◄لا شكّ أنّ التوبة تطهر النفس وتزكيها وتريح صاحبها وتعيده إلى حظيرة الإيمان، ولا يتم ذلك إلّا من تقدير أثر التوبة والدعوة إليها ليقع الإنسان عن المعصية ويندم على فعل المنكرات، ويعزم أن لا يعود إلى فعلها أبداً ويعود إلى الستّار علام الغيوب.
فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 31).. هنا خطاب لأهل الإيمان وخيار خلقه، ليتوبوا بعد إيمانهم وصبرهم وجهادهم، وفي الآية تعليق للفلاح بالتوبة، إذ أتت كلمة (لعل) إيذاناً لهم بأنّهم إذا تابوا على رجاء الفلاح، فلا يجو الفلاح إلّا التائبون.
وقال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات/ 11)، وفي هذه الآية يُقسِّم الله تعالى العباد إلى تائب وظالم، فالظالم هو الذي لم يتب، وليس هناك أظلم منه لجهله بربه وخالقه وبحقّ الله تعالى عليه، ثمّ يعيب نفسه وآفات أعماله.
والإنسان إذا ما ارتكب المعاصي وكانت مصدر قلقه ومحاسبة نفسه، فإنّ هذه النفس لن تطمئن وتطهر إلّا بالتوبة إلى الله في السرّ والعلن، ولن يزول قلقه النفسي إلّا بمحاسبتها، ثمّ الرجوع إلى الله ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين، ولن تتم توبته إذا لم يندم ويقلع ويعزم على عدم العودة إلى هذه المعاصي وهذه الذنوب، ولن يتم له ذلك إلّا بمجاهدة نفسه.
فعليه أن يصلح ما أفسد، فإذا كانت الأخطاء والمعاصي فيما بينه وبين الله كترك حقوق الله سواء حقوق عبادية أو الأمور التي تخص الناس، إذ أنّ العبد الغفال إذا صدرته منه الخطيئة في أمر الله ونهيه واعترف وأقرّ على نفسه بالذنب، كانت البداية إلى العودة إلى الله وأن ناصيته بيده تعالى وأنه سبحانه الذي يقضي بما يشاء، ولا يتم ذلك إلّا بالإيمان بأنّ الله متمكن منه ولن يتخلى عنه، وأيقن أنّ التوبة إلى الله محفوظة بتوبة من الله عليه قبلها، وتوبة من بعدها، فتوبته بين توبتين من ربّه، سابقة ولا حقة، عندما يوقن العبد أنّ الله ألهمه ووفقه فتاب، يتوب الله عليه ويقبل توبته ويثبته عليها.
ويتضح ذلك في قوله تعالى: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة/ 118)، فهنا توضيح وإخبار من الله تعالى أن توبته على الثلاثة – الذين لم يخرجوا للجهاد مع النبي (ص) في غزوة تبوك – سبقت توبتهم، وأنّها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سبباً مقضياً لتوبتهم وهذا القدر من سرّ إسميه تعالى (الأوّل) و(الآخر).
والتوبة لها بداية ونهاية، فبدايتها الرجوع إلى الله بسلوك صراطه المستقيم ونهايتها الرجوع إلى الله في الميعاد واتباع سلوك صراطه تعالى الذي نصبه موصلاً إلى جنات النعيم، فمن رجع إلى الله في هذه الدنيا بالتوبة رجع إليه في المعاد بالثواب، قال تعالى: (وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً) (الفرقان/ 71).
ولا تتم التوبة إلّا بإحساس الفرد الداخلي بالإيمان بالله، والذي هو قناعة داخلية، والخوف من الله وهو معنى نفسي داخلي يعطي القوة والاستمرار على التوبة والإحساس الداخلي المؤثر يكون بمراقبة النفس ومحاسبتها على سلوكها، ومراقبة العبد ربّه في حياء دائم من الله المطلع على سرائر نفسه، والمحاسبة والمراقبة للنفس في سلوكها، وتمام التطابق بين السلوك الظاهر والإحساس الباطن تجعل من الفرد في قمة درجات الاستقرار والسعادة النفسية.
وكم من تائب إلى الله توبة نصوحاً تغيرات سلوكياته من العصيان وارتكاب المعاصي إلى طمأنينة نفسية وأداء الواجبات المناطة إليه، ويعود إلى التوازن الروحي الذي كان ينقصه الإحساس بالأمن النفسي من ملاقاة الله وهو على المعاصي.►
المصدر: كتاب أساليب العلاج النفسي في ضوء القرآن الكريم والسنّة النبوية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق