◄"للوهلة الأولى تبدو فكرة عالم الإنترنت كمحاولة لمحاكاة العالم الواقعي، والأمثلة كثيرة. ففضاء الإنترنت يحاول تمثل الكثير مما يجري حولنا ليقدِّمه في الفضاء الإفتراضي، وهناك أمثلة مباشرة مثل برنامج (الحياة الثانية) الذي يحاول أن يُقدِّم للمستخدمين حياة موازية لحياتهم الواقعية، لكن يختار فيها الشخص هوية مختلفة بإسم مختلف وعملاً آخر وهوايات أخرى، ربّما تمثل كل ما كان يتمنّى أن يفعله في الحياة ولم يتمكّن. لكن المحاكاة تأخذ أبعاداً أخرى كثيرة على الشبكة الإفتراضية للدرجة التي بدأت فيها بعض الأفكار تردد أنّ العكس صحيح وهو أنّ العالم الذي نحياه هو الذي يماثل برامج الكمبيوتر، فهل بالفعل هناك ما يمكن أن يثبت صحة هذا الفرض؟ بمعنى آخر مَن يحاكي مَن؟ الواقع يقلِّد الحاسب الآلي أم أنّ الحاسب الآلي هو الذي يحاكي الواقع؟"
بداية يمكن تعريف المحاكاة (Simulation) بأنّها عملية تقليد لأداة حقيقية أو لعملية فيزيائية أو حيوية، تحاول أن تمثِّل وتقدِّم الصفات المميزة لسلوك نظام مجرد أو فيزيائي بوساطة سلوك نظام آخر يحاكي الأوّل. وهي محاولة إعادة عملية ما في ظروف إصطناعية مشابهة إلى حد ما الظروف الطبيعية. أو كما تعرفها (أفانز أند ساذرلاند) بأنّها نموذج تشغيل حقيقي أو نظام مقترح لعملية بيئية، تستخدم فيها شبكات الإتصالات الحديثة للوصول إلى هذا العالم الإفتراضي.
تهدف المحاكاة إلى دراسة وبناء نماذج و/ أو برمجيات لتقليد نظام حقيقي قائم أو مزمع إنشاؤه، بهدف دراسة النتائج المتوقعة. ويتصل علم أو فن المحاكاة إتصالاً شديداً بالرياضيات خاصة الرياضيات الرقمية والفيزياء وعلم المعلومات.
هناك أمثلة للمحاكاة من مثل قيام بعض الجهات المختصة في صناعة الأسلحة، أو الجهات العسكرية بعمل نماذج إفتراضية من تلك الأسلحة لإختبار قوتها في الواقع عن طريق إختبارها أولاً في الفضاء الإفتراضي، والأمر ينطبق هنا أيضاً على الإستراتيجيات العسكرية، حيث يتم برمجة خطط مناورات عسكرية إفتراضياً قبل إختبارها في الواقع.
- إختبارات المحاكاة
كما نجد لها أمثلة قوية من مثل الإختبارات الإفتراضية التي أجريت على عربة (كيروسيتي) الفضائية التي انتقلت أخيراً إلى المريخ كروبوت آلي مهمّته تصوير واكتشاف الواقع على الكوكب الأحمر. فقد بدأت عمليات دراسة تصميم العربة وفقاً لوضعها إفتراضياً في بيئة تشبه بيئة المريخ حتى تمّ تصميم العربة بشكل يتواءم مع الظروف الواقعية هناك.
تشيع أنظمة المحاكاة (Simulator) في الطيران المدني والحربي حينما يتمرن الطيارون الجدد على أجهزة محاكاة تكون صورة طبق الأصل مما قد يجري على الطبيعة، مما يُمكِّن الطيارين من التحكُّم في الأحوال الحرجة مثل العواصف أو عطل أحد المحرِّكات، حيث تجعلهم وكأنّهم يقودون طائرة حقيقية مع فرق بسيط هو أنّه أثناء المحاكاة مسموح لهم بالخطأ، الشيء الذي قد يكون مميتاً إذا حدث في الواقع.
وسنجد العديد من هذه النماذج التي تستخدم المحاكاة في برامج إفتراضية تدخل في مجالات التصميم الصناعي والهندسي وغيرهما، وهي هنا تبدو عملية محاكاة تتكئ على مفاهيم التنبؤ والتوقُّع المستقبلي.
- بين الواقع والإفتراضي
إذا كانت النماذج الأولى تتعلق بالمستقبل ومحاولة التنبؤ به، فإنّ النماذج الخاصة بالألعاب الإلكترونية تحقق لوناً من إستعادة الواقع، أو تعديل مساراته، إضافة إلى ما تغذيه من ألوان إشباع أحلام اليقظة لدى مستخدمي مثل تلك الألعاب والبرامج.
وهناك مستوى ثالث من البرامج الإفتراضية التي تتداخل فيها العلاقة بين الواقعي والإفتراضي من مثل برامج الحياة الموازية إفتراضياً مثل برنامج (الحياة الثانية) وما يشبهه، وهي برامج تقوم على فكرة أن يستخدم الفرد هوية مختلفة عن هويته الواقعية، يختار فيها إسماً مغايراً، وشكلاً ووظيفة وسلوكيات يعيش بها في عالم إفتراضي يختار تفاصيله، ويتعامل فيها أيضاً مع شخصيات أو هويات إفتراضية أخرى.
وتبدو هذه الفكرة في جوهرها محاولة للهروب من الواقع، والبحث عن واقع آخر يحلم الشخص أن يعيشه ولا يتمكّن من ذلك في الحياة الواقعية. لكن المستوى الإفتراضي الذي تقوم عليه هذه الفكرة كثيراً ما يشتبك بالواقع الحقيقي حين تلتقي شخصيتان في هذا الوسيط الإفتراضي وتقرران أن تلتقي كل منهما الأخرى في العالم الواقعي.
على سبيل المثال، نشرت صحيفة (الديلي ميل) قبل فترة وجيزة موضوعاً عن إمرأة شابة قررت أن تدخل إلى العالم الإفتراضي عبر برنامج من هذه البرامج، إثر إحباطها من تعدد فشل علاقاتها العاطفية، وقدّمت نفسها بوصفها شابة نحيفة رشيقة، وتعرّفت على شخصية لرجل قدم هويته الإفتراضية (Avatar) بوصفه قائد شاحنة رياضي مفتول العضلاات. وبمرور الوقت، انجذب كل منهما للآخر وأحسّ كل منهما أنّه وقع في غرام الآخر. وكانت المشكلة حين قررا أن يتبادلا صورهما الحقيقية، فلم تكن الفتاة نحيفة، بل على العكس كانت بدينة. ونفس الأمر بالنسبة للشاب الذي لم يكن صاحب عضلات، وأحسّا بالخوف، لكنهما بعد تبادل الصور واكتشاف كل منهما أنّ الصورة الإفتراضية تختلف تماماً عن الصورة الواقعية أدركا أنّهما يتبادلان الحب ولم تؤثر هذه الحقيقة في انتقال علاقتهما من مستواها الإفتراضي إلى مستواها الواقعي.
- الماتركيس
مثل هذه التجارب في الحقيقة تقود إلى سؤال آخر حول فكرة الواقع الذي نعيشه مدى كونه واقعاً حقيقاً وأصيلاً؟ السؤال الذي سأله بوديارد في كتابه والذي يقول فيه: مرحباً بكم في صحراء الواقع، وهي أيضاً جملة إفتتاحية في فيلم (المصفوفة) أو (Matrix) الذي يقودنا إلى الفيلم الأمريكي الشهير (ماتركيس) الذي يفترض أنّ الواقع الذي يعيشه بطل الفيلم أو أبطاله جميعاً هو واقع إفتراضي يولده وينسقه كومبيوتر عملاق يرتبط به الجميع، يصحو بطل الفيلم ليرى منظراً موحشاً تتناثر فيه خرائب محترقة هي ما بقي من شيكاغو بعد حرب كونية، فيرحب به زعيم المقاومة مورفيوس ساخراً: "مرحباً في صحراء الواقع".
هذه الفكرة تُمثِّل همّاً فلسفياً وفكرياً لعبت فيه الفيزياء دوراً كبيراً منذ التوصل لقوانين النسبية، وإيجاد المعادلات الرياضية التي كشفت عن تصوّر مختلف للزمن كما نعرفه واكتشاف أنّ الزمن أكثر تعقيداً ممّا نعرفه.
تقوم فكرة المصفوفة أو الماتريكس على إفتراض أنّ العقل البشري بإمكاناته المحدودة بدأ بإبتكار أجهزة قادرة على القيام بعمليات كانت مقصورة على البشر مثل الحساب في بادئ الأمر ثمّ تطوّرت البرمجة إلى قدرات جديدة أنتجت العديد من التقنيات الحديثة ممثلة في تعقد أداء الحواسب الآلية أوّلاً، ثمّ في منتجات هذه الآلات من حيث البرمجة التي تستطيع اليوم قيادة طائرة آلياً، أو توجيه قذائف، وصولاً لتحريك عربات وأجهزة في الفضاء عبر وسائل إتصال من الأرض.
- مابعد الإنسان
بالتالي، فإذا افترضنا إستمرار تطوّر عمليات البرمجة وتطويرها في المستقبل وما سيسفر عنها من خلق جيل من الروبوت الآلي، فإنّه في مرحلة لاحقة أكثر تطوراً سيكون بإمكان هذه الوحدات الآلية أن تؤدِّي أداءً مقارباً للأداء البشري على المستوى الحركي وربّما على مستوى الوعي. وبالقياس على هذا الفرض، تقول إحتمالات دراسية مختلفة إنّ الوعي البشري قد يكون وفقاً لهذه الطروحات هو نتاج عمليات برمجة شبيهة لفكرة البرمجة الآلية كما نعرفها اليوم في عالم الحاسوب على سبيل المثال.
وهذا الإفتراض يقول أيضاً إنّنا إذا افترضنا صحّته جدلاً، فإنّ الجيل الحالي من البشر في الواقع قد يكونون مرحلة وسيطة بين مرحلتين تبتغي المرحلة الأحدث منها الوصول إلى ما يعرف بالإنسان السوبر أو ما بعد الإنسان وهو الفرد ذو القدرات الأعلى من حيث إمكاناته في الحركة والتفكير والوعي.
وقد انتقلت هذه الأفكار من مجال الخيال العلمي، إلى غرف التجارب العلمية، وعلوم المستقبليات، عبر علوم البرمجة والرياضيات وعبر افتراض معادلات رياضية علمية تماماً لمحاولة التأكُّد من إمكان تحقق مثل هذه الإمكانات في المستقبل.
وهذه الفرضية تبدأ من الجانب الفكري والأدبي ثمّ تنتقل إلى الجانب الرياضي والفيزيائي، ثمّ تضع فكرة المحاكاة نفسها تحت مشرط العلم، وتنتقل في مرحلة لاحقة لبحث المتاح الراهن من قوانين الحوسبة وتصميم البرامج على الحاسب الآلي حتى تصل إلى توقع الآفاق المستقبلية المحتملة لإحتمالات تطوّر هذه البرامج، وبالتالي الوصول لمدى إمكانية تحقق فكرة أن يصبح الإفتراضي هو الواقع الحقيقي في المستقبل!
فكرة تبدو اليوم مجنونة، تماماً كما تبدو فكرة فيلم (ماتريكس)، لكن العلماء المختصين في المجال يقولون بأن أغلب أفكار الخيال العلمي التي كانت مجرد أفكار خيالية مستحيلة مثل السفر للفضاء، تحققت وأصبحت واقعاً، وبالتالي فلا يستبعدون تحقق مثل هذا الفرض المستقبلي إذا تمت دراسته وتطوير هذه الدراسة وفقاً لمفاهيم وقوانين علمية بحتة.
وجانب من التحقق من مدى إمكانية تحول هذا الفرض إلى واقع دراسة قوّة الذكاء البشري الراهن، وقياس معدلات الذكاء الإصطناعي التي تمّ تحقيقها اليوم في العديد من المجالات بإستخدام تطبيقات الحاسب الآلي، وبحث العلاقة بين قوّة الذكاء في الحالتين للتحقق من مدى تحقق هذا الفرض. كما تواجه هذه الفرضية أنّ الإنسان الراهن يحصل على الطاقة الذهنية التي تمكنه من التفكير، ويحصل على العديد من وسائل الطاقة التي يمكنه بها أن يحقق فكرة إيجاد أجيال مبرمجة من الإنسان الآلي، ولكن ماذا عن سبل توفر هذه الطاقة في المستقبل؟
الفرض النهائي يقول إنّ تحقيق هذه المحاكاة في شكلها النموذجي والتي سوف تسفر عن حضارة جديدة تكاد تكون إفتراضية يعيش فيها جيل جديد من (مابعد الإنسان) لا يمكن أن نتوقع أن تصل إليها ذرياتنا المقبلة إذا لم يكن لدى هذه الذرية اليقين من أن ما سوف يعيشونه بدأ على مبدأ المحاكاة.
إنّه موضوع معقّد وربّما يحتاج إلى وقفات أخرى أكثر إقتراباً من هذه النظرية والإطلاع على ما قامت به الفرق البحثية في هذا المجال بشكل أكثر دقة وبالتدليل عليه عبر نماذج أكثر تفصيلاً.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق