◄إنّ كان للثقافة العربية دور تلعبه في مجتمع المعرفة، فلن يتحقق ذلك ما لم تتعاضد المساعي بين مجالات المعارف العلمية والإنسانية، ومجال الإبداع الفني. وما يثير القلق راهناً هو الحماس لدخول مجتمع المعرفة بالتحديث التكنولوجي دون الانتباه إلى ضرورة تنشيط الإبداع لتهيئة المجتمع للحداثة الثقافية.
يواجه الإبداع العربي تحديات داخلية وخارجية، تشعبت ليتولد عنها أزمة في تعريف الانتماءات الثقافية، وكيفية الخوض في تجربة الحداثة، التي أنماها الروَّاد مع بزوغ القرن الماضي. وبينما تقاطعت مسارات الحداثة الفكرية والفنية – عند منعطف القرن العشرين – تغيرت الأوضاع بدءاً من منتصف القرن نتيجة الضغوط الأيديولوجية المفروضة على الفنون من قبل حكومات ما بعد الاستقلال. لقد سخّر العلم للدفع بالتفوّق العسكري، تيسيراً لطموح الزعامة، بينما وظفت الفنون، إما لترسيخ الأيديولوجية القومية المتشددة، وإما للترفيه "لرفع المعاناة عن الشعوب"، وهو ما أدى إلى تقليص دور الإبداع، حتى وإن لم ينجح في سحقه.
ولم يقتصر الخطاب السلطوي على المؤسسات الحاكمة، فلم تنفرد وحدها بالحصار الفكري، ففي مجتمعات تهيمن عليها سلطة التقاليد والتعمية الفكرية، تسلب من الأفراد حقوق المواطنة، ليغدوا ذواتاً خاضعة تعيد إنتاج خطاب السلطة. ومن جهة أخرى، فقد ترتب على انتشار الأمية الأبجدية والثقافية، وعلى سلبيات التحديث العشوائي، رفض الجديد بصفة عامة، والتخوف من الإبداع بصفة خاصة.
خلاصة طرحي في هذا المقال ترتكز على التحديات الداخلية والخارجية، التي يجابهها المبدع، في زمن تغدو فيه حرية الإبداع التشكيلي ضرورة، ففي تقييد انطلاق الخيال، وإعاقة حرية التعبير، إعاقة لتحقيق مفهوم المواطنة، على المستوى السياسي، وتعجيز لاكتمال الحداثة الفكرية، على المستوى الثقافي، فيظل التحديث التكنولوجي والمعلومات بمعزل عنهما، ومنفصلاً عن المجتمع، ودافعاً إلى الاغتراب. لذا، ينبغي – الكشف عن تحديات الإبداع في الفن التشكيلي العربي لاستبيان الأسباب، التي آلت إلى الفجوة بين العقل العربي والإبداع، والفجوة بين المبدع والعامة – على المستوى المحلي – وبين المبدع والعالمية في زمن العولمة، مما نشأ عنه وجود أزمة في تعريف الخصوصية الفنية.
- الإبداع والمعرفة:
علينا أن نتفق على تعريف المعرفة، ليتضح لنا أهمية الإبداع الفني بين الممارسات البشرية، حتى وإن اعتبرنا الفنون – أو الإبداع – ممارسات لا تضيف إلى المعرفة لاعتمادها على الخيال. وإن اعتمدت المناهج المعرفية أحياناً على الخيال، خاصة في لحظة الاكتشاف، فإنها تُخضع الخيال إلى مسارات العقل للتوصل إلى المحطة النهائية. وعلى العكس من ذلك يخضع الإبداع العقل للخيال. فليست هناك أطر للخيال المبدع، ولا حدود، والحقائق المستمدة من الأعمال الفنية ينسجها الخيال، وتمثل عالماً آخر لا يرغمنا على الامتثال له، وإن لم يوجه الفن عقل المتلقي، فهو ينمي إدراكه.
تخلص النظريات الحديثة لعلم اجتماع المعرفة إلى أنّ تعريف المعرفة، يختلف تبعاً للسياق الاجتماعي والتاريخي. فبينما حصر الفكر المحافظ المعرفة في إنتاج الصفوة – الذين وسموا دائماً بالعلماء – يميل التوجه التقدمي أخيراً إلى الأخذ بالتجارب والممارسات البشرية كافة، بما في ذلك تجارب العامة من البشر. فالتجارب الإبداعية، بل والمعرفة الناجمة عن الواقع المعيش لا تقل في أهميتها عن المعرفة الرسمية، أو التي تقوم على أسس علمية، إضافة إلى أنّ الثقافة الشفاهية تزخر بمعارف لا تقل في أهميتها عن الثقافة المكتوبة.
ويتعارض ذلك التوجه القومي مع مفهوم التقدم العلمي السائد، الذي كان يؤخذ به معياراً لتمييز العلم على الفن، فاستبدلت فكرة "التقدم العلمي" بفكرة "التراكم العلمي"، مما يدفعنا إلى تغيير مقاربتنا للظواهر الطبيعية. وفي وقتنا الراهن، لا يقنع العلماء بالإدعاءات السالفة، التي تزعم بأنّ العلم يسير في تقدم خطّي نحو الحقيقة المطلقة، وهذا منظور يقترب من رؤية المبدعين، بل يتفق معهم في صعوبة التكهّن بوجود حقيقة مطلقة. خلاصة القول، أنّه يجدر بنا تغيير مفهومنا للمعرفة، فهي لا تتحدد بمنهج معرفي واحد، وليست للمعرفة أداة أو منهج وحيد، ومن اللازم أن نؤكد هنا على أنّ المعرفة لا تنشأ عن ثقافة منطقة جغرافية رسمتها سياسة الهيمنة، فقد ساهمت البشرية جمعاء في تشييدها. وأنّ أهمية المعرفة – وأداتها العقل – لا تقلل من دور الخيال في تنمية مستويات مغايرة للإدراك.
وإن كان يصعب علينا تصنيف الإبداع ضمن المجالات المعرفية، لتغاضي المبدع عن الوصول إلى براهين أو نتائج، فعلى الرغم من ذلك، تعمل الممارسة الفنية على تنمية العقل، وتعميق الإدراك. وعليه، يمكن تقييم جدية العمل الفني بإمكاناته في إثراء الإدراك دون التوصل إلى حقائق نهائية، أو حلول حتمية.
تعد العلوم الإنسانية والطبيعية على مناهج من البحث الذهني، يتحرك فيها العقل من قاعدة متفق عليها يصل من خلالها إلى نتائج جديدة، لتشكّل بدورها قاعدة أخرى تغدو نقطة انطلاق لسلسلة جديدة من البحوث. يختلف الأمر في الفنون لاعتمادها على الخيال، ويستحيل ترجمة لغتها ترجمة دقيقة، فالتجربة الفنية تراوغنا كلما سعينا إلى تعريفها.
- أين دور الفن التشكيلي؟
تتراجع أهمية الفن التشكيلي في العالم العربي لتضاؤل الاهتمام بتنمية القدرات الإبداعية وملكات الابتكار، وكيفية تذوّقه في مراحل التعليم المختلفة، مما كان له أثر سلبي على احترام الفن. إلى جانب ذلك، تتدخل مؤسسات غير مدنية في مناهج كليات الفنون، وتحظر بعض المواد الأساسية للتدريب الفني، كما تتعرض المطبوعات، وصور الدعاية كافة، للرقابة في البلاد العربية بدرجات متفاوتة، وتعامل المطبوعات التجاربة – الجادة والإباحية – والكتب الفنية على حدِّ سواء، وفي ذلك خلط بين استخدام الفنون المرئية لأغراض جمالية أو وظيفية، واستغلالها للتربح. وامتد الحظر إلى فن النحت، إلى حد أن حطمت التماثيل في بعض البلدان، حتى صار فن النحت تائهاً عن تراثه، ومغترباً في أوطانه.
وقمع حرية الإبداع في الوطن العربي لا يصدر عن الخطاب الأيديولوجي المتشدد فحسب، بل عن السلطات السياسية أيضاً، فكما يتعرض الفن الفلسطيني للقمع من قبل السلطات الإسرائيلية، تفرض بعض السلطات رقابة على الكاريكاتير السياسي – بصفة عامة – فلا يقترب من تناول الحكام، أو القوى العظمى المساندة لهم، وإن تفاوتت درجة الرقابة من دولة إلى أخرى.
وتعود أسباب التراجع في تنمية الخيال المبدع لدى المواطن العربي إلى تدهور المناهج التعليمية في مراحلها كافة، وإزدواجية معايير القيم نتيجة القمع الفكري، ورقابة المؤسسات التي تحوّلت إلى رقابة داخلية يمارسها المبدع على نفسه، وكلها عوائق أمام انطلاق الخيال المبدع. فبينما تزامنت الحداثة الفنية الأوروبية مع التحديث العلمي في مجالات التعليم والسياسة والاقتصاد، لتشكّل حداثة متكاملة، استُغل التحديث الصناعي ثم التكنولوجي في البلدان العربية لخدمة السلطات المهيمنة، وبدلاً من توفير السبل لتحرير العقل والخيال للإسهام في مجالات العلوم والفنون العالمية، اعتمد التحديث الجزئي على استيراد المصانع والتكنولوجيا الجاهزة دون تهيئة الجو الفكري الملائم لدراستها، مما أعاق قيام حركة حداثة فكرية وفنية متكاملة في المنطقة العربية.
هذا "التحديث المستورد" للتكنولوجيا وضع المبدع العربي في مأزق: فإما الانسياق لتقليد المنجز الغربي، أو اختزال الهوية في التراث. ظل هذا الصراع بين الأصالة والمعاصرة محتدماً – على مستويات متفاوتة – منذ بدايات القرن العشرين حتى الوقت الراهن – تبعاً للمتغيرات السياسية والثقافية، وقد عملت السياسات الاقتصادية الخاطئة على تضخيم التفاوت بين الدخول، والتباين في التحصيل العلمي والثقافي، فلم يتهيأ المجتمع لاستيعاب التجريب، واحترام الابتكار والتجديد، نتيجة افتقاد الحرية السياسية والثقافية، فلم يهيأ الفرد إلى قبول الآخر، مما ترتب عليه انعدام الحوار الثقافي، ومن ثم السياسي.
ظل هناك بعض الفنانين الساعين إلى استخدام الخيال لتمثيل الخصوصية المحلية للمشاركة في حركة الحداثة العالمية، إلا أنّ ذلك قد اقتصر على قلّة تنتمي معظمها إلى النخبة، أو إلى الثقافة المهيمنة، مما أدّى إلى الفصل بين المبدع والعامة، والتمييز بين الفنون الرفيعة والحرف، يدفعنا ذلك إلى التشكك في إمكان تحقق الحداثة، دون تحديث بالمجتمع، فالتطور المجتمعي لا يتم فور استيراد التكنولوجيا المتقدمة، والخصوصية الفنية، التي تمكن من لحاق الفنون المحلية بالعالمية لا تتأتّى بمحاكاة الغرب – من جهة – وتتجاهل أهمية التفاعل مع محيطها الثقافي، من جهة أخرى.
كما ترتبت على الفوضى السياسية تناقضات اجتماعية، وتفاوت في التعليم والتدريب الفني، أنمى ذلك صراعات بين الحركات الفنية على الصعيد المحلي- بدلاً من الحوار وتبادل الخبرات. كما أوجد الفساد السياسي الفرقة بين الفنانين دون توفير الفرض المناسبة للمنافسة الشريفة والتمثيل المتكافئ للأساليب الفنية في ساحات العرض المحلية والدولية. إضافة إلى ذلك، ساعد استيراد برمجيات الجرافيك الإلكترونية، واستخدامها دون تنمية الحسّ الفني الملائم على إنتاج كم هائل من المستنسخات المجمعة من مصادر مختلفة دون رؤية فنية خاصة، مما نجم عنه "تلوث بصري" ساعد على تدمير الحسّ الفني لدى المتلقين. ولقد كان لتقدم وسائل الاتصال والإعلام، والتصارع على صناعة النجوم دور في تزكية المنافسة غير الشريفة، التي رهنت قيمة الفنان بحنكته في العلاقات العامة، لا في ثراء خياله وصقل حرفته. وهكذا امتدت الفجوة بين المبدع والمجتمع لتغدو بين المبدع ونظيره، وبدلاً من تأجج جذوة الابتكار، اشتعلت ساحات القتال، لتتحول بهجة الإبداع إلى التشفي بتحطيم الغريم.
- تحديات الإبداع:
وفي زمن تتحكم فيه الوسائط الإعلامية المحلية والعالمية في تسيير سياسات السوق على جميع الأصعدة، لم تعد علاقة المبدع العربي بالعام تقتصر على النطاق المحلي، فحسب، ففي سياق التوجهات المتعدية للقوميات، صار "العام" يشمل المجتمع المدني الدولي، فمضت العولمة تتحدّى القوى السياسية المحلية، لذا امتد مفهوم المواطنة ليتعدّى النطاق المحلي إلى العالمي، فالفاعلية في المجتمع ينبغي أن تأخذ في الاعتبار الإنسانية جمعاء. يثير هذا الواقع تساؤلات جديدة حول إمكان تحقيق الحوار العالمي المبني على التكافؤ في التمثيل الثقافي، في الوقت الذي لم تتحقق فيه المساواة، ولم تكتسب الحقوق المدنية على الوجه الأكمل في معظم البلدان على المستوى المحلي! وعلى ما يبدو فإنّ المحصلة النهائية لانعدام تكافؤ الفرص في هذا التمثيل الثقافي على المستوى المحلي هي إما بالهروب إلى الأسواق العالمية سواء كانت منافذها في الداخل أم في الخارج، وإما بالتمسك بصفحة واحدة من صفحات التراث لعدم استيعاب تعدديته، وفي كلتا الحالتين فنحن بصدد تقليد سطحي دون محاولة المبدع استشفاف رؤية فنية ذات حساسية لموضعها الثقافي.
وعلى الصعيد العالمي، تتعاظم الفجوة الثقافية بين المجتمعات المدنية التي تأسست فيها مبادئ المواطنة على الحرية الفردية – حرية العقل والخيال – والمجتمعات القبلية التي تحجم انطلاق الخيال، وتحجر على الفكر بالترهيب من العقاب في حاضر لا هرب منه، ومستقبل يزيد غموضه من مخافة المرء. ولكن، ما يزيد الأمر تعقيداً والتباساً هو صعوبة الفصل الحاد بين المجتمعات المدنية والقبلية، فهناك تداخلات فكرية بين العوالم المدنية والقبلية، والممارسات القبلية لا تقتصر على العالم الثالث، بل توجد في العوالم على اختلافها، وكما تمارس الحداثة الفكرية والفنية – بشكل أو بآخر – في المجتمعات القبلية، لا ينفرد – في المقابل – العالم الأول بالحداثة. وكما أنّ هناك خلطاً بين المجتمع المدني ومجتمع السوق على الصعيد الدولي، فهناك – بالمثل – خلط بين التحديث والحداثة في المجتمعات القبلية، وهو الأمر الذي ينبهنا إلى أنّ تحديات الإبداع العربي – وإن كانت ترتهن بالظروف السياسية الراهنة – لا تنفصل عن تحديات المبدع المعاصر أينما كان.
عملت سياسات السوق المحلية والعالمية عبر القنوات الإعلامية، وقاعات العرض الخاصة على تسليع الإبداع مما أعاق وصوله إلى قطاعات عريضة من جمهور المتلقين. ومع انتشار وسائل الترفيه بالوسائط الرقمية، وإغراق السوق بالصورة الاستعراضية، تعمقت الفجوة الثقافية بين فئات المجتمع، فاقتصر الفن الجاد على النخبة – وهو أحد أشكال خصخصة الثقافة التي تهدد انتشار الإبداع، ليتحول الفن – بدوره – إلى آلية من آليات التمييز الطبقي وتدعيم المركزية، وهو ما يتناقض وجوهر الإبداع الذي يعتمد على الرؤية المغايرة المقاومة للثوابت المؤسسية القائمة على التراتب والتمييز.
- غياب الجمهور:
لم تحسن وسائط الإعلام في تهيئة الجو الملائم لاستقبال الفنون من قبل جمهور المتلقين، مما أضاع فرصة تذوق المعالجات الفنية المتنوعة التي تزخر بها الفنون في المنطقة العربية، وعمّق الفجوة بين المبدع والمتلقي. وافتقاد أقسام تاريخ الفن والدراسات المرئية بالجامعات المختصة بالدراسات الإنسانية أفضى إلى غياب الحركات النقدية المتحاورة، والتعريف بالفن يقوم به، في معظم الأحيان، غير المتخصصين. وترتب على القصور في تنمية التذوق الفني غياب رأي عام نقدي واع بالقيم التشكيلية، ومن ثم افتقاد معايير التقييم، فليس هناك رأي عام يشكل قوى ضغط على المؤسسات الفنية، مما ترتب عليه سوء تمثيل الحركات الفنية في المعارض المتبادلة بين الأقطار نتيجة الشللية وتبادل المصالح بين القائمين على تنظيم هذه المعارض سواء كانوا تابعين لجهات حكومية أو غير حكومية، وهكذا تضاعفت العوامل المحبطة للهمة، ما بين افتقاد جمهور من المتلقين لديهم حسّ نقدي واع، وافتقاد عدالة التقييم من قبل المؤسسات بما يغدو مثبطاً للخيال، ومعوقاً لحرية الإبداع.
والفجوة القائمة بين المبدعين وجمهور المتلقين تعكس الفجوة القائمة بين الشعوب العربية والسلطات السياسية، وكان لغياب مشروع قومي يشجع على التضامن الجمعي من الأسباب وراء انصراف الشعوب عن المشاركة السياسية في جماعات أهلية ذات نشاط اجتماعي، وذلك لافتقاد الإحساس بالمواطنة. ومن ثم، تضاءلت الجماعات النشطة، بينما تشكلت الجماعات إما انحيازاً لتوجه أيديولوجي، وإما تشجيعاً للفرق الرياضية، أو لنجوم الإعلام. قد يجتمع – أحياناً – بعض هذه الجماعات في أوقات المحن من أجل الاحتجاج، ولكن حتى ممارسو الاحتجاجات هؤلاء صاروا قلة عاجزة عن اجتذاب الجماهير العريضة التي تفرقت بفعل التفاوت في التحصيل العلمي، والوضع الاقتصادي الذي أصاب الجميع بالبلادة واللامبالاة.
وفي غياب مفهوم المواطنة الحقة جرى اختزال المواطن ذلك المستهلك الخاضع، إما إلى سياسات السوق المعولمة، وإما إلى القوى المهيمنة. لم يتبق هناك في ظل هذا الوضع مساحة ينطلق فيها خيال المبدع الذي هو أحد سبل مقاومة القولبة المفروضة، حتى وإن لم يكن للعمل الفني رسالة صريحة.
الفجوة القائمة بين المبدعين والمتلقين ترجع إلى افتقاد ذوي الحس الفني المدرب القادر على استشفاف الرؤى الفنية المغايرة للواقع والأفكار الراسخة، بالإضافة إلى ظهور طبقة من المغامرين في أسواق الفن قد أدت إلى تسليع الفن، في إطار حركة أوسع لخصخصة الثقافة، وذلك بعد أن صار المتحكم في الحركة الفنية المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الراعية للفنون، فالعمل الفني تتحدد قيمته – في معظم الأحيان – بفعل مؤسسة تضفي عليه مكانة تفوق قدره. مع ما سبق تسعى وسائط الإعلام التي تشكل الثقافة المرئية عبر الأقمار الصناعية وشبكة الأنترنت إلى عولمة الفنون وإخضاعها إلى سياسات السوق، خاصة بظهور صالات عرض رقمية تعمل على ترويج مفاهيمها الفنية الخاصة لخلق سوق فنية تعيد صياغة العلاقة بين الفنان والوسيط والمتلقي.
لقد خمدت ثورة الإبداع التي شهدتها بلدان عدة في المنطقة العربية في أوائل القرن العشرين باضطرار المبدعين إلى مساومة سلطة المؤسسات الراعية للفنون التابعة لسياسات السوق.
ومن ثم فقدت الحركة الثقافية في البلدان العربية فاعليتها، إذ أجهض محركها الرئيس وهو الإبداع، فمن دونه يستحيل تفعيل أي نشاط ثقافي. وحينما يُعَوَّق المبدع عن أداء دوره العام في النشاط الثقافي بفعل الخصخصة، تصاب الثقافة المحلية بالوهن مما يضعف الإحساس بالمواطنة، فتفعيل الثقافة بتنشيط الإبداع هو المورد الأساسي في المجتمع لتحقيق التوازن بين القوى المجتمعية، ومن ثم تحقيق المواطنة. أما انتزاع السلطة من العامة، وتركيزها في أيدي الخاصة من المستثمرين، فينطوي على تهديد لحرية الإبداع، وعلى تحول منافذ عرض الفنون وترويجها إلى آليات للتمييز وتدعيم مركزية السلطة.
- مستقبل الإبداع:
لا أود إضفاء رؤية تشاؤمية على مستقبل الإبداع في المنطقة العربية، ولست أنعي إليكم احتضار الثقافة العربية، حيث لم – ولن – يتوقف المبدعون عن المقاومة، وسيستمرون في إنتاج روائعهم، في أحلك الظروف، وعلى الرغم من الفجوة القائمة بين المبدع والمتلقي على الصعيدين المحلي والعالمي، وانسياق بعض المبدعين إلى سياسات السوق، فما زال هناك المترفعون عنها والعاملون على نقضها. أما ما نحتاج إليه كنقطة انطلاق أساسية، فهو التعريف بالدور الثقافي للإبداع، وبالدور الاجتماعي للثقافة، بوصفها كياناً يجمع بين المعرفة والإبداع.
وفي هذا الإطار، يبرز الإبداع الجاد وسيطاً يؤهل المجتمع في لحظات التحول للانتقال من الأنساق السائدة، من خلال سعيه إلى إكساب الجمهور المتلقي رؤى جديدة. ذلك في رأيي هو السبيل الذي يمهد إلى الحداثة الثقافية المتكاملة، وشتان بين ابتكار الحداثة والانصياع إلى سياسة السوق. وتفضي التنشئة المدرسية المؤسسة إلى استظهار التراكمات المعرفية إلى دعم الخطاب السلطوي وقمع الخيال دون تأهيل الفرد للتواصل مع الآخر، وهو أحد أهم شروط المواطنة والمشاركة في الإنتاج بممارسة الإبداع فردياً أو جماعياً. وانطلاق الخيال عبر الممارسة الفنية لدى المبدع أو المتلقي ضرورة لكل الفئات المجتمعية، ودون التمييز بين الوسائط المختارة للممارسة الفنية، وهي تؤدي دورها الحيوي في إيجاد آفاق للتواصل ومواجهة القيم التقليدية والفكر المؤسس لها. ويتطلب نشر الممارسة الفنية: إبداعاً ونقداً، إقامة المتاحف، وتوفير المكتبات الفنية في المحافظات والقرى، وتأسيس المواقع الفنية، على الشبكة الإلكترونية للتعريف بالأساليب الفنية قديماً وحديثاً، بتعدديتها عبر رؤية آنية لا تخضع لتسييس المؤسسات السلطوية، رسمية كانت أو غير رسمية. والهدف من وراء ذلك هو أن تصبح الممارسة الفنية جزءاً حيوياً من أي برنامج سياسي لدورها في تنشيط الخيال، مما يهيئ الفرد إلى قبول الآخر، ومن ثم إلى تفعيل مفهوم المساواة في التمثيل الثقافي، مثله في ذلك مثل التمثيل النيابي، وختاماً فلا مناص من أن تظل المساواة بعداً ثورياً بصفتها ضرورة ملحة في أزمنة القمع، وسعياً من أجل مناهضة علاقات التراتب والتمييز، التي تتسبب في فجوة بين المبدع ومحيطه الثقافي: محلياً كان أم عالمياً، ولا يعد خطاب الإقصاء والتمييز هذا حائلاً دون الإبداع الفني بل العلمي والتكنولوجي أيضاً.►
المصدر: كتاب إنتبه! أنت مبدع
ارسال التعليق