عمار كاظم
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13). هذا هو النداء الصريح الذي جاء به محمّد (ص)، في قرآنه الذي أوحاه إليه ربه جلّ جلاله، نداء يذكّر البشر جميعاً على وجه هذه الأرض أنّهم إخوة، وأنّهم أبناء أب واحد وأمّ واحدة وهذه الأخوّة لبني الإنسان التي أثبتها قرآن محمّد (ص)، يجب أن تؤتي ثمارها وتحقق غايتها، فالأخ يجب أن يعيش مع أخيه بحب وأمان، وتعاون واطمئنان، وإذا اقتضت حكمة الله، وطبيعة التناسل أن يكون الناس قبائل وشعوباً وأُمماً، فليس معنى هذا أنهم خلقوا كذلك للخصام والتنازع، وللتشاحن والتدافع، وليعد كلّ قبيل للآخر وسائل التدمير والإهلاك، كلا، إنّ الناس لم يخلقوا لهذا، إنّما خُلقوا للتعارف والتآلف ولتحقيق الإخاء الإنساني العام، وما يقتضيه هذا الإخاء من رحمة وبرٍّ وخير. وقد جاءت شريعة محمّد (ص) وتعاليمه تشرح هذه النواحي بوضوح وتؤكّدها بإصرار، قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وكلّ إنسان بحسب طبعه يحب لنفسه الخير، ويرغب لها في تحصيل الهناء والسعادة كما يكره لها الشر والشقاوة، ولكن تعاليم الرسول الكريم لتفهم المؤمن أنّه لن يكون مؤمناً بالمعنى الصحيح إلا إذا أحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وكره له من الشر ما يكره لنفسه، وإذا تكونت هذه الفكرة ورسخت في أفراد المجتمع، وعمل كلّ منهم بما تتطلبه هذه التعاليم السامية، برز للوجود مجتمع قوي متماسك، يسوده الحب، ويظلله الهناء والسعادة. إنّنا حين ننظر في أسباب النزاع بين أفراد البشر وجماعاتهم نجد أنّ ذلك ناشئ عن نبذ هذه الأخوّة، وتغلب الأثرة على النفوس، والأثرة آفة الإنسان، متى سيطرت على امرئ، محقت خيره، ونمّت شره، وحصرته في نطاق ضيِّق خسيس لا يعرف إلا شخصه، ولا يتأثر بفرح أو حزن إلا لما يمسه وحده من خير أو شر، أما هذه الدنيا العريضة، أما هذه الألوف المؤلفة من البشر فهو لا يهتم بأمرهم، ولا يعنى بشؤونهم، إلا بقصد ما يصل إليه عن طريقهم لتحقيق آماله، وإشباع رغباته، ومثل هذا الإنسان بعيد من رحمة الله، محروم من حبه تعالى، لأنّ أحب الناس إلى الله وأقربهم إلى نيل رحمته وعفوه وتكريمه، إنما هو أكثرهم نفعاً للناس، وأشدهم حباً لخلق الله. وقد صور (ص) المسلمين الصادقين بأنّهم كتلة واحدة متماسكة مترابطة تتأثر كلّ ذرة منها بما يصيب الجزء الآخر، وما أبدع هذا التصوير في قوله (ص): "مثل المسلمين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى". هذا هو المسلم الحقّ في نظر (ص)، تنزل المصيبة، في أخيه، فيحزن لها، ويحس معه بالأسى، ويشاركه الألم، ويسعى بدفعها ورفعها إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، أما ذلك الذي لا يهمه الأمر، ولا يأبه للكارثة تقع بأخيه، ومادام هو سالماً فالأمر لا يعنيه، فذلك ميت العاطفة، ضعيف الإيمان، مبتور الصلة بمشاعر الأخوة التي تمزج بين نفوس المسلمين فتجعلهم كالجسد الواحد كما مثَّل الرسول (ص). وإذا كانت تعاليم الرسول (ص) توجب عليك أن يكون فيك هذا الشعور الحي نحو أخيك حين يصاب بأذى أو تحل به كارثة، فمن الطبيعي أن تكون أنت أبعد الناس عن إيذائه وظلمه، بل واجبك أن تسعى لإسعاده، وتأمين راحته، لهذا يقول رسول الإنسانية: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة". وقد عرف المسلمون الأوَّلون هذه التعاليم السامية التي توطد عرا الإخاء، وتخدم الجميع، فكانوا يسعون لتحقيقها، ويعملون على تطبيقها. استمعوا إلى هذا التصوير العجيب لموقع البرّ والإحسان عند الله عزّ وجلّ، يقول تعالى في الحديث القدسي: "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني. فيقول ابن آدم: ياربّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله تعالى: أما علمت أنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدتَه لوجدتني عنده. يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني. فيقول ابن آدم: ياربّ كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ فيقول الله تعالى: أما علمت أنّ عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه؟ ما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني. فيقول: كيف أسقيك وأنت ربّ العالمين؟ فيقول استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي". تأمَّلوا جيداً في هذا المعنى السامي الذي يشير إليه هذا الحديث الجليل، فإنّ الله تعالى مع عباده في كلّ لحظة، وفي كلّ حالة، ولكنه يرفع من شأن البرّ والمعروف الذي يوطد الإخاء بين الناس، ويجعل البر بالناس كأنّه برّ به، وما هو بحاجة البر سبحانه وتعالى إنّه هو الغني الحميد (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15). ومن هنا يتبين أنّ الإخاء والرحمة هما الأصل بالنسبة لمبادئ الإحسان في الدعوة المحمدية، فهي لم تترك سبيلاً من الترغيب والترهيب إلا سلكته لتنطوي النفوس على الإخاء والرحمة، وتنفر القلوب من الأثرة والأنانية. ولمّا كان الإخاء والتآلف من أهم نعم الله على عباده، ومن أنجح الوسائل لسعادة المجتمع، ذكر الله عباده المؤمنين بهذه النعمة، ليستمسكوا بها، ويحرصوا عليها، ويعملوا الأسباب الموصلة إلى استدامتها وبقائها. فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ* وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...) (آل عمران/ 102-103). نعم إنّ تآلف القلوب، ووحدة الصف، وجمع الكلمة، لا يكون إلّا بتوفيق من الله، وهدى منه، (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُم) (الأنفال/ 63).
ارسال التعليق