• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تربية الفطرة في قلوب الأطفال

أحمد حسن الخميسي

تربية الفطرة في قلوب الأطفال
تحمل الولادة في طياتها البشرى للأسرة، فالأبوان يفرحان لأنّ الوليد الذي رزقاه هو ثمرة زواجهما الميمون، جاء ليملأ عليهما حياتهما ويزين لهما الدنيا ويزيدها جمالاً، ويكون لهما – إن شاء الله تعالى – الابن البار الذي يجعل الإحسان لوالديه ديدنه مدى الحياة... ويولد الإنسان على الفطرة ورد في الحديث الشريف: "ما من مولود يولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يمجِّسانه..." ثمّ يقول أبو هريرة راوي الحديث: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ...) (الروم/ 30). والفطرة هنا هي فطرة الإسلام من التوحيد ومعرفة الله، ولو خُلِّيَ وطبعه لما اختار إلا طريق الإيمان، على وجه الإحسان، لما جُبل عليه من الطبع المتهيِّئ لقبول الشرع، فلو تُرك عليها لاستمر على لزومها، ولم يفارقها مائلاً إلى غيرها. ويعمل الأبوان على تثبيت هذه الفطرة وتربيتها أو تغييرها إلى دين آخر كما ورد في الحديث السابق. وعندما يولد الطفل يولد وهو يحمل في قلبه الاعتقاد الذي كان عليه في عالم الأرواح. عندما سأل الله الخلائق عن ربهم فأجابوا أنّه هو لا غيره. (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف/ 172). وتحاول شياطين الإنس والجن تغيير هذه الفطرة، كما هو واضح في الحديث القدسي الذي رواه مسلم – يقول الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء؛ فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم". هذه الفطرة التي يولد عليها الطفل تحتاج إلى رعاية، فإن سقت الأسرة هذه البذرة الإيمانية وتعهدتها، نمت وترعرعت على حب الله وتوحيده، وإن غيّرها الأبوان، خرجت معوجَّة، فيهيم صاحبها في وديان الكفر أو الشرك أو النفاق، فيهلك، ويكون داعية للهلاك – نسأل الله العافية، فاللأبويْن دور هام في توجيه الأطفال نحو الدين الذي يلتزمونه. ويتساءل الآباء، كيف نرعى هذه الفطرة، وننميها ونربيها في قلوب أطفالنا منذ الصغر؟. إذا أردنا تعزيز الفطرة وتغذيتها، فعلينا أن نُسمع الطفل الكلمات الطيبة، وندعوه للقيام بعبادات ترفد فطرته وتنسجم معها، ونقدم له القدوة الرائدة. إنّ للكلمات الطيبة ذات المعاني السامية أثراً في نفس الطفل منذ ولادته لذلك روت كتب السيرة أن رسول الله (ص) أذَّن في أذن الحسن اليمنى، وأقام الصلاة باليسرى، ليكون أوّل الكلام الذي يدخل أذنه يتناسب مع الفطرة (الله أكبر... الله أكبر...). روى الإمام أحمد والترمذي: "أن رسول الله (ص) أذَّن في أذن الحسن بن عليّ حين ولدته فاطمة...". وصار هذا الفعل سُنّة للمسلمين على مرّ العصور، ومن الطرائف التي تذكر في هذا المجال ما جاء في كتاب (آمنت بربكم) للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، أن امرأة أمريكية أسلمت، وتزوجت رجلاً من بلاد الشام كان يعمل هناك، وبعد أشهر رجع لزيارة أهله في سورية، وأثناء غيابه عن البيت، ولدت له مولوداً، وعندما سمع الخبر جاء واحتضن الوليد، وأراد أن يؤذن في أذنه، فقالت زوجته لماذا تفعل ذلك؟ قال: لأن ذلك من سنة رسول الله (ص). فقالت: لقد فعلت ذلك دون أن أعلم بهذا، فعندما ولدتُه، قلت لنفسي: ما هي الكلمات الأولى التي يجب أن أُسمعها ابني في هذه اللحظات، عندها سمعت الأذان يملأ الفضاء، فقلت: هذا أجمل كلام، فأذنت بأذنه، ففرح الأب وهو يردد: إنها الفطرة هدتك لتطبيق سُنّة رسول الله (ص). فقد غذَّت فطرة الأُمّ فطرة الصبي، وقد تحدث العلماء عن تأثير هذا الأذان. يقول ابن القيِّم – رحمه الله –: "أن يكون أوّل ما يقرع سمع الإنسان، كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أوّل ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له، شعار الإسلام عند دخوله الدنيا، كما يلقن التوحيد عند خروجه منها. وأن تكون دعوته إلى الله، وإلى دينه الإسلام، وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر عليها، سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها، ولغير ذلك من الحكم". وقد توصل علماء النفس أنّ الطفل يتأثر بالكلام منذ الدقائق الأولى من حياته، وقد أشار إلى ذلك "كوندن" عام 1979م، فقد قرر: "أنّ الطفل يتفاعل مع الصوت الكلامي بعد عشرين دقيقة من الولادة، وأن ذلك يلعب دوراً هاماً في سياق تطور الطفل وتشّربه سمات الوسط الثقافي الذي يكبر فيه". مما تقدم نجد أنّ الطفل في سنته الأولى، يستحسن أن نُسمعه الكلمات ذات المعاني الإيمانية اللطيفة، والآيات القرآنية والأناشيد الحلوة من المسجل وغيره، وننشد له أناشيد خفيفة فيها معان إيمانية عندما تهدهد له الأُم لينام، أو تقرأ له بصوتها الحنون سوراً قصيرة أو آيات قليلة ذات جرس محبب مثل: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ...) أو (سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (يس/ 58)، أو تردد أسماء الله الحسنى مثل: "يا فتاح، يا رزاق، يا عليم، يا كريم، يا رحيم، يا الله". وتكرّر ذلك عدة مرّات حتى ينام على هذه الأنغام العلوية. وعند بدء الطفل بنطق الكلمات، نسمعه كلمات: "يا الله – يا رحيم...". ونطلب منه ترديدها ونطقها ونساعده على ذلك. وعندما يتقن الطفل نطق الجمل، ويعبر بها عما يريده ويشعر به، نُعلِّمه جملاً سهلة مثل: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، ونحفظه سورة الإخلاص، وغيرها كلما كبر سنه. روى عبدالرزاق في مصنفه عن عبدالكريم بن أمية قال: كان رسول الله (ص) يعلم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرات: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) (الإسراء/ 111). ويستحب أن يُعلم الطفل أوّل كلامه "لا إله إلّا الله" فقد روى عبدالرزاق: "أنّه كانوا يستحبون، أوّل ما يفصح، أن يعلموه لا إله إلّا الله سبع مرّات، فيكون ذلك أوّل ما يتكلَّم به". قال ابن القيِّم – رحمه الله – في أحكام المولود: "فإذا كان وقت نطقهم، فليلقنوا: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، وليكن أوّل ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنّه سبحانه... ينظر إليهم ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا...". ونحفظهم أيضاً أناشيد خفيفة ذات معانٍ توحيدية مثل نشيد (الله ربي، أو ربي ربي يا الله، أو يا إلهي يا إلهي) ونشجِّعهم على إلقائها أمام الآخرين من الأقارب والأصحاب. إنّ سماع الطفل هذه الكلمات والجمل، أو ترديده إياها مع تشجيع الأسرة له على ذلك، يعمق في فؤاده محبة الله والإيمان به، ولاسيما إنّ علم أن قلوب الذين من حوله مليئة بحب الله وحب رسوله، وأن ألسنتهم تلهج بذلك صباح مساء. أفهموا أطفالكم أنّ الله تعالى ليس كمثله شيء، لأنّ الله هو الذي خلق الكون وما فيه، ولابدّ أن يختلف الخالق عن المخلوق، وعلموه بعض أسمائه وصفاته من خلال تحفيظهم آية الكرسي وسورة الإخلاص وغيرها من السور والآيات التي تتحدث عن الله وأفعاله وصفاته. وتستمر الأسرة بتلقين الطفل هذه العقيدة في آيات وأحاديث ونصوص حتى ترسخ فيه فينشأ مؤمناً موحداً، وقد فعل ذلك رسول الله (ص). أخرج الترمذي عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: كنت خلف النبيّ (ص) يوماً فقال: "يا غلام، إنِّي أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجدْه تُجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أنّ الأُمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجُفت الصحف". إنّ لهذا الحديث قوة كبيرة على حل مشاكل الطفل، بفضل تأثيره وروحانيته، وله القدرة في دفع الطفل نحو الأمام، بفضل استعانته بالله، ومراقبته له، وإيمانه بالقضاء والقدر، وإن أطفال الصحابة تلقوا هذا التوجيه النبوي، فهم يستعينون بالله على ما أصابهم من قدره، ويسألون الله عندما تنزل بهم المصائب، ويعتقدون بأن لا حول ولا قوة إلا بالله، ويؤمنون بأنّ الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا. ومما يعمق هذه الفطرة، ويزيدها نماء سرد القصص على أسماع الاطفال، فإلى جانب القصص الخيالية، نُسمعهم بعض القصص التي تتعلق بقدرة الله وحكمته وقوته وحكمته. وفي السنتين اللتين تسبقان دخول المدرسة، نرسلهم إلى الكتاتيب أو معاهد تعليم القرآن، ونشجعهم على قراءته وحفظه، ونعطيهم مكافآتٍ على ذلك. لقد أكّد ابن خلدون في مقدمته على مفهوم تعليم القرآن للأطفال في الصغر فقال: "تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أُخذ به أهالي الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، من آيات القرآن ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات". وعلى الأسرة أن تكافئ ابنها على حفظ القرآن والحديث مكافأة مادية، فهذا إبراهيم بن أدهم يقول له أبوه: "يا بُني اطلب الحديث، فكلما سمعتَ حديثاً وحفظته فلك درهم" فيقول إبراهيم: "فطلب الحديث على هذا". إنّ حفظ القرآن والأحاديث يُرسخ العقيدة في قلوب الأطفال: كما أنّ البيئة التي يعيش فيها الطفل في الكتاب أو المعهد أو المسجد تربيه على حب الله ورسوله وتلاوة القرآن، وينجح الأب أيّما نجاح إذا استطاع أن يجمع أفراد أسرته كباراً وصغاراً في جلسة يذكرهم فيها بالله تعالى، ويدعوهم فيها إلى الفضيلة ويحذرهم من الرذيلة ثمّ يذكرون الله ذكراً كثيراً، ويمكن للأب أن يدعو لهذا المجلس عالماً أو رجلاً صالحاً، يتحدث إليهم ويجيب على أسئلتهم، وهذا يترك أثراً طيباً في نفوس أفراد الأسرة، لا سيما إذا غدا هذا المجلس دورياً. ولا ننس أن نبيِّن هنا تأثير الأب المؤمن الصالح والأُمّ المؤمنة الصالحة القانتة، فإن صلاح الأُم وقربها من الله واتصالها به، يؤثر عاجلاً أم آجلاً على الأطفال، وكذلك صلاح الأب وحرصه على إطعام أطفاله اللقمة الحلال يكون سبباً لصلاحهم وهدايتهم، أما إذا أطعمهم من الرشوة والربا والسرقة والغش، فذلك يكون سبباً لشقائهم وتمردهم وعصيانهم. إذا شب الطفل وهو يرى أبويه يعبدان ربهما ويخشيانه ويدعوانه، عند ذلك سيحذو حذوهما، ويقتدي بهما، فكثيراً ما نرى الأطفال الصغار وهم يسارعون للوقوف بجانب الأب أو الأُم أو الأخ يصلون معهم وهم مسرورون لأنهم يشعرون أنهم يصلُّون كما يصلِّي الكبار لربهم. ويُحبَّذ أن يصطحب الأب أطفاله الذين بلغوا سن التمييز إلى المسجد في الصلوات وصلاة الجمعة والأعياد، ليؤدوا ما عليهم من فرائض ويستمعوا إلى الخطب والأحاديث الدينية. سئل الإمام مالك – رضي الله عنه – عن رجل يأتي بالصبي إلى المسجد. أتستحب ذلك؟ قال: إن كان قد بلغ موضع الأدب، وعرف ذلك ولا يعبث، فلا أرى بأساً، وإن كان صغيراً لا يقرُّ فيه ويعبث، فلا أحب ذلك. وإذا ما أراد الأبوان تنمية الفطرة فعليهما أن يكونا المثل الرائد لصغارهم، فالأطفال يتأثرون بأقوال آبائهم، ويتأثرون بما يفعلونه أكثر، فعيون الأطفال معقودة بما يفعله آباؤهم. فلنرِ أطفالنا من أنفسنا خيراً، وأن نجعل كلامنا يوافق أفعالنا، حتى تكون تربيتنا مؤسسة على الصدق في الحال والقال، عندها ستعطي أكلها بإذن ربها قال تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (الأعراف/ 58). إنّ الطفل مستعد منذ نعومة أظفاره ليتلقى من نوافذه الحسية، ما ينمي عناصر الخير في داخله، من كلمة طيبة، أو عبارة صائبة، أو آية محكمة، أو قصة هادفة، أو أنشدة رائدة، أو موقف سليم، أو دعوة مخلصة، وتغدو هذه المرسلات أكثر تأثيراً إذا صدرت من الوالدين إلى فلذات الأكبار... (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).   المصدر: كتاب تربية الأطفال بين البيت والمدرسة

ارسال التعليق

Top