ونحن على أعتاب أن نودّع سنة ميلادية ونستقبل عاماً ميلادياً جديداً، ما أجمل أن نخاطب في الآخر إنسانيّته، وأن نفتح قلبه على الخير والمحبّة والإحساس الجماعي المنتج والمثمر، وأن نفتح عقله على حبّ المعرفة في خطّ الله، وأن نخاطب فيه كلّ نقاط الاشتراك فيما بيننا، وننمّيها كي نصل إلى برّ الأمان. نحن نقرأ في أدب القرآن الكريم: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (النور/ 22)، وفي الأدب النبويّ: «إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم»، وفي الرؤية الإسلامية للإنسان: «الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدِّين أو نظيرٌ لك في الخلق».
نعم، هي بداية السنة الميلادية التي انطلقت من خلال ميلاد السيِّد المسيح (عليه السلام)، وعندما ننفتح على أية سنة جديدة، فإنّ علينا أن نعتبر أنّها لحظة للتأمّل. إنّ معنى أن تمضي سنةٌ من عمرنا، هو أنّ جزءاً من هذا العمر عشنا مسؤوليته ونتحمّل مسؤوليته، لأنّ الله تعالى سوف يحاسبنا على كلِّ ما أسلفناه في هذه السنة، ولأنّ ما عملناه في تلك السنة سوف ينعكس سلباً أو إيجاباً على المستقبل الذي يُصنع في الماضي والحاضر، ولذلك لابدّ لنا من أن نجلس لنتأمّل بما سلف من أعمالنا، وهل نستطيع التخفّف من سلبياتها والتكثير من إيجابياتها؟ وعندما تبدأ سنة جديدة، ما هي مخطّطاتك لهذه السنة، ما هي مخطّطاتك بين يدي الله، ومخطّطاتك لرعاية عائلتك، وللانفتاح على حياتك الاقتصادية والثقافية والاجتماعية؟
إنّ مسألة ذهاب سنة ومجيء سنة، يمثل قراراً من أخطر القرارات، لأنّها جزء من عمرنا، ولذلك لا ينبغي لنا أن ندخل الزمن من دون وعي وتأمّل وتفكير، وأن نخرج من الزمن من دون حساب. في توديع عامٍ واستقبال عامٍ جديد، لابدّ من أن يكون منطلقاً من ذهنية ممارسة المسؤولية بانفتاحٍ على الزمن، ومحاسبة النفس والنظر في مسارها ومسيرتها، وما هي عليه، وما يجب أن تكون عليه.. إنّك عندما تستقبل رأس كلّ سنة، سواء كانت سنة ميلادية أو سنة هجرية، عليك أن تعرف ما الذي قدَّمته من سنتك الماضية لسنتك القادمة، هل تراجعت أوضاعك أو تحسّنت؟ هل بقيت في مواقعك أو انفتحت على مواقع جديدة؟ كيف مارست مسؤوليّاتك في السنة الماضية؟ كيف تنمّي نفسك وتطوّرها وتملأها علماً وخبرةً وروحاً وتقوى؟ ما هي مسؤولياتك تجاه عائلتك وأُمّتك ووطنك؟ في آخر السنة، لابدّ من أن تنظر ماذا قدَّمت لغدٍ.
يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه: «اللّهُمّ وهذا يومٌ حادثٌ جديد، وهو علينا شاهدٌ عتيد ـ فالزمان يشهد عليك أمام الله غداً ـ إن أحسنّا ـ في هذا اليوم ـ ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذمّ، اللّهُمّ ارزقنا حُسن مصاحبته، واعصمنا من سوء مفارقته بارتكاب جريرةٍ أو اقتراف صغيرة أو كبيرة، وأجزل لنا فيه من الحسنات، وأخلِنا فيه من السيِّئات، واملأ لنا ما بين طرفيه حمداً وشُكراً، وفضلاً وإحساناً».
فلنفرح فرح المسؤولية، وليكن فرحنا فرح الروح التي تريد أن تصفو وتنقى وتحلّق في آفاق الله، وليكن فرحنا فرح الإنسان الذي يريد أن يجعل من سنته سنة خير وحرّية واستقلال وعدالة.. وليكن فرحنا مع المستضعفين فرح الحقّ كلّه، والعدل كلّه، والمسؤولية كلّها: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/ 105). إنّ الله تعالى يريد منّا أن نبدأ العام الجديد كما نبدأ اليوم الجديد والأسبوع الجديد، بالجلوس بين يديه لنعترف له، ولنطلب منه أن يعطينا في العام الجديد الكثير من الحقّ ومن الحكمة والعدل والاستقامة. هذه السنة الجديدة مُدعاة لنا إن وهبنا الله تعالى فيها العمر والحياة، لأن نملأها بالتوبة والمحبّة والذكر والاستغفار، وتجديد العلاقة مع الله تعالى، وأن نجعله الحاكم والملجأ والمستعان على أيّامنا وسني آجالنا.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق