• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الطفل والضحك.. مظاهر نمو وإرتقاء

د. بركات محمد مراد

الطفل والضحك.. مظاهر نمو وإرتقاء

◄الضحك والفكاهة تمثل مظهراً من مظاهر الوجود الإنساني، وهي مظهر إيجابي، فهي موجودة في حياتنا كلها، لدى الأطفال ولدى الكبار، في حالات الفرح والترويح، وفي حالات المشقة والأزمات النفسية. ويتمثل الرأي الغالب في علم النفس الآن في النظر الى الفكاهة، على أنها أحد أساليب المواجهة Coping Styles التي تستعين بها المجتمعات في مواجهة بعض مشكلاتها السياسية والاقتصادية.
ويؤكد كثير من الأطباء على إن الضحك والفكاهة لايفيد في مواجهة الضغط النفسي فقط، بل يعمل أيضاً على تنشيط الجهاز المناعي، والحد من آثار الشيخوخة، والتقليل من احتمالات الإصابة بالأزمات القلبية، وتحسين الوضع النفسي والجسمي للإنسان بشكل عام، مما يجعله أكثر تفاؤلاً، وأكثر إقبالاً على العمل، وعلى الحياة بشكل عام.

وهذا ما دعا الأديب الفرنسي "رابليه" الى القول إن :"الضحك هو الخاصية المميزة للإنسان" والفكاهة "رسالة إجتماعية مقصود منها إنتاج الضحك، أو الابتسام". ومثلها مثل أي رسالة إجتماعية أخرى تحقق الفكاهة بعض الأهداف أو الوظائف، وتستخدم بعض الأساليب وتكون لها بنيتها الخاصة، ومحتواها المميز لها أيضاً، كما أنها تستخدم في مواقف معينة لها طبيعة خاصة.
الطفل والابتسامة: يقول الكاتب شاكر عبدالحميد في كتابه "الفكاهة والضحك" إنه عقب الولادة، وبعد اثنتي عشرة ساعة تقريباً قد تظهر على وجه الرضيع الصغير النائم مايشبه الابتسامة، إنها ليست إبتسامة كاملة، بل ظل إبتسامة، ويظهر هذا الطفل إستجابة لعدد كبير من المثيرات الغامضة التي تتوارد على حواسه، أو كحركة لاإرادية في بعض عضلات الوجه. لكن، عند الأسبوع الرابع تقريباً، يميل ظل الإبتسامة هذا الى الحدوث كإستجابة للصوت الإنساني، وصوت الأم خاصة، كما أن إبتسامات الطفل تميل هنا أيضاً الى أن تكون ذات أثر إجتماعي، إنه يؤثر بالبسمة في الآخرين، ويتأثر بإبتساماتهم أيضاً.
ويلخص لنا الدكتور شاكر عبدالحميد خلاصة الدراسات التي أجريت على إبتسامات الطفل الصغير وهي:

1- إن الأطفال الصغار يبتسمون للأم أكثر من إبتسامهم للغرباء.
2- ويبتسمون للوجوه المتكلمة أكثر من الوجود الصامتة.
3- ولأشكال الوجوه العمودية أو ذات الاتجاه القائم أكثر من الوجوه المائلة.
4- ولوجوه الإناث أكثر من وجوه الذكور.
ومن الملاحظ أنه عند الشهر العاشر يستجيب الطفل بالضحك عند رؤيته للوجوه المضحكة الخاصة بوالديه أو بغيرهم من الكبار، حتى عندما يرتدون أقنعة مضحكة مثلاً. فعند نهاية السنة الأولى يضحك الأطفال من السلوكيات غير المألوفة من جانب الكبار عندما يكون هؤلاء الأطفال موجودين في بيئة آمنة.
وعلى ألفة بالأشخاص المحيطين بهم، والذين يقومون بسلوكيات مضحكة. أما البيئات غير الآمنة والوجوه الغريبة فلن تضحكهم بل سترفع من مستوى خوفهم.
الطفل والضحك، يبدأون بالضحك الفعلي بصوت مرتفع عند الأسبوع التاسع، وغالباً ما يرتبط الضحك بالدهشة، أو ببعض المشاعر الأخرى المثيرة للإبتسام، أو الضحك، وفي الفترة من الشهر الرابع الى السادس يستجيب الطفل للأصوات وعمليات التنبيه الجسمي له.
إن تقبيل بطنه ولمس باطن قدميه بنعومة سيجعلانه يضحك بطريقة واضحة. وعند الشهر الثامن سيضحك الطفل على نحو متكرر، إستجابة لألعاب المفاجآت التي يبدأها الوالدان، كما أنه يضحك في هذه السن إستجابة للسلوك غير المألوف من الكبار، مثل حبو الوالد على الأرض مثلاً.
ولعل أبسط المثيرات الخاصة بالضحك لدى الأطفال هي الدغدغة Tickling حيث يشعر الطفل بوجود تنبيه في سطح جلده وما يرتبط هذه العملية أصوات مألوفة للطفل ذات صبغة أو ظلال مطمئنة، فإن هذا التحول في المدخلات الحسية سيكون ساراً بالنسبة إليه، ويكون الضحك تعبيراً عن هذه المتعة أو هذا السرور.
من المواقف التي تستثير ضحك الأطفال كذلك مايحدث عندما يقوم أحد الراشدين بقذفه في الهواء الى أعلى، ثم يتلقاه بذراعيه، ويكرر ذلك عدة مرات، هنا يضحك الطفل ضحكاً ممزوجاً بالخوف. وهنا تلعب المفاجأة دورها أيضاً في حدوث الضحك، فالطفل لايعرف متى سيقذف به في الهواء.

إن ما يماثل النشاطات السابقة من الدغدغة، وإلقاء الطفل في الهواء. والظهور والأختفاء للوجوه والأشياء، وألعاب المفاجآت، وما يماثلها لدى الكبار هو مايحدث في ألعاب السحر والخداع، وخفة اليد، في مدن الملاهي، والسيرك، وعلى الآلية نفسها تتحرك النكتة على المستوى اللفظي، وتتحرك أشكال عديدة من الفكاهة على مستوى فكاهة "المحال إليه" أو مستوى الفكاهة البصرية.
ارتقاء الضحك لدى الطفل
يعد العالم النفساني الأمريكي "بول ماكجي" P.Mc Ghee أشهر من قام بدراسة نمو سلوك الفكاهة والضحك لدى الأطفال.
وقد اقترح "ماكجي" وجود أربع مراحل أساسية لإرتقاء قدرة متزايدة لدى الأطفال لإدراك التناقضات أو مظاهر عدم الإتساق أو التفاوت مع المعايير والمدركات المألوفة.
إذن، ومع إرتقاء اللعب الإيهامي أو التخيلي لدى الأطفال خلال السنة الثانية من أعمارهم، يتقدم هؤلاء الأطفال عبر سلسلة من المراحل الخاصة بإرتقاء الفكاهة لديهم.
وقد وصف ماكجي هذه المراحل وإعتبرها مراحل ثابتة نسبياً في رأيه، لأنها تقوم على أساس تتابع مماثل في الإرتقاء المعرفي العام لدى الطفل. وتتفق هذه المراحل الأربع التي يقترحها مع عمليات الإرتقاء المعروفي التي يقترحها "بياجيه" منذ السنة الثانية حتى سن السابعة أو الثامنة من العمر.
خلاصات
1- تكون للفكاهة والضحك خلال مرحلتي الرضاعة المبكرة ثلاث وظائف رئيسة هي:
أ‌- الحفاظ على الطفل حياً من خلال مساعدته عن طريق الابتسام والصراخ مثلاً، وعلى الحفاظ على علاقات مع الوالدين تسهم في إشباع حاجاته الأساسية للطعام والدفء والرعاية.
ب‌- تيسير حدوث العلاقات الإجتماعية بين الطفل ووالديه وأقرانه بعد ذلك.
ج- مساعدته على الانتقال الفعال داخل البيئة، وبما يتجاوز حدود السياق الأسري المباشر عن طريق إقامة علاقات تقوم على أساس الضحك واللعب وتبادل المواقف المضحكة، والتفاعل من خلالها.
2- يظهر مايشبه الابتسام على وجه الطفل بعد نحو اثنتي عشرة ساعة من ولادته.
3- تحدث الاستجابة للصوت الإنساني في الأسبوع الرابع، وبعد ذلك بقليل يظهر إنجذاب الطفل الى الوجه الإنساني.
4- تظهر أول إبتسامة إجتماعية لدى الطفل خلال تفاعله مع أمه بعد شهرين من ولادته.
5- تظهر أولى علامات الضحك عند نهاية الشهر الأول بعد الولادة، أما الضحك الفعلي فيبدأ عند الأسبوع التاسع (أو مع بداية الشهر الثالث من العمر).
6- يستمتع الأطفال الصغار برؤية الأشياء أو الكائنات وهي موجودة في نشاطات متناقضة على نحو يثير الدهشة (مثلاً: رؤية كلب يرتدي قبعة)، في حين يستمتع الأطفال الأكبر بفكاهات المعاني المزدوجة والتوريات الخاصة في الكلمات والألغاز.
7- مع تزايد النمو يتسع مدى الأشياء التي يستمتع بها الأطفال، ويضحكون منها، من دون أن يسقطوا من حساباتهم أيضاً الأنماط المبكرة من الفكاهة.
8- يكون المناخ الشبيه باللعب، والاتجاهات الخاصة بالتخيل أو الخيال، وكذلك إدراك الطفل لأن المادة التي تقدم له في شكل بصري أو لفظي، إنما هي مغايرة نوعاً لمادة الواقع، وقابلة للإدراك والفهم من خلال آلية "التمثل التخيلي" وليس آلية "تمثل الواقع"، يكون لذلك كله دوره الكبير في إدراكه للفكاهة وحدوث الضحك لديه.
9-  يتفق الباحثون في مجال ارتقاء الفكاهة لدى الأطفال على أن الأساس المعروفي للفكاهة إنما يكمن في مفهوم "التناقض في المعنى" وهو المفهوم الذي يعرف بأنه صراع بين "مايتوقعه" شخص ما و"مايدركه" حقاً.
10-  يشتمل ارتقاء الفكاهة لدى الأطفال على نمو معروفي خاص عبر مراحل متتالية ومتكاملة تصبح خلالها التوقعات مركبة (معقدة) على نحو متزايد، كما أنها تشتمل عبر مراحل النمو المبكرة.
11-  تزدهر الفكاهة مثل اللعب في المواقع والمواقف الآمنة، ويكون لعوامل مثل الألفة الخاصة بالبيئة، وبالأشخاص الموجودين فيها، تأثير واضح في الفكاهة التي يعبر عنها، أو يجرب تذوقها أيضاً.
12-  للفكاهة كسلوك إجتماعي قيمة بقائية (أي قيمة الحفاظ على الحياة) بالنسبة الى الطفل (أو الراشد) فهي تعزز الارتقاء المعرفي واللغوي لديه ومن ثم تزيد من تكيفه مع البيئة، وتيسر عمليات التفاعل الاجتماعي بالنسبة الى الآخرين. وتسهم في تكوين جماعات الأقران، وفي تزايد الشعور بالانتماء الى هذه الجماعات أيضاً.
وفي ضوء هذا، هناك أساس قوي لفهم عملية الاستمتاع بفكاهات الازدراء أو التحقير، فالأطفال يجدون النكات التي تسخر من الكبار وتجعلهم ضحايا أكثر إقناعاً أو طرافة من التي تسخر أو تضحي بالأطفال أمثالهم، في حين يجد الراشدون النكات التي تجعل من الأطفال أو المسنين ضحايا أكثر طرافة، ويجد الوالدان النكات التي يكون الأطفال هم ضحياها أكثر إمتاعاً من التي تجعل الوالدين ضحايا.►

ارسال التعليق

Top