• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أُسس الأخلاق الفاضلة

أُسس الأخلاق الفاضلة

◄للإسلام في تصميم الحياة، سماته الواضحة، ومميزاته التي تفضله على سواه. وقد عرف أنّ الحياة الاجتماعية لا تتقمص صيغتها الثابتة، إلا بتكوين أُمّة تركز هذه الحياة على الأسس الفاضلة، ثمّ تصونها من الانحراف والانهيار. والأُمّة لا تطيق العيش إلا بمقدار ما في أخلاقها من قدرة على تأكيد روابط الأفراد، فالأخلاق للأُمّة كشبكة الأعصاب التي تزن قدرتها على مقاومة الأحداث. ولذلك اعتنى الإسلام بتربية الأخلاق، حتى جعلها هدف الرسالة في منطق النبيّ الأكرم (ص) حيث قال: "بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

فالأخلاق تمثل الحجر الأوّل والأساس لتكوين الأُمّة وتأمين الحياة.

وحيث انّ الأُمم تنتزع أخلاقها من العادات والتقاليد السائدة فيها، وهي تختلف باختلاف البيئات والظروف، كانت الأخلاق تقاسي أزمة التناقض والارتباك. فكثير من الأخلاق كان فاضلاً لدى أُمّةٍ، وسيئاً عند سائر الأُمم، فثار الإسلام لإنقاذ الأخلاق من التناقض، فركزها على أسس تعتمد على فلسفة الحياة، لتعيش كالمقاييس الثابتة التي ترفض التخلف والتطرف، وتأمن من التعصب والانحراف، حتى تستطيع تعديل الشعوب، وتكوين مسيرة التأريخ. وهذه الأسس العامة للأخلاق الإسلامية تتلخص في ثلاثة:

الأوّل: المساواة العامّة بين أبناء آدم (ع) كما قال النبيّ الأكرم (ص): "كلّكم لآدم وآدم من تراب".

فجميع النّاس أخوة، انحدروا من أصل واحد هو التراب، الذي يدوسه الجميع، ويعود إليه الجميع، وجميع الطاقات العاملة في الكون تعني بتربية النّاس عناية واحدة، فحفاوة الحياة بناس سيئين لا تقل عن حفاوتها بأعظم رئيس يحكم الملايين بل هما زميلان في مدرسة الطبيعة، وتحت رحمة الأقدار، فكلاهما يولدان ويموتان في وقت معيّن بلا اختيار، وينامان ويأكلان وتختلف عليهم الأمراض والهموم، وإنما تشعبت القبائل والشعوب وتلونت الفضائل واللغات، ليعلموا: أنّهم في منطق الحياة سواء، ولا يتفاضلون إلّا بأفكارهم وأعمالهم، كما فسّر القرآن هذه الظاهرة بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).

وكما فصَّل النبيّ هذه الحقيقة هاتفاً: "لا فضل لعربي على عجمي، ولا للأبيض على الأسود، إلّا بالتقوى".

وكما قال أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر: "النّاس صنفان: أما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، فاعطهم من عفوك وصفحك ما ترجو أن يعطيك الله من عفوه وصفحه".

فليس على الأرض أشراف خلقوا أسياد مهما انحدروا وعبيد مهما ارتفعوا، وليس في الحياة أبناء الله وأحباؤه المفضلون، وليست في الوجود شعوب نبيلة يجري في عروقها الدم الأزرق الكريم، وشعوب يجري في عروقها الدم الأسود، بل الجميع أمام العدالة وعند الله متساوون في صف واحد كأسنان المشط.

الثاني: المحبة المتبادلة بين المسلمين، فبعدما شعروا بأنّهم منحدرون من أب واحد وأصل واحد وانّهم متساوون في منطق الخلقة وعند الله، دون أن يكون فيهم ما يبعث على الألفة والكبرياء، يوحي إليهم الإسلام بأنّ الأُمّة المسلمة كيان واحد، فعلى أفرادها أن يعيشوا متحابين، فيركز النبيّ (ص) هذا التوحيد الفكري في مشاعرهم قائلاً:

"مثل المؤمنين كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". والمؤمنون وددة متحابون، وإن تباعدت منازلهم وأجسامهم. والمنافقون غششة متخاصمون، وإن تقاربت أجسامهم ومنازلهم". "والمؤمن ألف مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يُؤلف".

ومضى النبي الأكرم (ص) إلى أكثر من ذلك، فشرط في إيمان الفرد أن تشترك عواطفه ومشاعره واتجاهاته الباطنة في التوفر على مصلحة الغير وإيثاره فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لها".

ثمّ بشّرها بنتائج التراحم في الله فقال (ص): "إنّ من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: قوم تحابوا بروح الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله انّ وجوههم لنور، وانّهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف النّاس، ولا يحزنون إذا حزن الناس".

الثالث: الإخلاص في التفكير والقول والعمل، حتى يوجه المؤمن نشاطاته إلى الخير العام لا إلى المصالح الخاصة فيقول الحقّ للحقّ، ويصدق إيماناً بالصدق، ويتعاون مع الآخرين ثقة بالتعاون، حتى يعيش عضواً نابضاً، يتعاون معه الناس باطمئنان وارتياح.

وهذا ما أرشد إليه القرآن الكريم قائلاً: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة/ 5).

وهذا ما أكّد عليه الرسول الأكرم (ص) حيث قال: "إنما الأعمال بالنيات" و"كلّ امرىء ما نوى".

فهذه الأسس الثلاث: المساواة والمحبة والإخلاص، ركائز الأخلاق العامّة، التي يشيد الإسلام عليها الحياة الاجتماعية والتي تنبع منها بقية الأخلاق الفاضلة، كالوفاء، والكرم، والشجاعة، والعدل، والتواضع والعفو، والغيرة والصبر، والإحسان. ►

ارسال التعليق

Top