◄"لا نُشرِكُ فيه أحداً دُونَكَ، ولا نبتَغي بِهِ مُراداً سِواكَ".
في هذه الفقرة من الدعاء يتناول الإمام زين العابدين (ع) مسألة مهمّة وهي الإخلاص لله تبارك وتعالى في الأعمال والأقوال وجميع التصرّفات الصادرة عن الإنسان، والإخلاص هو حقيقة قلبية تشمل النوايا والمقاصد المودعة في القلب والتي لا يعلمها غير الله سبحانه الذي يعلم بحقائق القلوب ودواخلها (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) (طه/7).
وهو تأكيد على أن تكون النوايا والدوافع الخفية للأعمال التي تنطوي عليها النفس خالصة لوجه الله، لا يريد بها الإنسان شيئاً لنفسه وذاته، لا ذكراً حسناً، ولا مقاماً محموداً، ولا شيئاً من منافع الدنيا وزينتها، ولا أي مكسب أو ربح دنيوي، رغم أنّ الله قد يشاء ذلك لعباده ويجعل لهم من كرمه فضلاً في الدنيا والآخرة، إلا أنّ المؤمن لا ينبغي أن يكون هدفه هو الكسب الدنيوي، وإنّما المطلوب هو أن يقصد رضوان الله وفضله ورحمته من دون أن يعطي أهمية للنتائج والانعكاسات الدنيوية لأعماله.
فقد يشاء الله له حسن الذكر وخير الدنيا، أو قد يشاء له الابتلاء والامتحان والمصاعب بسبب أعماله ومواقفه الخيّرة، إلّا أنّ الحصيلة في ذلك هو الفوز برضوان الله وفضله ما دامت نواياه مخلصة لله ولم يرجُ في أعماله أحداً إلّا الله سبحانه.
والحديث عن النوايا هو غير الحديث عن أساليب الطرح والعرض والتي تستدعي الحكمة والتعقّل والتفهّم للأوضاع الاجتماعية والسياسية والتي قال الله عنها (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/ 125).
فللوسيلة شروطها الإسلامية وقوانينها التي تحول دون أن ترتطم بالنفاق والتلوّن، وللغايات والمقاصد شرطها الأساسي وهو الإخلاص لله وحده دون ملاحظة أي نفع ذاتي أو مكسب شخصي (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41).
وكلّما بلغ الإنسان من الإخلاص درجة عالية، كلّما عظمت منزلته ودرجته عند الله، وقُبلت أعماله وعباداته حتى وإن كانت قليلة أو غير ملحوظة.
وبعكس ذلك مهما كثرت الأعمال والفعاليات من أحاديث إسلامية أو خطب منبرية، وظهور إعلامي، وتصريحات سياسية أو أعمال اجتماعية، ونشاطات حيوية في حضور المؤتمرات والهيئات المحلّية أو الدولية وأمثال ذلك من الفعاليات التي ظاهرها الإسلام وباطنها الأنا والمصالح الذاتية فإنّ هذه الأعمال جميعاً ليس لها رصيد عند الله ولا مقبولية عنده.
عن رسول الله (ص) قال: "أخلِص قلبَكَ يكفِكَ القليلُ من العَمَلِ".
وعن أمير المؤمنين (ع) قال: "طُوبى لمن أخلص لله عَمَلهُ، وحُبَّهُ وبُغضَهُ، وأخذَهُ وتركَهُ، وكلامه وصَمْتَهُ، وفعله وقوله".
فالإخلاص لله في القول والفعل والحبّ والبغض وجميع أنواع السلوك والأعمال والمواقف هو الأصل في نيل المكانة عند الله والفوز لديه.
كما أنّ للإخلاص ثمرة أخرى في الدنيا وهي إنّ الله يعطي صاحبها البصيرة في دينه والوعي لأمور زمانه ممّا يساعده على سلوك أحسن الطرق وأفضلها وأزكاها لبلوغ الآخرة السعيدة.
عن رسول الله (ص) كذلك قال:
"طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهُدى، تَنْجلي عنهم كُلُّ فِتنَةٍ ظَلْماء".
وفي حديث آخر عنه (ص) قال: "ما أخلص عبدٌ لله عزّ وجلّ أربعين صباحاً إلّا جَرَت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".
وفي حديث ثالث قال (ص): "قال اللهُ عزّ وجلّ: لا أطَّلِعُ على قلب عبدٍ فأعلم منه حُبَّ الإخلاص لطاعتي (وَ) لوجهي وابتغاء مرضاتي إلّا تَولّيتُ تقويمه وسياسته".
وهو ما يبيّن أنّ مجرد الإخلاص القلبي والعزم على طاعة الله ونية المبادرة إلى الصالحات ابتغاءً لرضوان الله فإنّ ذلك يكون سبباً في نزول رحمة الله وهدايته لعبده وتوفيقه للأعمال الموصلة إليه، كما يكون سبباً لنجاة المخلصين من كيد الشيطان ووسائل إضلاله ومنها الضياع من متاهات هوى النفس وأنانيتها وحبّها للمدح والثناء والسمعة التي تحبط الأعمال والعبادات وتذهب بالأجر والثواب.
عن رسول الله (ص) قال: "إنّ لكلِّ حقٍّ حقيقةً، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإخلاص حتى لا يُحِبَّ أن يُحمَدَ على شيءٍ من عملٍ لله".
فمن كان عمله لله فإنّه لا يحتاج إلى مدح الناس وثناءهم وإنما يحتاج إلى رضا من يعمل له، وسواء مدحه الآخرون أو ذمّوه على فعله فإنّ هذا لا يعني له شيئاً لأنّ علاقته مع الله الخالق العظيم والكريم الرحيم وهو الذي ينبغي أن يحسب الأهمية لرضاه أو سخطه وأن يجعل عمله خالصاً لوجهه من دون فرق بين السرّ والعلانية.
عن الإمام عليٌّ (ع) قال: "مَن لم يختلف سِرُّه وعلانيَتُهُ، وفعلُهُ ومقالَتُهُ، فقد أدّى الأمانة وأخلص العبادة".
وهي درجة عالية من الإيمان عند تطابق الظاهر والباطن في الطاعة وأن ينسجم القول مع العمل، بحيث يكون سلوك الإنسان مع نفسه وفي بيته ذات السلوك الذي يكون مع الآخرين في المجتمع بشكل عام، فالإزدواجية في السلوك أو حفظ الظاهر الديني مع إغفال باطن النفس وتربيتها على الإخلاص والطاعة، هي من القضايا التي نهى الإسلام عنها بشدّة، سواء أكانت في خطّ طلبة العلوم الدينية، أو في خطّ العاملين من أبناء الحركات والأحزاب الإسلامية أو المتصدّين للمواقع والمسؤوليات الإسلامية عامة.
فلا يكفي أن يكون للإنسان مظهر إسلامي بينما يخالف باطنه ذلك سواء في سعيه لجمع الدنيا ولذائذها وزينتها، أو في تبنّيه للأفكار والمناهج المستوردة من الشرق والغرب والتي تخالف الإسلام، فيكون داعية لمفاهيم الغرب وأفكاره وأنظمته العلمانية في كلّ مجلس ومحفل بينما يهمل أو يغفل عقيدته الأصلية القائمة على القرآن والتي لا معنى للحياة من دونها ولا معنىً للعمل السياسي لولا الدعوة إليها.
فمجرّد الحديث عن الإسلام ووضعه كواجهة سياسية من دون العمل به وتطبيق شريعته، فإنّه لا يكسب المؤمن منزلة عند ربّه، بل يكون حسابه أكبر في الدنيا والآخرة لأنّه يعلم أنّ الإسلام وحدة واحدة لا تتجزّأ، وأنّ القيم الإسلامية إنّما هي في التطبيق والعمل لا في الحديث والإدّعاء، مهما كانت المصالح والمبررات التي يدّعيها في تبني المواقف والأعمال والقيم التي تخالف المنهج الإسلامي القويم، فإنّ ما يبقى له عند الله هو ما كان خالصاً لوجه الله ونابعاً من دينه وقرآنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3).►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق