا خلق الله أحسن؟ قال: «الكلام». فقيل له: أيّ شيء ممّا خلق الله أقبح؟ قال: «الكلام. بالكلام ابيضّت الوجوه، وبالكلام اسودّت الوجوه».
وقد سأل رجل رسول الله (ص) عمّا يدخله الجنّة، فقال له رسول (ص): «كُفَّ عليك هذا» (يقصد اللسان).. فقال له: يا نبيَّ الله، وإنّا لَمُؤاخذُون بما نتكلّمُ به؟ فقال له: «وهل يَكُبُّ الناسَ في النّارِ على وُجُوهِهِم أو على مَناخِرهم إلّا حصائِدُ ألسنتِهم؟!».
وفي الحديث: «بلاءُ الإنسان من اللسان».
الرقابة المطلوبة
من هنا، كانت إرادة الله سبحانه لعباده تشديد الرّقابة على اللِّسان، وهو بذلك أراد أن يشعر الإنسان بمسؤوليّته فيما يطلق من كلمات ويجعله أكثر حذراً، فرقابة الله عزَّ وجلَّ تشعرنا بالمسؤوليّة، وتجعل الإنسان أكثر حذراً إن هو تكلَّم، فيأخذ بالاعتبار أنّ كلّ كلمة هي محسوبة عليه ومسجَّلة عليه من ملكين موكلين به، والله سبحانه هو الرّقيب عليهم من ورائهم والشّاهد لما خفي عنهم، حيث يقول سبحانه: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) (ق/ 17)، (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18). ويقول: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (الملك/ 13). ويقول عزّوجلّ: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور/ 24).
ولذلك، نرى الإمام عليّاً (ع)، لما رأى رجلاً يتكلَّم من دون أن يحسب حساباً أنّ كلامه يُسجَّل عليه، كالكثيرين الذين يكثرون الكلام، أو يتسرَّعون فيه، أو لا يحسبون حساباً لتبعات كلامه.. قال له الإمام (ع): «ما هذا الذي تفعله؟ أتدري أنّك بذلك تملي على كاتبيك كتاباً إلى ربِّك؟!».
وفي الحديث عنه: «إنّ هذا اللسان مفتاح كلِّ خير وشرّ، فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه، كما يختم على ذهبه وفضَّته».
وفي الحديث: «لا يسلم أحدٌ من الذنوب حتى يخزن من لسانه».
ومَن يعي هذه الرقابة، والمؤمن يعيها، لابدّ من أن يدعوه ذلك إلى أن يدقّق في كلامه جيِّداً، فلا يتكلم بالكلمة إلّا بعد أن يتدبّرها.
وقد اعتبرت هذه علامة فارقةً بين المؤمن وغيره، لذا ورد: «إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه». فالمؤمن لا يتكلَّم بالكلمة إلّا بعد أن يتدبّر فيما يتكلّم ويدري ماذا له وماذا عليه.
ومن شدّة الاهتمام بهذه الرقابة، ورد في السيرة، أنّ بعض الصحابة، وحرصاً منهم على ألا تصدر أيّ كلمة عنهم إلّا بعد تدبّر، كانوا يضعون حصاةً في أفواههم، فلا يخرجونها إلّا بعد أن يدقّقوا فيما يخرج منهم، حتى لا تتسبّب كلماتهم بمشكلة في حياتهم، ولا عندما يقفون بين يدي ربّهم. وهناك منهم مَن كانوا يكتبون ما يريدون قوله، فيدقّقون فيه أو يطلبون من غيرهم ذلك، فإن وثقوا من صدقيّته ومن نتائجه وآثاره، تكلّموا به أو نشروه، وإلّا لم يفعلوا ذلك.
خارطة طريق
وقد جاءت التشريعات لترسم للإنسان خارطة طريق لكلامه، فحدَّدت له أيّ كلام يتكلَّم به أو يكتبه، وما هو المحذور منه، فهي حرَّمت القول بغير علم، والغيبة والنميمة والكذب والبهتان والكلام البذيء، وإشاعة الفاحشة والمسّ بأعراض الناس وكراماتهم وتوهينهم بغير وجه حقّ، والتنابز بالألقاب والسخرية والاستهزاء، والكلام من غير هدى واللغو... وقد جعلت هذه من الكبائر التي توعَّد الله عليها بالنّار.
ولم تكتفِ بأن حمّلت الإنسان المسؤولية عن كلامه، بل حمّلته المسؤولية عن أية تداعيات يحدثها كلامه من ضرر، على صعيد الأفراد أو المجتمع أو المؤسّسات أو الوطن أو قضاياه العامّة.
وقد قال الله سبحانه: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس/ 12).
ودائماً نذكر الحديث الوارد: أنّه يؤتى للإنسان بقارورة فيها دم، فيقال له: هذا نصيبك من دم فلان، فيقول: يا ربّ، أنا لم أقتل ولم أجرح، فيقال له: ولكن خرجت منك كلمة، من دون أيّ تدبّر للنتائج والعواقب، فأدّت إلى فتنة، وأدّت إلى قتل، فأنت شريك في هذا الدم.
ولذلك، ورد عن عليّ (ع): «لا تقلْ ما لا تعلَمُ، بل لا تقلْ كلَّ ما تعلَمُ، فإنّ اللهَ قد فَرَضَ على جوارحِك كلِّها فرائضَ يَحتَجُّ بها عليك يومَ القيامةِ».
أثر الكلمة الطيِّبة
والإسلام لم يقتصر في تشريعاته على النهي عن الكلام المحرَّم، أو الذي يترك أثراً سيِّئاً، بل دعا إلى الكلام الذي يوقظ في الناس الخير والمحبّة والصلاح والشعور بالمسؤولية، ويدفعهم إلى معالجة قضاياهم. فقد ورد في ذلك قوله سبحانه: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النِّساء/ 114).
وعندما جاء رجل إلى رسول الله (ص) وقال: علّمني عملاً إن أنا عملته دخلت الجنّة، قال له (ص): «أمسك لسانك إلّا عن خير». وفي حديثٍ آخر: «فليقل خيراً أو ليصمت».
وقد ورد في الدُّعاء: «اجعل همسات قلوبنا، وحركات أعضائنا، ولمحات أعيُننا، ولهجات ألسنتنا، في موجبات ثوابك».
وفي إطار هذا الخير، جاءت الدعوة للإنسان، إلى أن يكون الاختيار للكلمة الطيِّبة التي تترك أثراً طيِّباً عند الآخرين. وفي ذلك قوله سبحانه: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (الإسراء/ 53).
ويراد بالأحسن، الكلمات التي لا تستفزّ الآخر ولا تثيره، بل تترك أثراً طيِّباً عنده حتى عندما تخالف رأيه.
وفي ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).
واقعنا الذي تغلب عليه التوترات والانفعالات والحساسيات والعصبيات، هو أحوج ما يكون إلى الكلمة الواعية الحكيمة المدروسة التي تخاطب القلوب، وتصل إلى العقول، والقادرة على تجاوز الحساسيات والعصبيات.
ونذكر قوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) (إبراهيم/ 24-26).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق