◄في رحاب الصحيفة السجّادية للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، حيث تسمو الروح في آفاق الدُّعاء والتوسّل إلى الله تعالى، وينفتح القلب على كلّ ما يزكّي النفس ويرفع من قيمتها.
يقول الإمام السجّاد (ع): «يا من ذكره شرفٌ للذاكرين، ويا من شكرُهُ فوزٌ للشاكرين، ويا من طاعته نجاةٌ للمطيعين، صلِّ على محمَّدٍ وآله، واشغل قلوبنا بذكرك عن كلّ ذكر، وألسنتنا بشكرك عن كلّ شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كلّ طاعة.
فإن قدَّرتَ لنا فراغاً من شغل، فاجعله فراغ سلامةٍ لا تدركنا فيه تبعةٌ، ولا تلحقنا فيه سآمةٌ، حتى ينصرف عنّا كُتّاب السيِّئات بصحيفة خالية من ذكر سيِّئاتنا، ويتولى كُتّاب الحسنات عنّا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا».
مَن يذكر الله تعالى حقّ الذكر، من خلال انفتاح العقل والقلب على العبودية الحقّة، فذلك غاية ما يحصّله الإنسان في حياته من عزّة وكرامة وشرف، حيث يتّصل بالكمال المطلق، ويعيش روح العلاقة الحيّة مع الله، بما ينعكس خيراً على الحياة كلّها.
ومَن يشكر الله تعالى في السرّاء والضرّاء، ويعرف قيمة الشُّكر لله على ما أنعم وأبلى، فهو الفائز، بما يحقّق من علاقة فاعلة تستحضر كلّ معاني السموّ والارتفاع بالله تعالى، فإحساسنا بالنِّعمة علينا، لابدّ وأن يدفعنا إلى المزيد من حفظ النِّعَم وأداء حقّها، وإلى المزيد من السعي والعمل الصالح.
وطاعة الله هي منتهى كلّ فعلٍ مرغوبٍ ومطلوب، يحقّق الطمأنينة والسكينة للقلب، ومن يُطع الله حقّ طاعته، بما تفترضه الطاعة من طهارة الفكر والشعور، فإنّه يكون من الناجين المستحقّين لمرضاة الله في الدُّنيا والآخرة.
يا ربِّ، اجعل شغلنا في تحصيل ثوابك بالطاعة والذكر والشُّكر، ولا تجعل أوقات فراغنا مدعاةً للعبث واللعب واللهو بما ننصرف به عنك، وننشغل بأهوائنا الدُّنيوية، ما يزيدنا بُعداً عنك، ويؤثِّر سلباً في سلامة مصيرنا يوم يقوم العباد للحساب.
فالفراغ ـ يا ربّ ـ هو فسحة طبيعية كي نأخذ قسطاً من الراحة، لنعود إليك أكثر نشاطاً وحيويةً، وليس مدعاة للتكاسل والخنوع والاستغراق اللاهي في قشور الدُّنيا.
اللّهُمّ اجعل حياتنا مملوءةً بالحسنات، واجعل الملائكة الموكلين مسرورين منّا، من أعمالنا الصالحة التي تحصّننا في وجه وساوس الشياطين، واجعل حياتنا لا تعرف السيِّئات التي تلوِّث الواقع، وتبعدنا عن حقيقة الدور وممارسة المسؤولية في إغناء الحياة ورفعتها.
«يا من ذكره شرفٌ للذاكرين»، ذكر القلب في كلّ نبضاته وخفقاته وعمقه وامتداده، أمّا ذكر اللسان، فقيمته بالمعنى الذي يعيشه القلب في الكلمة التي ينطق بها، وإلّا كان لغواً، وبذلك كان الحضور الإلهيّ في الذات هو سرّ الذكر، بحيث نشعر بأنّك حاضرٌ في كلّ وجودنا.
وفي ضوء ذلك، فإنّ للذكر معنى في الوعي، بأن يعيش الإنسان سرّ عظمة الله في داخل الذات، بحيث يهتزّ كيانه بالخشية من الله عند ذكره.
«واشغل ألسنتنا بشكرك عن كلّ شكر»، فلا نرى للنِّعمة مصدراً غيرك، لأنّ أيّاً من المخلوقين لا يملكون شيئاً إلّا من خلال ما ملّكتهم، ولا يعطون أحداً ممّا أعطيتهم، فكلّ شُكر عائد إلى شكرك، لأنّ كلّ نِعمة منطلقة من نِعَمك.. وإذا كانت ألسنتنا تنطق بالشُّكر، فهي للتعبير عن انفعال الذات بذلك، الأمر الذي يتحوّل إلى الشكل الذي يتمثَّل في دائرة الانضباط في خطّ الطاعة.
إنّنا نستعين بك ـ يا ربّ ـ أن تمنح كلّ أعضائنا القوّة على الانضباط والتوازن في خطّ طاعتك، لتشغلها بطاعتك عن كلّ طاعة، لأنّك أنت مَن يرزقنا النجاة في الدُّنيا والآخرة، وأنت مَن يرتفع بنا إلى مواقع القرب منك، حيث الخير كلّ الخير، والسعادة كلّ السعادة في رضاك.
يا ربّ، لقد دعوناك أن تشغل قلوبنا بذكرك عن كلّ ذكر، وبشكرك عن كلّ شكر، وجوارحنا بطاعتك عن كلّ طاعة.
إنّنا لا نريد الفراغ استغراقاً في المعصية التي نتحمّل مسؤوليتها ـ غداً ـ بين يديك، ولا سأماً ومللاً يفسد وعينا للخطّ الجادّ المسؤول في حياتنا، بل نريده انطلاقة تأمّل، وتخفّفاً من جهدٍ واسترخاءٍ في الراحة، وتجديداً للنشاط، وحافزاً ليوم عملٍ جديد، ليكون الفراغ مقدِّمة للعمل، ونافذة على المسؤولية، لا بديلاً منهما.
إنّنا نعلم ـ يا ربّ ـ أنّك جعلت لكلّ واحد منا مَلَكين كاتبيْن، يكتب أحدهما حسناتنا، ويكتب الآخر سيِّئاتنا، لذا إنّنا نريد ـ يا ربّ ـ أن تكون أوقات أعمالنا في طاعتك، وأوقات فراغنا في رضاك، فلا يرى كُتّاب الحسنات منّا إلّا النتائج التي تملأهم بالسرور، عندما يرون صحيفة الحسنات مملوءةً بحسناتنا، أمّا كُتّاب السيِّئات، فينصرفون دون أن يكتبوا سيِّئة واحدة، وذلك هو الفوز العظيم.
فلننفتح على أجواء الذكر والشُّكر والطاعة، لما في ذلك من تأصيل للذات، وانطلاقة حرّة وواعية وهادفة ومسؤولة في خطّ الله تعالى والكدح الفاعل إليه.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق