بين اليأس والأمل:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد وهو يحدِّثنا حديث يعقوب (ع) لبنيه عن قصّة يوسف الذي غاب عنه كما يقولون مدّه (18) سنة من دون أن يعرف له خبراً (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُون) (يوسف/ 87). وفي آية أخرى: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) (الحجر/ 56). وفي آية ثالثة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر/ 53).
إنّ قصة اليأس والأمل ليست مجرّد قصةٍ تتصل بالحالة النفسية للإنسان من خلال نتائجها الإيجابية والسلبية، بل تتصل من خلال كلام الله وبالخط العقيدي، فأن تكون الإنسان الذي يعيش الأمل في عقلك وقلبك يساوي أن تكون مؤمناً، وأن تكون الإنسان اليائس يساوي أن تكون كافراً، وليس من الضروري أن يكون الإيمان والكفر بشكلٍ مباشر فقد يكون بشكل غير مباشر، واليأس والأمل قد ينطلقان بالنسبة للإنسان الذي عاش المعاصي وأحاطت به ذنوبه، وقد تحصل للإنسان الذي يعيش حركة حياته بكلِّ طموحاته وبكلِّ حركتها وفي كلِّ مشاكلها في المرحلة الأولى، والله يريد من الإنسان أن لا ييأس من رحمته، وأن لا ييأس من سخطه وغفرانه، حتى أنّ اليأس من رحمة الله يعد من الكبائر، بل لابدّ له من أن يستنطق صفة العفو والرحمة لدى ربّه، فهو الذي عفوه أكثر من غضبه، وهو الذي سبقت رحمته غضبه، وهو الغفور الرحيم (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف/ 156). ولذلك فلابدّ للإنسان المؤمن حتى لو تجاوز الحدود المعقولة في الذنب، لابدّ أن يفكر أنّ الله قد فتح التوبة بأوسع مما بين السماء والأرض.
(قل يا عبادي) في بعض الآيات تشعر بأنّ الكلمة الربانية مملوءة بالحنان (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) والإسراف على النفس هو تجاوز الحد (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) لا تقولوا لقد قطعنا شوطاً كبيراً في المعصية ولن يرحمنا الله، لأنّ شأن ربكم الذي عصيتموه وأسرفتم في معصيته، شأنه المغفرة والرحمة (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، وهكذا ينبغي للإنسان أن يعيش الأمل بعفو الله ومغفرته ولكن لا بالمستوى الذي يستسلم فيه لأحلام العفو والرحمة بحيث يدفعه ذلك إلى استسهال المعصية كالكثيرين من الناس الذين يسوّفون التوبة، ويستعجلون الذنب، ويقولون غداً نتوب، فالشاعر يقول:
لا تقلْ في غدٍ أتوبُ لعل *** الغد يأتي وأنت تَحتَ الترابِ
فمن يا ترى يضمن لك أن تتوب في الغد، فقد لا تحيا في الغد أو إذا حييت فقد لا توفق، لذلك لابدّ أن يعيش الإنسان بين نور خيفة ونور رجاء "خفِ الله خيفة لو أتيته بحسنات الثقلين لعذّبك، وارجع الله رجاءً لو أتيته بذنوب الثقلين لغفر لك" هذا التوازن بين الخوف والرجاء هو الذي يدفعك إلى الطاعة ويمنعك عن المعصية ويمنعك عن اليأس، ولاسيّما الشباب الذين يعجل اليأس إلى حياتهم عندما يواجهون مشكلة عاطفية أو مشكلة عائلية أو مادية أو ما إلى ذلك، فإنّهم ييأسون لأنّ الحياة، لم تكن قد اتسعت لهم ليعرفوا طبيعتها وقوانينها وليعرفوا (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح/ 6)، وأنّ مع الشدّة فرجاً، لذلك قد ييأسون وقد يدفعهم اليأس إلى الانتحار، كما نلاحظ ذلك لدى الكثير من الشباب. وإنّ الله سبحانه وتعالى يريد أن يقول لنا من خلال قصة يوسف (ع) ويعقوب (ع) إنّ على الإنسان أن لا يفقد الأمل، لأنّ فقدان الأمل يعني الكفر، وهو أن تقول بأنّ الله غير قادر فإنّ معنى ذلك أنّ الله غير قادر على أن يحل مشكلتك ولكن لابدّ لمشكلتك من عمر تقطعه، وقد لا يكون لك مصلحة في حل هذه المشكلة، لأنّ قضيتك تنطلق على أساس خط آخر، وعلى أساس واقعٍ آخر.
ولنا أن نتساءل: لماذا ربط الله بين الكفر وبين اليأس؟ ببساطة، لأنّ اليأس يعني عدم الإيمان بقدرة الله مطلقاً، وبالتالي يؤدي إلى الكفر، لأنّ من أسس الإيمان أن نؤمن بالقدرة المطلقة لله سبحانه وتعالى، فعلى الإنسان المؤمن إذا أحاطت به المشاكل يدرسها على أساس الواقع، وأن يدري الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها، والآفاق التي يتطلع إليها وأن لا يحبس نفسه في سجن ضيّق من التشاؤم ومن اليأس، بل يفتح لنفسه كلّ أبواب الرجاء وكلّ أبواب الأمل، وقد حدّثنا الله في بعض آياته أنّ التقوى التي يعيشها الإنسان في عقله وفي قلبه وفي حياته قد تؤدي به إلى أن يجد المخرج حيث لا مخرج، وأن يكتشف الحل حيث لا حل، وأن يحصل على الرزق من حيث لا يحتسب (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3). فعندئذ تغلق كلّ الأبوابِ وينظر الإنسان يميناً وشمالاً وفي جميع الجوانب فلا يرى هناك منفذاً، ولكن الله يجعل المخرج حيث لا مخرج ويرزقك من حيث لا تحتسب.
ومن يتوكّل على الله وهو يسعى لحل مشكلته، ومن يتوكّل على الله وهو يعي طبيعة الواقع، ومن يتوكل على الله وهو يخطط للمستقبل، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) (الطلاق/ 3)، فإذا أراد الله شيئاً بلغه (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق/ 3). قد جعل الله للمشاكل قدراً محدوداً، ولحلولها قدراً محدوداً وفتح للإنسان أكثر من أفقٍ جديد، في عقولنا وفي قلوبنا ومشاعرنا، فأن نكون المؤمنين يعني أن لا يزحف اليأس إلى حياتنا وأن نبقى نحدّق في الشمس عندما تميل إلى الغروب ويسيطر الظلام ونحدّق بالنجوم وهي تشير إلينا أنّ الظلام ليس خالداً، وأنّ هناك إشراقة الفجر التي تنطلق من كلِّ نقاط الضوء. فإذا كنت تشعر بالظلام ففكِّر بنقاط الضوء التي تجدها منتشرة في الحياة حتى تلتقي بالفجر وفي قلبك أكثر من أمل وفي قلبك أكثر من انفتاح على الشروق، وأقولها للشباب، عندما ينطلقون في دراساتهم وفي مشاعرهم وفي عواطفهم، وأقولها للثائرين وللمجاهدين الذين يواجهون التحديات، ليس هناك ظلام مطلق، علينا أن ننتج النور من عقولنا وأن ننتج النور من قلوبنا وأن ننتج النور من جهدنا لنلتقي بالنور الذي يفتحه الله لنا من خلال إشراقة شمسه.
المصدر: كتاب الندوة/ سلسلة ندوات الحوار الأسبوعية بدمشق مع العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق