فالأوّل حضور القلب ونعني به أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به فيكون العلم بالفعل والقول مقروناً بهما ولا يكون الفكر جارياً في غيرهما ومهما انصرف الفكر عن غير ما هو فيه وكان في قلبه ذكر لما هو فيه ولم يكن فيه غفلة عنه فقد حصل حضور القلب.
ثمّ التفهم لمعنى الكلام، وهو أمر وراء حضور القلب فربما يكون القلب حاضراً مع اللفظ ولا يكون حاضراً مع معنى اللفظ فاشتمال القلب على العلم بمعنى اللفظ هو الذي أردنا بالتفهم، وهذا مقام يتفاوت فيه الناس، إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات، وكم من معاني لطيفة يفهمها المصلّي في أثناء الصّلاة ولم يكن قد خطر بقلبه قبل ذلك، ومن هذا الوجه كانت الصّلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فإنّها تفهم أموراً تلك الأمور تمنع عن الفحشاء والمنكر لا محالة.
ثمّ التعظيم وهو أمر وراء حضور القلب والتفهم، إذا الرّجل ربّما يخاطب غيره بكلام هو حاضر القلب فيه وهو متفهم لمعناه، ولا يكون معظماً له.
ثمّ الهيبة وهي زايدة على التعظيم إذ هي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم لأنّ من لا يخاف لا يسمى هايباً، ثمّ كلّ خوف لا يسمى مهابة بل الهيبة خوف مصدرها الاجلال.
ثمّ الرجاء فالعبد ينبغي أن يكون راجياً بصلاته ثواب الله كما أنّه خائف بتقصيره عقاب الله.
ثمّ الحياء ومستنده استشعار بتقصير وتوهّم ذنب ولنذكر أسباب هذه المعاني الستة.
فاعلم أنّ حضور القلب سببه الهمّة فانّ قلبك تابع لهمّتك فلا يحضر القلب إلا فيما يهمّك، ومهما أهمّك أمر حضر القلب شاء أم أبى، فهو مجبول عليه ومسخّر فيه والقلب إذا لم يحضر في الصّلاة لم يكن متعطّلاً بل كان حاضراً فيما الهمّة مصروفة إليه من أمور الدنيا، فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمّة إلى الصّلاة والهمّة لا ينصرف إليها ما لم يتبيّن أنّ الغرض المطلوب منوط بها، وذلك هو الإيمان والتصديق بأنّ الآخرة خير وأبقى وأنّ الصلاة وسيلة إليه فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهامتها حصل من مجموعهما حضور القلب في الصّلاة.
وأمّا التفهم فسببه بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى وعلاجه ما هو علاج إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لرفع الخواطر الشاغلة، وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع موادّها أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها، وما لم ينقطع تلك الموادّ لا ينصرف عنها الخواطر، فمن أحبّ شيئاً أكثر ذكره، فذكر المحبوب يهجم على القلب بالضرورة، ولذلك ترى من أحبّ غير الله لا يصفو له عن الخواطر.
وأمّا التعظيم فهي حالة للقلب تتولد من معرفتين: إحداهما معرفة جلال الله وعظمته وهي من أصول الإيمان، فإنّ من لا يعتقد عظمته لا تذعن النفس لتعظيمه الثانية معرفة حقارة النفس وخسّتها وكونها عبداً مسخراً مربوباً حتى يتولّد من المعرفتين الاستكانة والانكسار والخشوع لله، فيعبّر عنه بالتعظيم، وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلالة الرب لا ينتظم حالة التعظيم والخشوع، فإنّ المستغني عن غيره الآمن على نفسه يجوز أن يعرف من غيره صفات العظمة، ولا يكون الخشوع والتعظيم حاله، لأنّ قرينته الأخرى وهي معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه.
وأمّا الهيبة والخوف فحالة للنفس يتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته ونفوذ مشيته فيه، ومع قلة المبالاة به وأنّه لو أهلك الأوّلين والآخرين لم ينقص من ملكه ذرّة، هذا مع مطالعة ما يجري على الأنبياء والأولياء من المصايب وأنواع البلاء مع القدرة على الدفع، وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة.
وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله وكرمه وعميم إنعامه ولطايف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنّة بالصلاة، فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة.
وأمّا الحياء فباستشعار التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حقّ الله ويقوي ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وخبث دخلتها وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعاله مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله، والعلم بأنّه مطلع على السّريرة وخطرات القلب وإن دقت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت يقينا انبعث فيها بالضرورة حالة تسمى الحياء. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق