◄الإنسان في حقيقته وقت، أو أنّ رأس ماله هو الوقت، أو أنّ أثمن شيء يملكه هو الوقت، فهو وقت، وما سمعت تعريفاً جامعاً مانعاً للإنسان كتعريف الحسن البصري (رحمه الله) حين قال: "الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه"، فهو كائن متحرك نحو هدف ثابت، فكلّ دقيقة تمضي تقربه إلى هذا الهدف الثابت. وقد أقسم الله جلّ جلاله بمطلق الوقت، لهذا المخلوق الأوّل رتبةً الذي هو في حقيقته وقت، فقال تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر/ 1-2).
فما معنى الخسارة في الآية؟
مضي الوقت وحده يستهلكه، فلذلك يقسم الله عزّ وجلّ أنّ الإنسان خاسر لا محالة، لأنّ وقته يتلاشى شيئاً فشيئاً. وقد ورد في بعض الأحاديث الصحيحة عن النبيّ (ص): "بادروا إلى الأعمال الصالحة ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلى غِنىً مُطغياً، أو فقراً مُنسياً، أو مَرَضاً مُفسداً، أو هَرَماً مقيِّداً، أو مَوتاً مُجهِزاً، أو الدجال، فالدجال شرُّ غائبٍ يُنتَظَر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرّ". وقال عمر بن عبد العزيز (رض): "الليل والنهار يعملان فيك".
انظر إلى صورتك قبل ثلاثين عاماً، وانظر إلى صورتك بعد ثلاثين عاماً، ستجد أنّ الفرق كبيرٌ جداً، وهذا فعلُ الوقت، فالليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. لذلك هذا الوقت أما أن يُستهلك، وإما أن يُستثمر. فاستثمار الوقت هو البطولة والذكاء والفلاح والتفوق، أما استهلاكه فهو ضيق الأفق والغباء والجهل. يقول رسول الله (ص): "نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ".
وقد كانت المفاهيم العظيمة السابقة عن الوقت وأهميته ماثلة للعيان دوماً في حياة الناجحين من سلف هذه الأُمّة، فقد روي عن ابن مسعود (رض) أنّه قال: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد عملي"، وروي عن الحسن البصري (رحمه الله) قوله: "ما من يوم ينشق فجره إلّا نادى منادٍ من قبل الحقّ: يا ابن آدم، أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة"، ويقول ابن قيم اجوزية (رحمه الله) في كتابه (الجواب الكافي): "فالعارف لزم وقته، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلّها، فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، وإن ضيعه لم يستدركه أبداً. فوقت الإنسان عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر أسرع من مر السحاب. فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته، وإن عاش فيه عاش عيش البهائم. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته". وروى أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة (رحمهما الله): "كان أبو حنيفة يحتضر، فطلب ورقة وقلماً ليحل مسألة، وقال: لو بقي من العمر لحظة لوددت أن أفعل فيها شيئاً ينفع المسلمين أقابل به الله". وقال رجل لابن الجوزي: "اجلس بنا نتجاذب أطراف الحديث. قال: نعم، ولكن أوقف الشمس".
علاقة التنمية بالوقت:
برزت بشكل واضح في أوائل القرن الحادي والعشرين أهمية الوقت في نظريات الإدارة، وارتبط مفهوم إدارة الوقت، بشكل كبير، بالعمل الإداري من خلال وجود عملية مستمرة من التخطيط والتحليل والتقويم لجميع النشاطات التي يقوم بها الإداري خلال ساعات عمله اليومي، بهدف تحقيق فعالية مرتفعة في استثمار الوقت المتاح للوصول إلى الأهداف المنشودة.
فالإدارة العصرية تعتبر الوقت واحداً من عناصر إنتاجها، وأحد خمسة موارد أساسية في مجال الأعمال وهي: الطاقات البشرية، الموارد المادية، المواد الخام، التجهيزات والبنية التحتية، إضافة إلى الوقت الذي يُعدّ أكثرها أهمية، وبالتالي فاستغلاله بشكل منظم ودقيق يفيد من جهة التوفير في تكاليف أي مشروع، ومن جهة أخرى يرفع من قيمة الأرباح، كما أن تسوء استثماره يترتب عليه ارتفاع التكلفة المباشرة.
"فما من حركة تؤدّى إلّا ضمن وقت محدد، وما من عمل يُؤدى إلّا كان الوقت إلى جانبه، فالإدارة حركة وزمن أو عمل ووقت". وهكذا أصبحت التنمية في المقام الأوّل قضية وقت وقضية إنتاج. واندمج المفهومان معاً ليفرزا مفهوم الإنتاجية التي تعني العلاقة بين ما هو منتج والوسائل المستخدمة في عملية الإنتاج.
يقول المفكر مالك بن نبي: إنّ نهضة أي أُمّة من الأُمم مرهونٌ باجتماع مجموعة من العوامل منها: الإنسان والموارد والوقت. ولعلّ حركة التاريخ وسير الأقوام والحضارات السابقة تؤكد أنّ مقياس تقدم الأُمم وازدهار حضارتها ونهضتها هو حسن استغلالها لوقت أفرادها وحسن إدارتهم له.
وإذا نظرنا إلى الأمم الحالية فسنجد أيضاً أنّ العامل الأساس في تقدمها هو أيضاً حسن استغلالها للوقت، واحترامها، إنّ نظرة إلى إنتاجية العامل في إحدى الأمم والتي تبلغ ثماني دقائق في اليوم بكلّ وضوح سبب تخلف هذه الأُمم عن ركب الحضارة، في الوقت الذي تمتلك فيه كلّ إمكانيات النهوض.
طول الوقت وقصره:
إدارة الوقت هي إدارة للفكر والضمير، وهي فوق ذلك إدارة للحياة، لجميع جوانبها وأبعادها. وما أحوج أمتنا لهذه الإدارة وما أحوج شركاتنا ومشروعاتنا لها. فالناجح في إدارة وقته هو الذي يستثمر وقته المتاح في الأمور الهامة ويخطط لهذا الوقت المتاح وهو الذي يسيطر على العوامل التي قد تتسبب في إهدار الوقت. فلا يستطيع الإنسان أن يختار استثماره أم لا يستطيع تعلم كيفية استثماره.
إنّه العنصر الأساسي لجميع أمور الحياة فحياتنا ليست إلّا وقت معلوم ومحدود. ألا يجب علينا إدارة هذا المحدود المعلوم الذي سوف نُسأل عنه. يقول تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24)، فالوقت متاح لنا جميعاً بنفس القدر ولكن المتميز والناجح هو الذي يحسن إدارته ويستفيد وبذلك ينال الفوز بالدارين.
يقول أحد الناجحين رداً على سؤال عن سبب نجاحه في الحياة: "كنت أمتلك أربعاً وعشرين ساعة في اليوم، وكانوا يمتلكون أربعاً وعشرين ساعة أيضاً...".
حقائق عن الوقت:
فيما يلي نتائج لبحث موسع أجري في الولايات المتحدة الأمريكية:
· 20% فقط من وقت أي موظف تستغل في أعمال مهمة مرتبطة مباشرة بمهام الوظيفة وأهداف المؤسسة.
· يقضي الموظف في المتوسط ساعتين في القراءة.
· يقضي الموظف في المتوسط 40 دقيقة للوصول من وإلى مكان العمل.
· يقضي الموظف في المتوسط 45 دقيقة في البحث عن أوراق أو متعلقات خاصة بالعمل.
· يقضي الموظف الذي يعمل في مكتب يتسم بالفوضى 90 دقيقة في البحث عن أغراض مفقودة.
· يتعرض الموظف العادي كلّ 10 دقائق لمقاطعة (محادثة عادية أو هاتفية).
· يقضي الموظف العادي 40 دقيقة في تحديد بأي المهام يبدأ.
· يقضي الشخص العادي في المتوسط 28 ساعة أسبوعياً أمام التليفزيون.
· الوصول المتأخر لمكان العمل 15 دقيقة يؤدي إلى ارتباك اليوم وضياع ما لا يقل عن 90 دقيقة أخرى.
ويمكن إضافة هذه المعلومات لتساعدنا في فهم عملية إدارة الوقت:
· ساعة واحدة من التخطيط توفر 10 ساعات من التنفيذ.
· الشخص المتوتر يحتاج ضعف الوقت لإنجاز نفس المهمة التي يقوم بها الشخص العادي.
· اكتساب عادة جديدة يستغرق في المتوسط 15 يوماً من المواظبة.
· أي مشروع يميل إلى استغراق الوقت المخصص له، فإذا خصصنا لمجموعة من الأفراد ساعتين لإنجاز مهمة معينة، وخصصنا لمجموعة أخرى من الأفراد ساعات لإنجاز نفس المهمة، نجد أنّ كلا المجموعتين تنتهي في حدود الوقت المحدد لها.
· إدارة الوقت لا تعني أداء الأعمال بشكل أكثر سرعة، بقدر ما تعني أداء الأعمال الصحيحة التي تخدم أهدافنا وبشكل فعّال.
فوائد الإدارة الجيدة للوقت:
يمكن تلخيص ما تقدمه الإدارة الجيدة للوقت من فوائد في أنّها تساعد الإنسان على بلوغ أهدافه وتحقيق أحلامه الشخصية، كما تساعده على التخفيف من الضغوط سواء في العمل أو ضغوط الحياة، وتساعده أيضاً على تحسين نوعية العمل وتحسين نوعية الحياة غير العملية، كما تساعده على قضاء وقت أكبر مع العائلة أو في الترفيه والراحة، وكذلك قضاء وقت أكبر في التطوير الذاتي، كذلك تساعده على تحقيق نتائج أفضل في العمل وزيادة سرعة إنجازه وتقليل عدد الأخطاء الممكن ارتكابها، كما تساعده على تعزيز الراحة في العمل، وتحسين إنتاجيته بشكل عام، وبالتالي، زيادة الدخل.
والإنسان الراشد العاقل لا يمكن أن يفرط في وقته، وكلّ إنسان جدير بالثقة، جدير بالتكليف، جدير بالمسؤولية يقدر عن يقين أهمية الوقت واحترامه وحسن استثماره، إذ الوقت في واقع الحال هو الحياة، وقديماً قيل: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"!
ولمن يشكون الملل والفراغ نقول: من المستحيل أن يكون هناك فراغ مع عمل، وصاحب الشخصية السوية المدرك لأبعاد وجوده في الحياة يكون حريصاً على الوقت ومنسجماً مع العمل. أما إذا كان ضعيف الهمة، واهن العزيمة، فيتوهم أنّ إحساسه بالتعب هو من جراء ما يقوم به من عمل خلال يومه، فهذا إسقاط نفسي يتوهمه الشخص الملول، ضعيف الإرادة، مما يولد لديه شعوراً مضاعفاً بالتعب والضغوط العملية والإجهاد.
ومن هذا المنطلق يكون على الإنسان أن ينظر إلى إحساسه بالتعب على أنّه ناتج عن عدم إنجازه لأعماله، وكذلك لا يكون شعوره بالضجر مترتباً عن الأعمال والمهام التي يقوم بها، أو بسبب قلة النوم والراحة – كما هو الاعتقاد الشائع لدى الكثيرين – فساعة واحدة من الراحة أو الاسترخاء كفيلة بتبديد التعب الجسدي أما التعب النفسي فيبقى عالقاً على الرغم من ساعات النوم الطويلة، وأهم دلالة على ذلك هي أنّ الشخص قد يستيقظ صباحاً ولديه نفس الشعور.
ويختلف الوقت عن المال فإذا كان المال يُدخر ويُقايض وقد يُعوَّض إذا أُهدر، فإنّ الوقت لا سبيل لإدخاره أو مقايضته أو استرجاعه، إضافة إلى ذلك: فإنّ الوقت هو المورد الوحيد الذي نُرغم على صرفه سواءً أردنا أم لم نرد!
أليس هو مادة الحياة ومعنى الوجود؟►
المصدر: كتاب مهارات إدارة وتنظيم الوقت
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق