الكلمة تلك الأداة والوسيلة المُعبِّرة عمّا يريد الإنسان الإفصاح عنه، فهي أداة التخاطب والتفاهم بين الناس، ونقل المعلومات والأفكار والتعبير عن المشاعر والعواطف، وما حوى الضمير والوجدان. هي أداة هامة من أدوات التواصل الاجتماعي وبناء العلاقات الإنسانية، كما هي أداة خطيرة من أدوات الهدم والتخريب، وبث الكراهية وزرع القطيعة. فعن طريق الكلمة يتفاهم الناس، ويُعبِّر كلّ منهم عمّا يريد إيصاله إلى الآخرين، أو الحصول عليه منهم، لا سيّما اكتساب المعرفة. ولذا نجد القرآن الكريم يُذكِّر الانسـان بهذه النعمة العظيمة التي لا يدرك الكثيرون قيمتها، نعمة (البيان) والإفصاح عمّا يريد بكلمات يفهمها الآخرون، يقول تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 1-4).
حرص القرآن الكريم على ثقافة الكلمة، وكيفية إطلاقها وتوظيفها في مجال الخير والبناء والتواصل الإيجابي بين الناس، لتكون الجسر والرابط الاجتماعي بينهم. من هنا جاء الوصف النبويّ لهذه الكلمة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الكلمةُ الطيِّبةُ صدقةٌ». والقرآن يدعو إلى الكلمة الطيِّبة والقول الحسن السديد، وينهى عن إطلاق الكلمة الخبيثة التي تزرع الحقد والكراهية والضلال وتباعد بين الناس، أو تُسيء إلى الإنسان. من تلك المفاهيم البنّاءة في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ (إبراهيم/ 24). الكلمة الطيِّبة ليست مجرّد كلمة يطلقها اللِّسان، وإنّما هي كلمة هادفة تبتغي الإصلاح، وذلك قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) (النساء/ 114). إنّ مجال الكلمة الطيِّبة ليس فقط الكلمات التي نتبادلها في اللقاء المباشر، وإنّما تشمل أيضاً الكلمة الهادية الهادفة المُصلِحة. كما تتضمّن كذلك التعليم والتربية والتهذيب التي تُساعد الآخرين على الخروج من ظُلمات الجهل إلى نور العلم، وتشمل أيضاً كلمات الدفاع عن الحقّ والحرّية. من أجل ذلك رفع الله تعالى قيمة الكلمة الطيِّبة (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر/ 10). وإنّما صعدت الكلمة الطيِّبة ورُفع العمل الصالح لأنّ كلاً منهما يصبّ في بحر رضا الله. ولا شكّ أنّ الكلمة التي في سبيل الله، والعمل الذي في سبيل الله، هو عمل للأُمّة وفي خدمتها، ذلك أنّ المراد من مصطلح (سبيل الله)، هو خدمة عيال الله، وهم الإنسانية كلّها. وبالتالي فإنّنا نفهم أنّ العمل الصالح ليس فقط طقساً عبادياً أو شعيرة من شعائر الإيمان يؤدِّيها الإنسان المؤمن، فيحصل ثوابه من الله سـبحانه وتعالى، وإنّما هو عمل له مردودات اجتماعية أيضاً.
دعوة أخرى يوجّهها القرآن لتوظيف الكلمة في الإصلاح والتفاعل الإنساني في البناء، قوله تعالى: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ (النساء/ 114). أيضاً توجيهاً قرآنياً آخر يثبت منهج التخاطب ومكالمة الآخر، يقول تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة/ 83). يُفسِّر الإمام الباقر (عليه السلام) هذه الآية بقوله: «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يُقال لكم». ويُشدِّد القرآن على كلّ ذلك ليتعارف الناس ويتواصلوا ويتفاعلوا تفاعل خير بينهم؛ لبناء مجتمع متحاب متماسك متفاهم. كلّ ذلك ليتعامل الناس في الأسرة ومؤسسات الدولة والعمل والأسواق وغيرها، ليتعاملوا بالكلمة الطيِّبة والقول الحسن.
للكلمة أثرها ومردودها على الناطقِ بها نفسه، إنْ خيراً فخير، وإنْ شرّاً فشر.. فهو الذي يجني نتائج الكلمة وحصادها الطيِّب والخبيث، ويتحمّل مسؤوليتها في الدنيا والآخرة.. فكم من كلمةٍ خبيثةٍ تسبَّبت بفتنة وهدمت أُسراً وعوائل، وأصبحتِ العداوة والبغضاء بين هذا وذاك، وقادتِ الكثير من الناسِ إلى الهلكةِ والدمار.. فكم من مخدوعٍ أصغى إلى ما يلقى إليه من زخرفِ القولِ فتقبله وخدع به فأصبح ضحية الكلمة المظللة الخبيثة.. إنّ ثقافةَ القرآن تزيد الإنسان وعياً، وتحذِّره من الاستماع وتقبل الكلمة المنمقة الخبيثة، التي تقوده إلى الدمار والضلال والانحراف العقيدي والسلوكي أو تلك التي يضرُّ بها الناسَ ويؤذيهم بالباطلِ والفسادِ والعدوان. هدانا القرآن إلى الحقِّ بقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) (الأنعام/ 112-113).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق