◄يا ربِّ يا رَبِّ يا رَبِّ أسألُكَ بِحَقِّكَ وقُدْسِكَ وأعْظَمِ صِفاتِكَ وأسْمائِكَ أن تَجْعَلَ أوقاتي مِنَ اللَّيل والنَّهار بِذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وبِخِدْمَتِكَ مَوْصولةً، وأعمالي عِنْدَكَ مَقْبولَةً حتى تكونَ أعمالي وأورادي كُلُّها وِرْداً واحِداً وحالي في خِدْمَتِكَ سَرْمَداً.
- مفاهيم محوريّة:
· التوفيق الإلهي طريق لدوام ذِكْر الله.
· الذِكْر الصادق.
· التوحيد في الذِكْر.
· دوام الاتّصال في خدمة الله.
· شروط قبول العمل.
· الثبات في خطّ الطاعة.
- شرح المفردات:
معمورة: أصلها عَمَرَ: "العين والميم والراء: أصلان صحيحان، أحدهما: يدلّ على بقاء وامتداد زمان، والآخر: على شيء يعلو من صوت أو غيره. فالأوّل: العمر؛ وهو الحياة". و"العِمَارَةُ: نقيض الخراب.. قال تعالى: (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (الطور/ 4)".
أورادي: أصلها وَرَدَ: "الواو والراء والدال: أصلان، أحدهما: الموافاة إلى الشيء، والثاني: لون من الألوان".
سرمداً: السَّرْمَدُ: الدّائم، قال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا) (القصص/ 71)".
- دلالة المقطع:
1- التوفيق الإلهي طريق لدوام ذِكْر الله:
ما يستوقف الداعي بدعاء كميل في هذا المقطع تلك الأيمان المغلّظة على الله "بحقّك، وقدسك، وأعظم صفاتك وأسمائك"، والمدعوّ به هو أن يوفِّق الله تعالى هذا الداعي؛ ليكون ذاكراً لله عزّ وجلّ على الدوام؛ بأن يجعل كلّ أوقاته عامرة بذكر الله. فهل هو مجرّد قول: الله أكبر، والحمد لله، أو سائر التسبيحات؟! تجيب الرواية عن ذلك بأنّ المطلوب هو الذِكْر القلبي؛ أي أن يكون الله عزّ وجلّ حاضراً في حياة هذا الإنسان في كافّة الأوقات:
عن الإمام علي (ع): "ما ابتلي المؤمن بشيء هو أشدّ عليه من خصال ثلاث يحرمها، قيل: وما هنّ؟ قال: المواساة في ذات يده، والإنصاف من نفسه، وذكر الله كثيراً. أما إنّي لا أقول لكم: سبحان الله والحمد لله، ولكنّ ذكر الله عندما أُحلَّ له، وذكر الله عندما حُرِّم عليه".
فهو متى كان في ظلّ حلال الله؛ ذَكَر الله؛ بالتوجّه بالشكر إليه، ومتى رأى محرّماً حرَّمه الله عليه؛ ذكر الله؛ فاجتنبه.
2- الذِكْر الصادق:
إنّ ذِكْر الله باب للوقاية من الذنوب، وهو دليل تعلّق قلب الإنسان الذاكِر بالله عزّ وجلّ، والسعي إلى لقائه. ولذا، كان الذِكْر الصادق هو الذي يستتبع العمل على لقاء الله؛ بالنحو الذي يليق وينبغي؛ أي بأن يلقى الله عزّ وجلّ نقي الثوب، طاهراً من الذنوب، وإلا كان من الإستهزاء أن يطلب الإنسان لقاء الله ولا يستعدّ له:
روي عن الإمام الرضا (ع): "سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من إستغفر بلسانه، ولم يندم بقلبه؛ فقد إستهزأ بنفسه، ومن سأل الله التوفيق، ولم يجتهد؛ فقد إستهزأ بنفسه، ومن إستحزم، ولم يحذر؛ فقد إستهزأ بنفسه، ومن سأل الله الجنّة، ولم يصبر على الشدائد؛ فقد إستهزأ بنفسه، ومن تعوّذ بالله من النار، ولم يترك شهوات الدنيا؛ فقد إستهزأ بنفسه، ومن ذكر الله، ولم يستبق إلى لقائه؛ فقد إستهزأ بنفسه".
3- التوحيد في الذِكْر:
كما تزلّ قدم الإنسان؛ فيشرك بالخالقية، أو الربوبية، أو العبودية، فإنّه قد تزل قدمه؛ فيشرك في ذِكْر الله، فيتعلّق قلبه بغير الله، وينسى ذِكْر الله. ومن هنا، حذّر القرآن الكريم من بعض المُلهيات المُوجبة لإنصراف الإنسان عن ذِكْر الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون/ 9).
هل إختبر الإنسان الموحِّد قلبه؛ في أنّه يأنس بذِكْر الله أكثر ممّا يأنس بأحاديث الناس؟! وهل يرى نفسه في أثناء العبادة والدعاء أشدّ أنساً منه بأوقات مجالسة الأصدقاء والسهر والسمر؟! وفي هذا الصدد يعلّمنا الإمام زين العابدين (ع) كيف يستغفر الموحِّد من تلك اللحظات التي يأنس فيها بغير ذكر الله؛ لأنّ من تعلّق قلبه بالله يرى ذلك ذنباً مُوجباً للعبد، فلابدّ وأن يعقبه الإستغفار:
عن الإمام زين العابدين (ع) – في مناجاة الذاكرين –: "وإستغفرك من كلّ لذّة بغير ذِكرك، ومن كلّ راحة بغير أنسك، ومن كلّ سرور بغير قربك، ومن كلّ شغل بغير طاعتك".
4- دوام الاتّصال في خدمة الله:
تتمثّل الخدمة في ما ندركه من علاقات الناس بعضهم مع البعض الآخر في قضاء الحوائج، فإذا كان لأخيك حاجة فقضيتها له؛ فهذا يعني: أنّك قدَّمت له خدمة. وكذلك في الخادم في المنزل؛ فإنّه يقوم بما يحتاج إليه سيّده ومالكه.
وهذا المعنى من الخدمة؛ أي: قضاء الحوائج؛ هو مستحيل في حقّ الله عزّ وجلّ؛ لأنّه الغني بذاته، والذي لا يحتاج إلى شيء حتى يقضي أحد حاجته. ولذا، يكون المُراد من خدمة الله: الإمتثال لطاعة الله على الدوام؛ بأن يكون الإنسان على الدوام في خدمة الله: ممتثلاً لأوامره تعالى دائماً. وأهمّ الأوامر الإلهية؛ هي:
الصلاة:عن الإمام الصادق (ع): "إنّ طاعة الله؛ خدمته في الأرض، فليس شيء من خدمته يعدل الصلاة".
كما أنّ خدمة عباد الله وقضاء حوائج الناس؛ هي مصداق لجعل الإنسان في خدمة الله عزّ وجلّ:
روي عن النبي (ص): "الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله؛ من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت سروراً".
5- شروط قبول العمل:
على الإنسان العمل؛ ومن الله قبول الأعمال، ولكنّ لابدّ للإنسان من أن يحقّق شروط قبول العمل عند الله، فلا يُدخِل في العمل ما يكون سبباً لرفضه وردّه. وأهمّ شرط لقبول العمل: الإخلاص فيه:
روي عن رسول الله (ص): "إذا عَمِلْتَ عملاً؛ فاعمل لله خالصاً: لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال، إلا ما كان خالصاً".
ومن شروط قبول الأعمال: أن يكون الإنسان من أهل التقوى؛ بأن يكون ممّن يُحافظ على طاعة الله عزّ وجلّ على كلّ حال، وفي هذه نتذكّر قصّة ابني آدم؛ بما حكاه القرآن: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27).
6- الثبات في خطّ الطاعة:
من أشدّ ما يُبتلَى به الإنسان؛ أن يطيع الله في بعض الأوقات، ويعصيه في أوقات أخرى، أو أن يلجأ إلى الله عند الشدائد وينساه في الرخاء. ولذا، كان القليل من العمل مع المداومة عليه أفضل من الكثير من الانقطاع:
روي عن الإمام الباقر (ع): "ما من شيء أحبّ إلى الله عزّ وجلّ مِن عمل يداوم عليه، وإن قلّ".
وفائدة المداومة على العمل، ولو كان قليلاً؛ أن لا ينقطع الإنسان عن الله عزّ وجلّ:
روي عن رسول الله (ص): "أمّا المداومة على الخير؛ فيتشب منه: ترك الفواحش، والبعد من الطيش، والتحرّج، واليقين وحبّ النجاة، وطاعة الرحمن، وتعظيم البرهان، واجتناب الشيطان، والإجابة للعدل، وقول الحقّ؛ فهذا ما أصاب العاقل بمداومة الخير".
وكذلك الحال في الدعاء، وطلب الحاجة من الله؛ فإنّ الإنسان المُداوم على ذِكْر الله عزّ وجلّ يحقّق شروط الاستجابة عند الحاجة:
روي عن الإمام الصادق (ع): "من تقدّم في الدعاء؛ استُجِيبَ له إذا نزل به البلاء، وقالت الملائكة: صوت معروف، ولم يُحجَب عن السماء، ومن لم يتقدَّم في الدعاء؛ لم يُستجَب له إذا نزل به البلاء، وقالت الملائكة: "إنّ ذا الصوت لا نعرفه".
ومن الشواهد على كون العمل الصادر من الإنسان بنحو واحد ومتشابه: أن لا يختلف عمله في السرّ عن عمله في العلانية؛ فلا يكون في مرأى الناس أقرب إلى الله منه في الخلوات، أو أشدّ اجتهاداً في العبادة:
روي عن الإمام علي (ع): "من لم يختلف سرّه وعلانيّته، وفعله ومقالته؛ فقد أدّى الأمانة، وأخلص العبادة".
- وقفة تأمّلية:
التفكّر في آثار ذِكْر الله تعالى:
ركّز القرآن الكريم على إدامة حالة الذكر بقسميها اللساني والقلبي في كثير من آياته الكريمة؛ لما لها من آثار وبركات في عروج الإنسان نحو الكمال وقربه من الله تعالى:
قال تعالى: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا) (الأحزاب/ 41-42).
وقال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه/ 14).وقال تعالى: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الزمر/ 22).
وقال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر/ 23).
والحال: أنّ ذكر المحبوب من أعظم علامات المحبّة؛ لأنّ مقتضى المحبّة أن يبقى المحبوب حاضراً على لسان المحبّ وفي قلبه؛ على كلّ حال. وكلّما تعمّقت هذه الحالة الذِكريّة في نفس الإنسان تجاه الله تعالى؛ كلّما ازداد حضور الله تعالى في قلبه، وازداد بالتالي انقطاعه عمّن سواه تعالى، إلى أن يصل الإنسان إلى مرحلة لا يشاهد فيها غير الله تعالى.►
المصدر: كتاب (آمال العارفين/ سلسلة الدروس الثقافية)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق