• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإيمان والعمل الصالح

مُرتضى مطهري

الإيمان والعمل الصالح

◄يزخر القرآن الكريم ببعض العبارات ذات الدلالة والأهمية الخاصّة، ومن هذه العبارات: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (البقرة/ 82).

إنّ إقران الإيمان بالعمل الصالح دائماً إنما يشير إلى الأهمية التي يوليها القرآن الكريم إلى هذه المسألة باعتبارها قاعدة تنهض عليها السعادة الإنسانية، وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ الإيمان الذي يدعو له القرآن هو الإيمان بالذات المقدسة التي هي أساس الإيمان بجميع حقائق العالم.

وينبغي هنا أن أشير إلى جملة أمور:

الأوّل: أنّ الإيمان ركن رئيسي في حياة الإنسان، أي أن يعتقد بشيءٍ ما يعتبره حقيقة عليا ينقاد لها ويعتمد عليها، وإنّ من أسوأ حالات الإنسان هي عجزه عن الإيمان بحقيقة معيّنة وفي هذه الحالة سيصبح مشوش الأفكار والمشاعر وسيكون العالم في نظره مشوشاً وصورة منعكسة لأفكاره المضطربة.

الثاني: من الأفضل أن يكون بشيء مقدّس وسامٍ بحيث يخضع الإنسان له ويضحّي من أجله، وبعبارة أخرى من الأفضل أن يمتلك الإنسان في هذه الدنيا عقيدة يدافع عنها ويستلهم سلوكه منها، لا أن يبقى مذبذباً ومضطرباً، ولكن ليست كلّ العقائد والمبادئ مقدّسة وليست كلّ العقائد تستحق التضحية في سبيلها، هناك الكثير من العقائد والمذاهب لا تتعدّى المصالح الشخصية والأنانية، ومن الطبيعي إذا كانت العقيدة تدور في فلك المصلحة الشخصية وتستمد جذورها من عبادة الأنا أن لا تستحق من الإنسان التضحية في سبيلها. إنّ التضحية من أجل هكذا عقائد ومذاهب تنطلق من لا شيء هو مجرد جنون.

إنّ العقيدة التي تستحق من الإنسان أن يجاهد في سبيلها ويضحّي من أجلها ينبغي أن تكون فوق جميع المصالح الفردية المادية.

الثالث: ينبغي أن يؤمن الإنسان بشيء يسمو فوق جميع المقدسات بحيث يكون الإيمان به إيماناً بجميع الحقائق.

لقد أثبت الفلاسفة الآلهيون بأنّ "الذات الأحدية هي منشأ جميع الحقائق" فإذا كان الإيمان خالصاً فإنّه سيكون إيماناً بجميع الحقائق ذلك أنّها تنبعث من ذاته المقدسة وتنهل من فيض نبعه الأزلي.

يعبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) (البقرة/ 147)، ولم يقل الحقّ مع ربك، فالله أسمى من أن نقول أنّه مع الحقّ بل هو الحقّ وكلّ حقٍّ إنما ينبع من ذاته المقدسة.

إنّ الإيمان الذي يشير إليه القرآن هو الإيمان بالله الذي يعني الإيمان بالعلم والحكمة والقدرة والنظام والتدبير والعدالة.. الإيمان بأنّ كلَّ ما في هذا العالم حقّ.

وأما الركن الثاني هو العمل، والمراد هنا العمل الصالح وليس مطلق العمل.

الإنسان يتألف من روح وجسد، من قلب وقالب، وعليه ينبغي أن يكون الإيمان في القلب لكي لا يبقى حيراناً ضائعاً، فتطمئن روحه، وفي جانب البدن ينبغي أن يكون كالشجرة المحمّلة بالثمار.

عالمنا عالم متحرك، عالم عمل ونشاط، من أكبر المجرّات في السماء إلى أصغر الذرات وأدقّها والتي تمكّن الإنسان من اكتشافها، كلّ شيء في حالة عمل وحركة ونشاط، لا توجد ذرة واحدة أو قطرة واحدة دون عمل.

الإنسان هو الآخر لا يستثنى من هذه القاعدة العامّة. إنّ الإنسان وبحكم الضرورة لا يتوقف عن العمل، فالروح والمخّ في حالة عمل مستمر وفي حالة من الحركة المتواصلة، انتقال من خاطرة إلى أخرى ومن تصور إلى آخر، حتى في حالة النوم حيث يبدو المخ في استراحة ظاهرة فهو في حركة ونشاط مستمرين، كذلك الجسم فهو في حالة من النشاط الدائب، إذ لا مفرّ من رؤية الأشياء والنظر إليها، ومن الاستماع إلى الأصوات المختلفة، غير أنّ دائرة عمل الإنسان أوسع لأنّه كائن يتمتّع بالحرية والاختيار، فهو من ناحية يمكنه أن يكون مفيداً في عمله، ويمكنه كذلك أن يكون مدمّراً. يمكنه أن يخطو في طريق الكمال والسعادة لنفسه والآخرين، ويمكنه السير في طريق الشقاء، ولهذا فهو يحتاج إلى هداية وإرشاد، وإلى من يقول له أنّ عمله ينبغي أن يكون صالحاً.

فلو تركت الروح لحالها فإنّها ستعيش خواطر الماضي وتتحرك في إطارها كما لو أنها تدور في فلك ثابت لا تتقدم فيه نحو الأمام خطوة واحدة، ولكنها لو وجّهت فكرياً وأضحى عملها مفيداً بحيث تنتج أفكاراً جديدة ومفيدة، وأصبحت مصداقاً لحديث الرسول الأكرم (ص): "تفكّر ساعة خير من عبادة ستين سنة" كان عملها صالحاً.

إنّ الإنسان لا يمكنه البقاء عاطلاً عن العمل روحاً وجسماً، وإذن عليه أن يسعى في أن يكون عمله صالحاً، فالقرآن الكريم لم يذكر العمل مطلقاً بل قرنه دائماً بالصلاح (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (البقرة/ 277).

وإذن فإنّ السعادة الإنسانية تقوم على ركنين: الإيمان والعمل، ليس مطلق الإيمان وليس مطلق العمل، بل الإيمان بأقدس وأسمى الحقائق، التي يكون الإيمان بها إيماناً بجميع الحقائق، وهو الإيمان بالذات الأحدية التي هي مبدأ العلم والقدرة والنظام والحكمة والحياة والسعادة، ومن ثمّ العمل الصالح الذي يدفع بالإنسان نحو الأمام في طريق التكامل والسعادة. ►

 

المصدر: كتاب سلوك وأخلاق الإسلام

ارسال التعليق

Top