• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرزق من عند الله

أسرة البلاغ

الرزق من عند الله

(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) (الرّعد/ 26)، إنّها سنة الله في الكون، فقد أودع فيه سبحانه قوانين وسنناً، تحكم حياة الإنسان وتوجِّه مسيرته، وتوفر بالتالي لفريق من الناس، سعة الرزق من حيث ظروف العمل، أو طبيعة الموقع في إمكانات القدرة ووسائل الإنتاج، في حين تضيق تلك الأسباب بفريق آخر منهم، فيضيق رزقهم تبعاً للظروف والأجواء والمواقع والإمكانات والوسائل.

ذلك أنّ للرزق أسبابه، في حركة الإنسان، وفي ظروفه المحيطة به، تبعاً لقانون السببية الذي يحكم الكون، بناءً على التخطيط الإلهيّ، مما يجعل من نسبة التوسعة والتضييق إلى الله نسبةً حقيقيةً، لسيطرته المطلقة على الظروف والقوانين والضوابط التي تحكم الحياة. وقد لا ينافي ذلك اختياريّة بعض الظروف التي يصنعها الإنسان بحركته السلبية أو الإيجابية، لأنّ عملية الاختيار هذه، تتحرك ضمن الدائرة الكونية التي تحكمها سنن الله وتديرها مشيئته، ككلّ الأشياء الخاضعة للتقدير الإلهي بشكل عام، ولكنها تتضمن هامشاً من الحرية يسمح للإنسان بالحركة في النطاق الخاص، بحيث يبقى رزق الإنسان في حدود التقدير الإلهي، فلا يزيد أو ينقص عما قدره الله في حركة الأسباب والمسبّبات، مما يفرض عليه أن يواجه سعة الرزق وضيقه، بطريقةٍ متوازنةٍ، لا مجال فيها للفرح بمفاجأة غير منتظرة، لأنّ الشيء الذي يحصل، بحصول سببه، لابدّ منه أن يكون حالةً طبيعيةً في واقع الإنسان، تماماً كما هو الحال في طلوع النهار أو قدوم الربيع، ولكن الناس يغفلون هذه الحقيقة، ويرون أنّ جهدهم – وحده – بعيداً عن حركة السنن الكونية، هو الأساس في عملية الربح والزيادة، من دون أن يكون للتقدير الإلهي دخلٌ في ذلك كلّه. وهذا ما يحدثنا عنه الله تعالى في قوله: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الرّعد/ 26)، واستسلموا لها واستغرقوا في تفاصيلها، وواجهوا أرباحها وسعتها، من موقع الفرح الطاغي الذي تثيره المفاجأة وتحكمه الشهوة. ولكن لو فكّر هؤلاء الناس بحجم الحياة الدنيا وحدودها، إذ يستسلمون للفرح بها كما لو كانت هي الفرصة الأولى والأخيرة لدى الإنسان، لما استسلموا لها هذا الاستسلام، ولما فرحوا بها هذا الفرح، بل لوقفوا أمامها موقفاً متوازناً، يحدّد دورهم فيها، ودورها في مصيرهم، ويقف بحدودها عند حدود أعمارهم، ولأدركوا الحقيقة الكونية التي تعتبر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، مجرد متاع يستمتع به الإنسان ثمّ يتركه (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ) (الرّعد/ 26)، مقابل حياة الإنسان في الآخرة الممتدّة في أجواء الخلود ورحابه، حيث يتحدد موقعه فيها تبعاً لعمله في الدنيا في خط الإيمان والكفر، وحركة الطاعة والمعصية.

ولكنّ الكافرين بالله وبرسله، لا يريدون مواجهة حقائق الأشياء، التي يقدمها الرسل في دعوته، بل يهربون إلى مواقع التحدّي نتيجة عقدٍ تحكمهم، وتدفعهم إلى تسجيل المواقف. (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (الرّعد/ 7)، بما تمثّله المعجزة من خرقٍ للمألوف في أوضاع الكون، كما في معجزة موسى أو عيسى (عليهما السلام)، لزعمهم أن تحرك النبوّة في أجواء المعجزة هو قاعدة عامّة، من دون التفات إلى أنّ دور المعجزة هو ردّ التحدي ذو الطابع العام، حفاظاً على سلامة الرسالة الخاصة التي تفرضها الاقتراحات المزاجية والتي تهدف إلى شغل النبيّ بها.

 

الضلال والهداية من الله:

(قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ) (الرعد/ 27)، من خلال أسباب الضلال التي تتحرك في حياة الأشخاص، وربما كان من بينها، إرادة الإنسان للضلال، أو إهماله الأخذ بأسباب الهدى في فكره وفي خطواته العملية في الحياة، (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) (الرعد/ 27)، إلى الله ورجع إليه وأقبل على مواقع الهداية في آفاق الحقّ وحرّك فكره في كلّ موقع من مواقع الكفر، وفي كلّ موقفٍ من مواقف الحوار. وبذلك ينطلق الضلال من مواقع الاختيار الإنساني في نطاق ظروفه المحدّدة، وينطلق بالهدى في هذا الاتجاه. وتبقى نسبة الأمرين لله سبحانه، من حيث علاقة كلّ الأشياء في الكون بإرادته من خلال قانون السببية، الذي يجعل حركة السبب تابعة للإرادة، في الوقت الذي يكون ارتباطه بالمسبب خاضعاً للمشيئة الإلهية في حركة الكون.

 

ذكر الله سكينة لنفس المؤمن:

(الَّذِين آمَنُوا) بالله، ووعوا حقيقة الإيمان، وعرفوا موقع الله من وجود الكون والإنسان، وسيطرته المطلقة على مقدرات الأمور، فلا يوجد شيء إلّا من خلال إرادته، فإذا أراد شيئاً كان، وإذا لم يرد لم يكن، ولا يملك أحد أن يتدخل في ما يريد أو في ما لا يريد، ومن خلال ذلك يشعر المؤمنون بالطمأنينة النفسية مع الله، من موقع الإيمان بقدرته ورحمته ورعايته وتدبيره، فلا مجال للشعور بالقلق والضياع والحيرة ونحوها من المشاعر النابعة من حالات الاهتزاز النفسي، أمام أحداث الحياة ومشاكلها، لأنّ الله هو الذي يتكفّل بحلّ ذلك كلّه، على أساس القاعدة الصلبة التي أقام عليها نظام الإنسان والحياة، وفتح له الآفاق التي يلجأ فيها إليه، ليرحمه ويلطف به، حتى في قضاياه الجزئية، ووعده بالاستجابة له، إذا دعاه، في حدود مصلحته في دنياه وآخرته، وكلّ شيء عنده بمقدار.

وهكذا يرجع المؤمنون إلى الله كلما أصابهم حزنٌ، أو أحاطت بهم المشاكل، ويذكرونه بالتسبيح والدعاء في حالةٍ من الخشوع والإيمان والانفتاح، (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، فتسكن إلى رحمته، وتهفو إلى لطفه، وتستسلم لرعايته وتدبيره، وهذا ما نستوحيه مما حدثنا الله به عن رسوله ليلة الهجرة في غار حراء (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا) (التوبة/ 40)، فقد كانت ثقته بالله وبرحمته ورعايته، هي الأساس في هذه الطمأنينة التي هزمت الخوف والحزن معاً، بدلاً من أن تسقط مهزومةً أمامهما، وليس المراد بالذكر هنا – كما يظهر – الذكر بالكلمة، بل المراد به الذكر في المواقف، حيث يعيش الإنسان الشعور بحضور الله في داخله، فلا يغيب عنه، في أيّ موقف من مواقف الاهتزاز أمام تحديات الحياة ومشاكلها، فيتماسك ويتوازن ويقوى ويشتد ويثبت أمام الله، ليحس بالثقة بين يديه.. وذلك هو زاد المؤمن في الحياة، وتلك هي قيمة الإيمان الروحية، التي تجعله يختزن عناصر الثقة بالحياة من خلال الثقة بالله.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ) (الرعد/ 29)، بما تعنيه الكلمة من الموقع الطيّب، وهو الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين، (وَحُسْنُ مَآبٍ) يرجع إليه مصير الناس حيث يستريحون، ويشعرون بالروح والراحة والرضا والطمأنينة والأمان في ظل رحمة الله ولطف عنايته واستحقاق مثوبته، وذلك هو الفوز العظيم.

 

ارسال التعليق

Top