جعلنا الله من الصائمين المخلصين والقائمين القانتين بالصيام فإنّه جُنّة من النار، وهو حبل الالتجاء إلى الله، وفيه صفاء القلب وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم وهو سبب لمضاعفة الحسنات وتخفيف السيئات وهو باب واسع من أبواب الخير والبركة، وفيه غير ذلك من الفوائد الجليلة والأجر العظيم. ولأهمية الصيام عند الله سبحانه وتعالى ولما يمثّله من علاقة مع الخالق عزّوجلّ فرضه الخبير الحكيم على عباده جميعاً ومنذ أن بعث الله الأنبياء لهداية البشر، فانظر إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). وورد عن نبيّ الرحمة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لكلّ شيء زكاة وزكاة الأجسام الصيام». وقال أمير المؤمنين وسيِّد الوصيّين (عليه السلام): «وصوم شهر رمضان، فإنّه جُنّة من العقاب».
إنّ الله العزيز الحكيم لم يوجب على عباده ما فرض عليهم وكلّفهم به لهواً أو عبثاً فإنّه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، بل إنّما فرض ذلك لمصلحة إمّا ظاهرة واضحةً وإمّا خافية باطنة، فلننظر إلى جواب إمامنا الصادق (عليه السلام) عندما سأله أحد أصحابه المخلصين وهو هشام بن الحكم عن علة الصيام فقال (عليه السلام): «إنّما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أنّ الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، لأنّ الغني كلّما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله تعالى أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع». فما ذكره الإمام الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث هو إحدى الحكمِ التي جعلت للصيام،. احترام شهر رمضان وتقديره واجب، فإنّه شهر الله وهو سيِّد الشهور وهو الشهر الذي فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهو شهر العفو والرحمة وشهر العبادة والدعاء والاستغفار والتوبة. وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «شهر رمضان شهر الله عزّوجلّ وهو شهر يضاعف الله فيه الحسنات، ويمحو فيه السيئات، وهو شهر البركة وهو شهر الإنابة وهو شهر التوبة وهو شهر المغفرة، وهو شهر العتق من النار والفوز بالجنّة». فلنغتنم هذه الفرصة ولندع الله بفنون الدعوات ونسأله التوفيق لطاعته والعصمة عن معصيته، ونستغفر فيه لذنوبنا ونتب إليه من خطئنا ونشتغل فيه بذكر ربنا تقدست أسماؤه وتعالت آلاؤه. ونكثر فيه من تلاوة القرآن، فإنّه قد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أنّ لكلّ شيء ربيعاً، وربيع القرآن شهر رمضان». ونسئل فيه حوائجنا فإنّ الدعاء فيه مستجاب، ونتصدق فيه على الفقراء فإنّ الثواب فيه مضاعف. وإذا صمنا فلتصم معنا أعضاؤنا وجوارحنا من المآثم وارتكاب المحارم، ونجتنب الخوض في الشبهات، ولنصم لله بقلب خالص، ولنعلم أنّ الله إنما يتقبل من المتقين.
لنتأمّل في هذا الحديث الجميل المليء بالمعاني الجليلة والغزير بالمواعظ العظيمة فقد ورد أنّ إمامنا الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ الصائم ليس من الطعام والشراب وحده إنّما للصوم شرط يحتاج أن يحفظ حتى يتم الصوم، وهو الصمت الداخل، أما تسمع قول مريم بنت عمران: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (مريم/ 26)، يعني صمتاً، فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تماروا ولا تكذبوا ولا تباشروا ولا تخالفوا ولا تغاضبوا ولا تسابوا ولا تشاتموا ولا تنابزوا ولا تجادلوا ولا تبادوا ولا تظلموا ولا تسافهوا ولا تضاجروا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة والزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق ومجانبة أهل الشر واجتنبوا قول الزور والكذب والفراء والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة منتظرين لأيامكم، منتظرين لما وعدكم الله متزودين للقاء الله، وعليك السكينة والوقار والخشوع والخضوع وذل العبد الخائف من مولاه، راجين خائفين راغبين راهبين قد طهرتم القلوب من العيوب وتقدست سرائركم من الخبّ ونظفت الجسم من القاذورات، تبرأت إلى الله من عداه، وواليت الله في صومك بالصمت من جميع الجهات ممّا قد نهاك الله عنه في السر والعلانية، وخشيت الله حقّ خشيته في السرّ والعلانية، ووهبت نفسك لله في أيّام صومك، وفرغت قلبك له، ونصبت نفسك له فيما أمرك ودعاك إليه، فإذا فعلت ذلك كلّه فأنت صائم لله بحقيقة صومه صانع لما أمرك، وكلّما نقصت منها شيئاً ممّا بنيت «بينت» لك فقد نقص من صومك بمقدار ذلك» إلى أن قال «إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، إنّما جعل الله ذلك حجاباً ممّا سواها من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصوم، ما أقل الصوّام وأكثر الجوّاع».
الإكثار في الشهر الكريم من العبادة والتهجد وقراءة القرآن والأدعية لاسيّما ما ورد منها في خصوص تلك الليالي كدعاء الافتتاح ودعاء البهاء وأبي حمزة الثمالي وغيرها، وعلينا الاهتمام والترقب لليلة القدر التي جعلها الله خيراً من ألف شهر والتي فيها تتنزل الملائكة والكتبة إلى السماء الدنيا فيكتبون ما يكون في أمر السنة وما يصيب العباد. فلنتعاهد أمرها ولنحيها بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن، ولنأتِ بالأعمال الواردة في تلك الليالي من غُسلٍ واستغفار ونشر للقرآن على الرأس وزيارة للإمام الحسين (عليه السلام) وقراءة لدعاء الجوشن الذي ورد في فضله الكثير. من جملة فضله أنّ من دعا به بنية خالصة في أوّل شهر رمضان رزقه الله تعالى ليلة القدر وخلق له سبعين ألف ملك يسبّحون الله ويقدّسونه وجعل ثوابهم له، ومَن دعا به في شهر رمضان ثلاث مرات حرّم الله تعالى جسده على النار، وأوجب له الجنّة ووكّلَ الله تعالى به ملكين يحفظانه من المعاصي وكان في أمان الله طول حياته.
الاعتكاف:
الاعتكاف لله ولو مرّة في عمرك فإنّه سنّة نبيّك (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمل أئمّتك صلوات الله عليهم أجمعين وهو دأب العلماء والصالحين، وقد قال تعالى في كتابه الكريم: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة/ 125). ويمكنك أن تأتي به في أي وقت من الأوقات لا يكون فيه مانع من الصيام، ويجزيك ثلاثة أيّام، وأفضل الأوقات لذلك العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إذا كان العشر الأواخر من شهر رمضان اعتكف في المسجد وضربت له قبة من شعر وشمر المئزر وطوى فراشه». وهناك واجبات وآداب لابدّ من أن تلتزم بها عند اعتكاف فقد ورد عن أمير المؤمنين (علیه السلام) أنّه قال: «يلزم المعتكف المسجد، ويلزم ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة، ولا يتحدّث بأحاديث الدنيا ولا ينشد الشعر ولا يبيع ولا يشتري، ولا يحضر جنازة ولا يعود مريضاً ولا يدخل بيتاً ولا يخلو مع امرأة، ولا يتكلّم برفث ولا يماري أحداً وما كف عن الكلام من الناس فهو خير له».
الصدقة:
ديننا الشريف والتي تُستنزل بها الرحمة ويدفع بها البلاء والنقمة وتنمو عند الله تبارك وتعالى هي الصدقة والإنفاق في سبيل الله فقد قال الله سبحانه في محكم كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) (البقرة/ 254). وقال عزّ من قائل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 261). وقد ورد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «خيرُ مال المرء وذخائره الصدقة». وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الصدقة تدفع ميتة السوء». وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الصدقة جُنّة عظيمة، وحجابٌ للمؤمن من النار». وقال (عليه السلام) أيضاً: «الصدقةُ أفضلُ الحسنات». إنّ فوائد الصدقة لا تقتصر على الثواب الأخروي والمقام المرموق عند الله سبحانه، بل إنّه تعالى جعل لها آثاراً وفوائد دنيوية كثيرة فمن ذلك أنّها تقضي الدِّين وتخلف البركة وتنفي الفقر وتزيد في العمر وتقي من ميتة السوء وتدفع البلاء وتفيد للشفاء وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي وردت في الروايات الشريفة. ثمّ أنّ صدقة السرّ أفضل بكثير من صدقة العلن لما في ذلك من صفاء في النيّة وإخلاص في العمل ولما فيه من حفظ ماء وجه المحتاج وعدم إذلاله. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله الصدقة في السرّ، فإنّها تكفّر الخطأ وتطفىء غضب الربّ تبارك وتعالى». وكان إمامنا الصادق (عليه السلام) إذا أعتم وذهب من الليل شطره أخذ جراباً فيه خبز ولحم والدراهم فحمله على عنقه ثمّ ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسمه فيهم ولا يعرفونه، فلمّا مضى (مات) أبو عبدالله (عليه السلام) فقدوا ذلك فعلموا أنّه كان أبا عبدالله (عليه السلام).
الصلاة سكينة النفس:
أمّا الصلاة فهي سكينة أنفسنا وخشوع لجوارحنا وإخبات لقلوبنا وإشباع روحي لنا.. إنّها صلتنا بالله سبحانه وتعالى، إليها اللجوء إذا كثرت همومنا، نناجي فيها ربنا وخالقنا، وفيها نسجد له وحده، ونضع رأسنا فوق التراب إجلالاً لعظمته وحكمته ونِعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، وما أجمل قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، وما أروع قوله «أرحنا بها يا بلال». إنّها الصلاة الخاشعة.. الخالصة.. الواعية.. إنّها اللقاء المتجدد مع الله سبحانه وتعالى، وفي شهر رمضان تزداد أنوار الشوق إلى لقاء الله، فيفيض بعطائه الدائم على عباده. قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45). وما بين الصلاة وقراءة القرآن: دعاء واستغفار وتسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، فأبواب الخير في شهر الخير مشرعة أمام أهل الخير، الذين ينهلون من فضل الله، فيتصدقون ويبذلون من أنفسهم وأموالهم، ويقبلون على الله بدمعات ندم ساخنة في أوقات السحر، عسى الله أن يقبلهم في عباده الصالحين القانتين الصادقين، والله قريب من عباده: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة/ 186)، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فهنيئاً لمن أحسن الاستعداد له، وفرّغ نفسه من هموم الدُّنيا، لينال رضا الله وينعم في رحاب الإيمان الصافي.. فاللّهمّ أعنّا على طاعتك وحسن عبادتك وأرزقنا الفوز بالجنّة والنجاة من النار.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق