• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تربية الأبناء في الزمن الحديث

تربية الأبناء في الزمن الحديث

"هناك اكتشافان إنسانيان يحق لنا اعتبارهما أصعب الاكتشافات، هما: فن حكم الناس، وفن تربيتهم".

(الفيلسوف الألماني – إيمانويل كانت)

لن تتحرك السيارة من مكانها إلى وجهتها إلا بعد ملء الخزان، ولن تشرب شيئاً يروي عطشك إلا بعد ملء الكوب بالماء، فلا السيارة تنفع من غير الوقود ولا ذلك الكوب سيطفئ لهيب عطشك إلا بعد ملئه، هذه مسلّمات نعيشها يومياً في حياتنا لا يختلف عليها اثنان، اخترت منها كأمثله شيئين وهنالك الكثير.

فالعقل هو ذلك المركب والكوب الذي بحاجة لملئه بالمعلومات والأفكار لكي يَحيا ويكون صالحاً للاستخدام، أقولها وللأسف إنّ 80% من مشاكلنا في تربية من حولنا تكمن في عدم امتلاكنا الوسيلة المناسبة والصحيحة التي نربي بها الأبناء، فأغلب مشاكل وأزمات البيوت سببها شُح في شريحة المربين الذين يجب أن يتصفوا بالوعي والثقافة وأنّهم باختصار نماذج لمن حولهم.

ونلاحظ أنّ انتشار تربية الإلزام والقهر الذي وصفها الدكتور مصطفى حجازي بـ"فقدان سيطرة الإنسان على مصيره" هو دليل واضح على أنّ التربية الخطيرة الخاطئة ليس دليلاً على وجود فكر قائم لها كتبه المختصون في التربية، فعدم وجود المعلومة والفكر الصحيح في عقل المربين سينتج عنه لا محالة تربية فرعونية قائمة على فكرة "لا أريكم إلا ما أرى"، والشيءُ بالشيءِ يذكر: كثيراً ما أُسأل من طلبتي عن نصيحتي لهم في التخصص الجامعي.. وهذا السؤال يجعلني أغضب منهم وليس بسبب طلبهم مني لتوجيههم، فهذا مطلب مهم ولكن غالبيتهم يأتوني ولم يكوّنوا لهم رأياً خاصاً عن التخصص المحبب لهم، وبدوري هنا دائماً أبدأ نصيحتي لهم بأن يبحثوا هم في البداية عن ما يريدون ومن ثمّ يأتوني، لأنني أريد بذلك تربيتهم على تحمل مسؤولية حياتهم والمضي قدماً في سبيل تكوين وجهة نظر ورأي خاص بهم حتى لا يكونوا مستقبلاً إمّعةً يُقادون ولا يَقودون.

الآن، لو طلبت منك أيها المربِّي أن تتخيل نفسك في اختبار مصيري، وعدم إجابتك على هذه الأسئلة إجابة صحيحة سينتج عنها خسارتك لحياة ابنك، الآن وفي هذه اللحظة!! أماك الورقة وفيها 5 أسئلة... فكيف ستجيب عليها؟

1-    أثناء جلوسك في صالة المنزل قام ابنك بشتم أخيه الأصغر أمامك.. ماذا ستفعل؟

.....................................

.....................................

2-    هاتَفك مدير المدرسة قائلاً لك: ابنك يومياً يقوم بسرقة حاجات أصدقائه.. ماذا ستفعل؟

.....................................

.....................................

3-    إبنتك لا ترغب بالدراسة.. ماذا ستفعل؟

.....................................

.....................................

4-    وأنت خارج من المنزل رأيت ابنك يدخن السيجارة.. ماذا ستفعل؟

.....................................

.....................................

5-    ابنك يقوم بالصراخ الشديد على أُمّه.. ماذا ستفعل؟

.....................................

.....................................

 

هذه أسئلة.. لكنها في الواقع حوادث تحصل بشكل يومي لنا، وعدم مقدرتنا على علاجها بالشكل الصحيح يعني أننا نقتل بأيدنا عقول ومشاعر من حولنا بطريقتنا الخاطئة في العلاجة والتعامل، فكل موقف لا نتعامل معه بشكل صحيح هو في الحقيقة تشويه لشخصية أبنائنا المستقبلية، فشخصياتهم في المستقبل هي نتاج لطريقة تعاملنا مع مشاكلهم في الحاضر، وهنا تكمن خطورة عدم التعلم أنّ ما سنحصده مستقبلاً يعتمد كلياً على ما نزرعه في حاضرنا، فلا تتوقع أن تحصد تفاحة حمراء حلوة الطعم جميلة المذاق وأنت لم تُحسن تهيئة التربة ولم تسقها بشكل دوري بالماء، فهذا ما جنته يداك بحسب فعليك.. وكل إناءٍ (عقلك) بما فيه ينضج (تربية)!

وحتى لا تقع في هذه المشاكل، يجب عليك أن تتعلم طرق التربية الحديثة وأساليبها، اقرأ في خصائص مرحلة الطفولة والمراهقة واحتياجاتها، تثقف في كيفية غرس الأخلاق فيمن حولك، اقرأ القصص التاريخية التي تحمل في طياتها القيم وأروها لأبنائك، ابحث عن أكثر المشاكل السلوكية التي يقع فيها الأطفال والمراهقون واحصل على طرق التعامل معها مع المختصين، اعرف كيف تكسب قلوب أبنائك بطريقة صحيحة لأن كسب القلوب مرحلة تسبق علاج مشاكلهم، فلن تستطيع أبداً احتواء سلوكيات من حولك إلا بعد أن تكسب قلوبهم، لأنك حينها تستطيع وبجدارة أن تفوز بثقتهم الغالية بحبك وفهمك لهم.

هذه أمور وغيرها تستحق منك البحث والتعمق فيها، فعندما تستشعر أنك تتعامل مع عقل يفكر وقلب يملك المشاعر والأحاسيس تكتشف أنّ الأمر يستحق العناء للتعلم، فأنت لا تتعامل مع جماد بل مع إنسان سيكون له دور عظيم في المستقبل لخدمة دينه ومجتمعه إن أحسنت تربيته، وعلى النقيض تماماً، سيكون عالة على بيته ومجتمعه ودينه إن أنت قصَّرت معه، والجميل المريح أنّ الأمر بيدك أيها المربي فأنت:

إمّا أن تكون وريث نبي، أو مجرم تاريخ.

* التربية التقليدية تَقَولِب الشخصية؛ فالقالب المتقن تنتج عنه قطعة متقنة، لكنها تكون مفتقرة إلى المرونة والإبداع خارج تفاصيل القالب.

يقول عبدالرحمن الكواكبي: "خلق الله في الإنسان استعداداً للصلاح واستعداداً للفساد، فأبواه يُصلحانه وأبواه يُفسدانه، أي أنّ التربية تربو باستعداده جسماً ونفساً وعقلاً، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. وقد سبق أنّ الإستبداد المشؤوم يؤثر على الأجسام فيورثها السقام، ويسطو على النفوس فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم. بناءً عليه، تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكلُّ ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الإستبداد بقوته، وهل يتم بناءٌ وراءه هادم؟".

عندما تمارس التربية والتي هي وظيفة ورسالة الأنبياء والرسل من دون أن يكون لديك علم فأنت أقرب للهدم والتدمير منه إلى البناء، وإن كانت بحسن نية منك، كما أشار الكواكبي في آخر الفقرة السابقة أنّ البناء لا يتم إذا كان وراءه هادم ولن يكون هذا الهادم إلا إنساناً لم يتعلم!

فحسن النية لا تشفع لك عند الله إذا كُنت خالي العقل شحيح العلم وسماعك لضجيج إحدى عربات القطار دليلٌ على فراغه.. لأنك لن تستطيع احتواء أبنائك من دون أن يكون لديك الوصفة السحرية لذلك، خصوصاً إذا ما وضعنا بعين الاعتبار الاختلافات الكبيرة بين البشر فليس ما تهتم به يجب أن يهتم به من حولك، لذلك سيكون التعلم هي تلك الوصفة التي تغزو بها عقول من حولك.

من لم يَرَ العلم أغلى *** من كلِ شيءٍ يُصابُ

فليس يُفلحُ حتى *** يُحثى عليه الترابُ

 

المصدر: كتاب المُرَبِّي (12 قاعدة مبسطة ومبتكرة) للكاتب عبدالمحسن العصفور

ارسال التعليق

Top