يتخذ الحوار في القرآن الكريم من حيث حضور مادته أشكالاً تعبِّر عنها مواد لغوية منها: "حور"، "حجج"، و"جدل"، و"قول"، وسنتتبع هذه المواد واحدة بعد الأخرى:
1- الحوار: وردت مادة "حور" بالمعنى الذي قصدناه آنفاً في القرآن الكريم ثلاث مرات بصيغتين: الصيغة الأولى "يحاوره" وردت مرتين في: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف/ 34)، وفي (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا) (الكهف/ 37). والصيغة الثانية "تحاوركما"، وقد وردت مرة واحدة في (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة/ 1). وردت الأولى في سورة الكهف في وصف لشكل تواصلي بين صاحبي الجنتين، سياقه كما يلي: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا) (الكهف/ 32-41). إنّ الأمر يتعلق أوّلاً بكلام متبادل بين شخصين لكل منهما وجهة نظره وتصوره، وسمي فعل الأوّل تحاوراً مع أنّه هو المبتدئ فدل ذلك على أنّ الحوار ليس جواباً فقط، بل كلام قصده التجاوب، والكلام هنا لا علاقة له بالقوة، بل اقتصر على وجهات نظر، فهناك قول وقول مضاد، والحوار خال من الاستفزاز وجرح المشاعر، والمحاور الثاني يستخدم استدلالاً عقليّاً، ومع ذلك لم يذكر لنا القرآن الكريم أنّ الآخر قد اقتنع به، بل ذكر لنا أنّه تراجع عن رأيه تحت وطأة الواقع والتجربة، وكأنّ الخطاب القرآني هنا يقول لنا: منكم الحوار، ومن الله التوفيق، فإذا لم تتحقق النتيجة المرجوة من الحوار فالواقع كفيل بإظهارها ولو بعد حين، كما أن عدم اقتناع الآخر لا يبرر لنا إطلاقاً الإساءة إليه، أو إلى معتقده، أو إرغامه على ذلك، بل لابدّ من التعامل معه باللين والحجة، ثمّ نتركه يدير عقله في الموضوع ويستعين بفقه الواقع في اتخاذ القرار. ومنهج الرجل المؤمن قائم على بيان عنصر القوة في معتقده، وهي من غير شك وبشكل غير مباشر تنسف معتقد الآخر كاملاً لكن بأسلوب لبق بعيد عن الرد المباشر، وخال من التجريح والتحقير. ومسألة أخرى مهمة في النص السالف الذكر تكمن في أنّ الله – عزّ وجلّ – وصفهما بالصاحبين، والصحبة هنا بين شخصين لهما تصور مختلف للحياة، ولم يقتض ذلك قط نفي العلاقة الاجتماعية المعبر عنها بالصحبة، نفهم من هذا أن تعدد وجهات النظر وإن تناقضت ومست العقيدة لا تمنحنا الحق في إعلان القطيعة بيننا وبين مخالفينا، بل تجعل الصحبة ممكنة، غير أنّ الصحبة ينبغي أن لا تكون خالية من حوار عن المعتقدات والتصورات في إطار احترام متبادل، وقول لين، وبناء على استدلال واحتجاج. وورد لفظ "تحاوركما" في سياق مختلف تماماً، فهو أوّلاً – وهذا له دلالته – وارد في سورة اسمها "المجادلة"، وبين الحوار والمجادلة علاقة سنراها قريباً. وهو ثانيّاً بين رجل هو النبي (ص) وامرأة هي خولة بنت ثعلبة. وهو ثالثاً في شأن قول زوجها لها: "أنتِ عليَّ كظهر أمي" مما يعرف بالظهار. ثمّ هو رابعاً حوار خافت لم تسمعه حتى أم المؤمنين عائشة مع أنّه كان في ركن من بيتها، فدل هذا على أنّ الحوار ليس شرطه رفع الصوت، بل شرطه سماع المعنيين به، وأما غير المعنيين فأمر إسماعهم متعلق بتقدير مصلحة ذلك من المعنيين، وهذه قاعدة مهمة وجليلة. ومع أن خولة كانت تجادل محمداً (ص) في زوجها، وقد عبَّر القرآن الكريم عن ذلك بلفظ (تُجادِلُكَ) فإنّه قد سمى العملية كلها بما فيها كلام خولة وكلام النبي (ص) تحاوراً، فدل ذلك على أنّ الحوار قد تتخلله مجادلة، وليس في ذلك أي عيب ما دام قائماً على الاحترام ولين القول. النتيجة السابقة تفيد أننا ملزمون بتتبع مادة أخرى إن نحن فعلاً أردنا الإحاطة بالحوار في القرآن الكريم هي ما يتعلق بمادة "جدل" واشتقاقاتها، والأمر لا يتعلق بهذه المادة وحدها، مثلما لا يتعلق بمادة الحوار وحدها، بل هناك مواد أخرى ينبغي فهم الحوار على ضوئها منها "الحجاج"، و"القول" كما قلنا سابقاً. 2- الجدال: الجدال في اللغة: "استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة ومراجعة الكلام"، وهو كذلك في القرآن الكريم؛ إذ يرد بمعنى "مراجعة الكلام بإحكام على سبيل المنازعة والمغالبة"، غير أننا نجد في القرآن الكريم آيات تأمر به وأخرى تنهى عنه، وذلك دال على أنّ يتخذ شكلين: - محموداً: يتمثل في الجدال في الجدل بالحق لإحقاق الحق، كما يفهم من قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125). - مذموماً: يتمثل في الجدل بالباطل لدحض الحق، كما يفهم من قوله تعالى: (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (غافر/ 4). 3- الحجاج: مادة "حجج" في اللغة أربعة أصول منها القصد، ومن بابه – حسب ابن فارس – المحجة أي: جادة الطريق، والحُجة؛ لأنّها تقصد، وبها يقصد الحق المطلوب. يقال: حاججت فلاناً فحججته، أي: غلبته بالحجة، وذلك الظفر يكون عند الخصومة، والجمع حُجج، والمصدر: الحجاج. وبين المحجة والحجة والاحتجاج علاقة وطيدة؛ إذ الحجة هي "الدلالة المبينة للمحجة"، والمحاطة "أن يطلب كل واحد أن يرد عن الآخر حجته ومحجته"، وبذلك يظهر أنّ المحجة هدف، والحِجاج وسيلة، والحجة تصدق ذلك أو تكذبه. والحجاج القرآني "استخدام الدلائل العقلية والعملية والواقعية والبينات القرآنية والكونية في الأنفس والآفاق إقناعاً بدين الإسلام وبقضايا الإيمان بالله ولقائه ورسله وجزائه، وقضايا الآخرة بعثاً وحشراً ونشراً وعرضاً وحساباً ومصيراً"، عُبر عنه بأشكال وأساليب "تروم الحوار تهدف إلى الإقناع بالبراهين والأدلة العقلية والكونية والفطرية"، وقد جمع القرآن الكريم كل تلك الدلالات في ضميمة جامعة هي: "الحجة البالغة". والحجاج في القرآن الكريم ثلاثة أنواع: - حجاج قاد إليه الكفر والنفاق والهوى... منه المكابرة والمنازعة والمراء ولدد الخصومة واللجاجة. - حجاج دفع إليه الاسترشاد وحب الاستطلاع، ورد على لسان إبراهيم (ع). - حجاج دفع إليه الحق والهدى ويدخل فيه الجدل القرآني. 4- القول: وردت مادة "قول" بصيغها المختلفة في القرآن الكريم (1721) مرة موزعة على 51 صيغة، وهي دالة على "الحوار بالفعل" في حال دورانه بين مجموعة من الأطراف، ومن ثمّ فهذه المادة دالة وحدها كميّاً على ثراء في حضور الحوار فعلاً أكثر بكثير من حضوره تنظيراً، وكأنّ الرسالة القرآنية هنا هي أنّ التنظير للحوار ليست له الأهمية لممارسة الحوار، وأن درس الحوار إنّما يؤخذ بالممارسة الميدانية لا من بطون الكتب، وإن كان ذلك لا يمنع ضرورة التوفر على حد أدنى من الضوابط المتعلقة بالتصور العام للحوار من حيث أهميته ووظيفته وأفقه. ودلالة الرقم السالف تتضح أكثر إذا ما قارناها بالعدد الإجمالي لعدد كلمات القرآن الكريم التي تتراوح بين (76000، 79277)؛ إذ تمثل وحدها ما بين (2026، 2017) في المائة من مجموع ألفاظ القرآن الكريم، وهي نسبة عالية دالة على أنّ القرآن الكريم كتاب الله تعالى كتاب وارد بالمقام الأوّل، وهو كتاب ممارسة للحوار أكثر من أن يكون كتاب تنظير للحوار، وذلك يتضح من خلال جرد لشبكة العلاقات الحوارية في القرآن الكريم، ومن نماذجها: أ- حوارات الله – عزّ وجلّ - أ- مع الملائكة. ب- مع إبليس. ت- مع آدم وحواء. ث- مع موسى (ع). ج- مع عباده يوم الحساب. ب- حوارات إبليس: أ- مع ربه. ب- مع آدم وحواء. ت- مع الناس. جـ- حوارات الناس: أ- بينهم. ب- مع ربهم. فالحوار حاضر بكثافة في كتاب ربنا – عزّ وجل –، وهذا الحضور يحمل معاني، منها: أنّ الأمر يتعلق بمنهج حياة؛ لكونه يدعونا إلى الحوار المتعدد الواجهات والأبواب المفتوحة في كل اتجاه، حصل هذا – وقت النزول – في زمن لم يكن فيه العالم يحتكم سوى إلى قانون القوة، ولم يكن يفكر سوى في كيفية فرض فكره على فكر الآخرين وفرض رأيه ومصالحه، أي حصل هذا نزل هذا الكتاب المبارك بهذه الدعوة الفعلية إلى الحوار وإلى ممارسته في كل اتجاه في زمن كان الناس يؤمنون فيه بفكر القوة لا بقوة الفكر، فغيَّر بذلك مجرى التاريخ عندما علَّم المسلمين من خلال ذلك الكم الهائل من مادة الحوار وشبكة العلاقات الحوارية التي رصدها وساقها إلينا، كيف يؤمنون بقوة الفكر في زمن يؤمن فيه الآخرون بفكر القوة، وبذلك أمكنه أن يؤسس حضارة متميزة تجمع بين تلبية الحاجيات البشرية الدنيوية والتوجه في انسجام مع الكون بالتسبيح مرات ومرات كل يوم نحو خالقها. المصدر: كتاب الحوار منهج حياةمقالات ذات صلة
ارسال التعليق