◄كيفية التحرّر من شهوة الفرج:
إنّ شهوة الفرج هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، وتمتاز بأنّها قوّة عنيدة لا تهدأ بسرعة، بخلاف القوّة الغضبيّة التي تمتاز بشدّتها من ناحية وبأنّها سريعة الهدوء من ناحية أخرى.
"وما دامت القوّة العاقلة تعجز عن الوقوف بوجه القوّة الشهوّية العنيدة الطويلة الأثر، فنستعين بالقوّة الغضبيّة الشديدة كالنار المحرقة للوقوف بوجهها والحد من أثرها... غير أنّ هذا لا يتمّ إلّا بأن تكون الغضبيّة تحت إمرة القوّة العاقلة".
وإنّ أكثر الناس يمتنع عن فعل مقتضاها حياءاً وخشية إمّا لعجز أو خوف أو لحياء من الآخرين، أو للمحافظة على جسمه، ولا يُعدّ هذا ثواباً وأجراً، نعم من حيث كونها تدفع الزنا فإنّ إثمه يندفع عن الإنسان بأيِّ سبب كان تركه. وإنّما الفضل والثواب فيما لو تركه خوفاً من الله تعالى مع القدرة عليه، وارتفاع الموانع، وتيسير الأسباب لاسيّما عند صدق الشهوة وهذه درجة الصدّيقين ولهذا قال الرسول (ص): "من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد". كما أنّ ما حصل مع النبيّ يوسف (ع) وامتناعه عن زليخا مع القدرة ورغبتها الجامحة، هو من أحسن الورع والعفّة حيث نال بذلك ثناء الله تعالى في كتابه الكريم: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف/ 24).
كيف تَكسر شهوة الفرج وتروِّضها؟
1- الزواج:
جُعِل الزواج وسيلة لتهذيب وإشباع هذه الشهوة، وقد جُعِلت شهوة الجنس في الإنسان من أجل:
أ- حفظ واستمرار النسل البشريّ، ولولا ذلك لما أقدم الإنسان على الزواج، ولما تحمّل العديد من المشاكل والصعوبات المترتّبة على وجود الولد والذريّة.
ب- توفير هذا العمل من أجل تكامل الإنسان في الجوانب المرتبطة بإشباع الشهوة الجنسيّة، ونقصد بها هنا المسائل المتعلِّقة بالعفّة.
ولهذا حثّ الإسلام على الزواج وإليه أشار القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور/ 32)، ويُقصد بالأيامى هنا العزّاب أي من لا أزواج لهم. وقد جاء عن الرسول (ص): "إذا تزوّج العبد فقد استكمل نصف الدِّين فليتقّ الله في النصف الباقي". وقد جُعِلت تحرُّكات المتزوِّج مورد رضا الله تعالى خلافاً لغير المتزوج، وكذلك عبادته، وقد ورد عن الإمام الصادق (ع): "ركعتان يُصلِّيهما متزوج أفضل من سبعين ركعة يصلّيها غير متزوِّج". وجُعِل التزويج أحبّ بناء إلى الله تعالى كما ذكر رسول الله (ص): ما بُني في الإسلام بناء أحبّ إلى الله عزّ وجلّ وأعزّ من التزويج".
2- غضُّ البصر:
أولى الله تعالى غضّ البصر أهمية خاصّة بغية إرساء وبناء قواعد متينة لتأسيس مجتمع عفيف، ولهذا نرى أنّه فصّل في الخطاب بين الذكر والأنثى عندما أمر بغضِّ البصر، للدلالة والإشارة إلى أهمية الغضِّ ولما يتركه من آثار إيجابية على بناء النفس والمجتمع. والتكليف موجّه لكلٍّ من الرجل والمرأة على السواء، وقد بدأ توجيه الخطاب إلى الرجال قبل النساء تأكيداً منه على الدور والمسؤولية الواقعة على عاتقهم، وكأنّ بناء المجتمع العفيف يبدأ من غضِّ بصر الرجال أوّلاً.
يقول تعالى في خطابهم: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النور/ 30). ثمّ أردف تعالى بعدها مباشرة الخطاب الخاصّ بالنساء مشيراً إلى نفس الحكم ومضيفاً إليه أموراً أخرى تتعلق بالمرأة: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 31).
"والغضُّ إطباق الجفن على الجفن، والأبصار جمع بصر، وهو العضو الناظر، ومن هنا يظهر أن "من" في "من أبصارهم" لابتداء الغاية لا مزيدة ولا للجنس ولا للتبعيض...، والمعنى يأتوا بالغضّ آخذاً من أبصارهم". وهو نهي عن النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه من الأجنبيّة. وأمّا المراد من "يحفظوا فروجهم" فهو سترها عن النظر، ففي الرواية عن الإمام الصادق (ع): "إنّ كلّ آية في القرآن في حفظ الفروج فهي من الزنا إلّا هذه الآية فهي من النظر". فإنّ النظر مبدأ الزنا، وحفظه مهمّ، وهو عسير من حيث قد يُستهان به ولا يعظم الخوف منه، والآفّات كلّها تنشأ منه، فالنظرة الأولى إذا لم يقصدها لا يؤاخذ عليها والمعاودة يؤاخذ بها، قال رسول الله (ص): "لك الأولى وعليك الثانية، أي النظرة".
3- اجتناب مثيرات الشهوة:
وهي عديدة نذكر منها على سبيل المثال:
وسائل الإعلام:
التي تبثّ البرامج غير المحتشمة والمُحِلَّة أخلاقيّاً سواء كانت على شاشة التلفاز أم الإنترنت، وكذا الفضائيّات السامة التي غزت المنازل والنفوس وعشّشت في القلوب الشابّة. فعلى الإنسان اجتناب هذه الوسائل أو تنظيمها بحيث تكون تحت رقابة ممنهجة بغية الاستفادة من البرامج المفيدة منها.
وكذا الوسائل الأخرى كالصحف والمجلّات الخليعة والقصص الإباحيّة وغيرها.
ت- التفريق في المضاجع أثناء المبيت:
إنّ لهذا الموضوع أثراً هامّاً على الحياة الجنسيّة لكلٍّ من الذكر والأنثى، حيث يعتبر ذهن الطفل بمثابة لاقط لكلِّ الصور والمشاهد التي تمرّ عليه في بداية عمره. وقد أمر الشرع المقدّس بالتفريق في المضاجع بين الذكور والإناث لأجل أن ينشؤوا نشأة عفيفة محتشمة بعيدة عن كلِّ موجبات الإثارة وتحريك الشهوات الباطنيّة.
ث- الأكل المتوازن:
من المهمّ الالتفات إلى نوع الأكل الذي يتناوله الإنسان نفسه، وأن يُحاول الالتزام بنظام غذائيّ محدّد ومنظّم، فإنّ بعض الأطعمة من شأنها تهييج القدرة الجنسية وتأجيجها فعليه تجنّب هذه الأطعمة ممّا هو مذكور في محلِّه.
ج- التقيُّد بالالتزام بالحجاب (الستر) الشرعيّ وترك الزينة أمام الأجانب:
ممّا لاشكّ فيه أن التعري والتزين من شأنهما تحريك الغريزة الجنسية، بحيث ينجرّ إليها الشباب، ولهذا جاء الأمر الإلهي بوجوب ستر المرأة لكامل بدنها وتركها للزينة بالخصوص كونها عنصر إثارة للرجل. إلّا أنّه لا يُراد من الحجاب هنا هو القماش الذي تضعه المرأة وتُغطي به جسدها الظاهري فحسب، فهو وإن كان مهمّاً وضرورياً وأساساً إلّا أنّه ليس هو الواجب كلّه من الحجاب، بل هو مطلوب بالإضافة إلى الحجاب الباطنيّ والذي يتمثّل بالعفاف الباطني للمرأة وهو الأهمّ لها.
فالحجاب بالمفهوم القرآنيّ لا يكتمل إلا بمجموعة مفردات يتشكّل منها الحجاب الكامل:
أ- عدم إبداء الزينة: باستثناء الظاهرية منها، وهي الكفّان والوجه، شرط أن لا يكون عليها زينة خارجيّة من مساحيق التجميل (طلاء الأظافر، ومكياج، حلي)، وغير ذلك.
وكذلك عدم إظهار الزينة الباطنيّة، وهي كلّ ما عدا الوجه والكفّين من الجسد للأجانب ما عدا طائفة من الناس وهم اثنا عشر صنفاً من المحارم وغيرها، والتي حدّدها وذكرها القرآن الكريم (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 31).
- غضُّ البصر: سواء كان النظر من الرجال إلى النساء وهو أساس أو العكس، إذ إنّ الحجاب لا يُمكن أن يتحقّق إلّا بغضِّ الطرف من الجنسين وعدم النظر بشهوة وريبة إلى بعضهما بعضاً، والرجل له دور في إرساء الحجاب لدى المرأة، وإيجاد العفّة. لأنّ النظر إلى الجنس الآخر يتنافى والحجاب الباطنيّ. يقول تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...) (النور/ 30-31).
- عدم الضرب بالأرجل: ويكون ذلك عادةً بالخلخال الذي يُخرج صوتاً يعلم منه الآخر بوجود زينة خفيّة لدى المرأة، ويُفهم من الآن أنّ النهي ليس وارداً على أصل الخلخال، بل إلى الخلخال مع هذه الصفة، فلو وُجد خلخال لايترك صوتاً حين المشي فلا إشكال في لبسه طبعاً ما لم يظهر للأجنبيّ.
- عدم اختلاط الرجل بالمرأة والعكس: لا شكّ في أنّ مجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة لا يُمكنها الفصل التامّ بين الرجل والمرأة، لأنّ المرأة اليوم أخذت دوراً اجتماعياً وهي تُشارك الرجل في العمل. إلا أنّه يُمكن الاتّقاء والاجتناب عن الموارد غير الضروريّة، وبهذا يُمكن للمجتمع أن يحصل على التقوى الجنسيّة وعلى العفّة الاجتماعية وطهارتها.
وإذا ما حصل الاختلاط بين الرجل والمرأة لضرورة ما، يجب أن يُقيَّد المجلس بمجموعة شروط:
- عدم الضحك والمزاح: الذي يُزيل الحجاب والعفّة بينهما، وشيئاً فشيئاً تنكسر وتتمزّق الحشمة، وتقع المعصية بدرجاتها، فقد ورد عن الرسول (ص): "من فاكه امرأة لا يملكها حبسها الله بكلِّ كلمة في الدنيا ألف عام"، والمفاكهة هي الممازحة.
ب- اجتناب الخلوة التامّة: كأن يكونا في مكان خاصٍّ لا ثالث معهما، ففي الرواية عن الإمام عليّ (ع): "لا يخلو بامرأة رجل فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما". لذلك ينبغي أن يكون جلوس الرجل والمرأة بمرأى الآخرين، وأن تقتصر الجلسة على الأمور الضرورية، وأن لا تطول مدّتها.
ت- ترك الزينة والتبرُّج والروائح العطرة: لأن كلّ ذلك من شأنه أن يُحرِّك ويُثير الطرف الآخر.
ث- عدم اللّين في الكلام: فإنّ الخضوع في القول كما عبّر القرآن الكريم، وهو من نوع الميوعة والغنج الكلاميّ يحصل بطريقة خاصّة في الكلام، من شأنه أن يوقع الرجل في شرك المرأة. ولهذا نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفاً) (الأحزاب/ 32). وهذا النهي ليس موجّهاً إلى نساء النبيّ فقط، بل يعمّ ليشمل نساء المؤمنين، لأنّ القرآن كما أشار إلى ذلك الأئمّة (عليهم السلام): أُنزل من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة.
موارد العفّة:
العفّة المالية – عفّة البطن – عفّة الفرج – عفّة الحجاب
1- العفّة في المسائل الماديّة:
وتصدق على الفقير الذي لا يملك مؤونة سنته وتمسّه الحاجة المادية، فيُخفيها ولا يُظهرها للآخرين تعفُّفاً، ومن شدّة ضبطه لنفسه يحسبه الناس غنيّاً. وقد مدح الله تعالى هذه الطائفة من الناس بقوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة/ 273). تُشير الآية إلى نقطتين:
الأولى: تتحدّث عن أفضل موارد الإنفاق، حيث يُطلب المؤمنين أن ينفقوا على الفقراء الذين هاجروا من بيوتهم وأوطانهم، ولم يستطيعوا تأمين نفقاتهم عن طريق الجهاد في سبيل الله أو السفر للتجارة والكسب (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً...).
الثانية: تُشير إلى خصوصيّة خاصّة بالفقراء وهي أنّهم لشدّة تعفُّفهم وضبطهم لأنفسهم عن إظهار حاجتهم المادية وعدم الشكوى إلى الناس، يحسبهم الناس أغنياء (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّف...).
ويتميّزون بصفة أخرى أيضاً، وهي امتناعهم عن سؤال الناس إلحافاً، أي مهما أمكنهم حتى لو اشتدّ بهم الحال واضطرّوا إلى المسألة، فإنّهم يُفضِّلون اقتراض المال لقضاء حاجاتهم على السؤال من الناس. ويُشير الإمام عليّ (ع) إلى ذلك بأنّ: "العفاف زينة الفقراء". ومن المهمّ أن يتحلّى المرء بالقناعة بما لديه، ولا يطمع بما في أيدي الناس وبذلك تسهل عليه الأمور ويرتاح باله ونفسه، ففي الحديث عن الإمام عليّ (ع): "ألا إنّ القناعة وغلبة الشهوة من أكبر العفاف".
2- العفّة عن الشهوة:
ويبرز هذا النوع من العفّة في مورد عفّة الفرج وتحصينه من الوقوع في الحرام. وذكر القرآن الكريم شخصيات ضرب بهم المثل في العفّة والطهارة، والقدرة على ضبط النفس مقابل مغريات الشهوة والمثيرات الخارجيّة، وأبرز هذه الشخصيات السيّدة مريم (ع) من النساء، والنبيّ يوسف (ع) من الرجال.
وتحدّث عن طهارة مريم (ع) وعفّتها بقوله تعالى: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 91). وهذا مدح لها بالعفّة والصيانة، وردٌّ لما اتّهمها به اليهود، والدليل قوله تعالى: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً) (مريم/ 20).
وأمّا النبيّ يوسف (ع) فإنّ القرآن الكريم يتحدّث عن عفّته وطهارته في أصعب وأشدّ الظروف، حيث توفّرت فيها جميع أسباب الوقوع بالإثم والمعصية. ولكنّه (ع) ثبت وحفظ نفسه أمام كلّ هذه المثيرات والتحدّيات، واستعاذ بالله تعالى وخرج منتصراً على الشيطان. ويذكر القرآن الكريم قصّته مع امرأة العزيز زليخا، حيث أرادت به كيداً: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف/ 23). ولقد سدّده الله تعالى بالبرهان الذي رآه (لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (يوسف/ 24)... وجعل عاقبة أمره ونتيجة نجاحه في هذا الامتحان الإلهيّ (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف/ 24)، والمُخلَص هو الشخص الذي يعجز عنه الشيطان وليس له عليه سبيل، (وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر/ 39-40).
3- عفّة الحجاب والتشديد فيه:
المقصود من الحجاب هو الستر الكامل لجسد المرأة. وقد مرّ أنّ مفهومه لا يتحدّد من خلال آية قرآنيّة واحدة، بل هو يتألّف من الستر الخارجيّ لجسد المرأة والحجاب الباطنيّ وهو إشارة إلى عفّتها. ويظهر هذا الحجابان في العديد من الآيات الشريفة، والتي تُشير إلى أنّ الحجاب علامة خارجيّة على عفّة الفتاة. وقد أوجب الله الستر على المرأة دون الرجل لأنها بطبعها تميل نحو التجمُّل وهذا خاصٌّ بها، فالرجل صيدٌ والمرأة صائد بلحاظ القلوب. ويتولّد فيها ميل نحو الظهور تبتغي بذلك إغواء الرجل وإيقاعه في شباكها.
ولكي تُمارس المرأة دورها في المجتمع لابدّ لها من الاستفادة من هذا الحجاب لوضع حدٍّ وحاجز بين المرأة نفسها والرجل ولكي تكون حركاتها متّصفة بالوقار والاتزان والعفّة، وأن تتحرّك على أساس إنسانيّتها لا أنوثتها.
ولهذا قد برز فرض وجوب الحجاب على المرأة، وظهر التشديد فيه من أجل الحدّ من الفساد والتحلُّل الأخلاقي الذي يُصيب المجتمعات فيما لو ارتفع هذا الحجاب.
فالحجاب الذي يُمثِّل مجموعة مفردات كما أشرنا سابقاً (الجلباب، الخمار، عدم إظهار الزينة الظاهرية إلّا ما ظهر منها، وعدم إبداء الزينة الباطنية إلا للمحارم، عد الضرب بالخلخال، غضّ البصر، عدم اللحن في القول...)، كلّها تدلّ على أنّ مجموع الحجاب الظاهري هو المؤلّف من اللباس والستر لكامل جسد المرأة، والحجاب الباطني الذي يُمثِّل لباس العفّة والتعفُّف.
وقد أظهر الإسلام اهتماماً بالغاً في الحجاب حتى في الموارد المستثناة كما في القواعد أي العجازات من النساء: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور/ 60).
مع أنّ القرآن الكريم أجاز لهنّ وضع الحجاب عن أنفسهنّ، ورفعه عن بعض مواضع الجسد إلّا أنّه أشار إلى أنّ التعفُّف والتشدُّد به هو خير لهنّ وأفضل.
الخاتمة:
ما قُدّم يُعتبر غيضاً من فيض. وهو مسؤوليّة على عاتق كلّ فراد أن يُشارك في بناء النفس من أجل بناء المجتمع، والعمل بشكل دؤوب لتتأصّل تلك الصفات الأخلاقية في أنفسنا دون استثناء ذكراً كان أم أنثى، إذ إنّ الدعوة إلى الاتّصاف بالعفّة والحياء وبكلّ الصفات الأخلاقيّة الفاضلة هي دعوة للإنسان بشكل عامً.
وقد تبيّن ممّا مرّ من هذا البحث بعض النتائج:
1- أنّ هناك علاقة ثلاثيّة ومتبادلة أحياناً بين العقل والإيمان والحياء، وأنّ إيمان المرء وعقله يكملان أو ينقصان بمقدار ما يتّصف به من الحياء.
2- أنّ شخصيّة الإنسان تُبنى وتتكامل بالصفات والملكات الأخلاقيّة، وأنّ تفاوت إنسانيّة كلّ إنسان إنما تكون على حسبها في الدنيا والآخرة.
3- أنّ الإسلام العزيز دعا الناس إلى بناء مجتمع عفيف من خلال الخطاب القرآني العام الموجّه تارة إلى المؤمنين وأخرى إلى الإنسان بشكل عامّ، ولا يتمّ هذا البناء إلّا ببناء الفرد العفيف الذي يتّصف بتلك الصفات.
4- أنّ أهل البيت (عليهم السلام) رسموا لنا منهاجاً وطريقاً لكيفيّة بناء الفرد العفيف ضمن سلسلة من الآداب والسلوكيّات الخاصّة بشهوتي الفرج والبطن وتنظيمهما بما يرضاه الله تعالى.►
المصدر: كتاب العفّة والحياء/ سلسلة ريحانة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق