الطريق إلى الضاحية الجنوبية كان الغداء والناس يتحركون في فوضى عارمة في كل الإتجاهات.
تأخرنا أكثر من ساعة ونصف عن المصاب. التجمعات السكنية التي أحدثت في الضاحية الجنوبية جعلت التنقل فيها كابوساً، كأن كل أهل المدينة سكنوا هناك، وصاروا يروحون ويجيئون بين الوسط الإداري. حيثُ المباني الحكومية. والمدارس، والمستشفيات، والضاحية الغاصة بالشقق الإقتصادية.
"انتبه! يا أخي لسنا في سباق سيارات..." صاح زميلي صلاح بحنق.
أفكر في المسكين الذي ينتظرنا، زوجته تتصل كل دقيقتين، أعياني الرد عليها.
صفارة الإنذار لم تعد تفلح في إفساح الطريق لسيارة الإسعاف، كثير من السائقين، والراجلين، وراكبي الدراجات يتجاهلونها.
"بهائم... ألا يخافون على أرواحهم؟" صرخ فيهم صلاح "وأنت انتبه، ستكون – والله – مهزلة إن تعرضنا لحادث، وطلبوا لنا سيارة إسعاف...".
ابتسمت بسخرية.
ثلاث من سيارات المستشفى معطّلة، اثنتان انطلقتا قبلنا في مهمتين خارج المدار الحضري، وثلاث أخريات في أمكنة ما في المدينة، ولن تحضر إن طلبها أحد قبل مرور ساعات.
هناك دائماً أعذار جاهزة لتبرير التأخير. تذبذب الهاتف الذي وضعته بجانبي، زوجة المصاب من جديد، طلبت من صلاح أن يرد عليها، ورفض.
"ماذا أقول لها: ماذا يظن الناس؟ أننا "سوبرمانات" تطير وتأتي إليهم؟ ما عليها إلا أن تطل على الشارع لترى الصفوف الطويلة العريضة التي نحاول المرور منها! ناس لا يرحمون!".
صاحبي سيِّئ النية، لولاه لما تأخرنا كل هذا الوقت، طلب أن نمر على مدرسة ابنه ليسلم البواب مظروفاً يوصله إلى المدير، لم نجد البواب في مقصورته، ودخل صلاح وغاب هناك أكثر من نصف الساعة.
"اللصوص! يريدون مني أن أدفع ثمن لوازم لم يطلبها ابني، ولا يحتاج إليها، لم أدخله مدرسة خصوصية ليعزف على الكمان، أريده أن يدرس العلوم بشكل جيِّد، هذا كل ما أطلبه. موسيقى بالعافية؟ ليحلموا...!".
لم أسأله ماذا كان في المظروف الذي سلمه إليهم، رغم أنني كنت أشعر بالفضول. إتصالات زوجة المصاب المتوالية نرفزتني.
"من هنا، ها هي العمارة. وأخيراً...!"
اتبعت إرشاداته، ميزة صاحبي الوحيدة أنّه يعرف كل شبر في المدينة.
نزلنا، وحملنا المحفة، وحقيبة الإسعافات الأولية، وأسرعنا إلى الطابق الخامس.
الممر مليء بالناس، وباب الشقة مفتوح، وبكاء الأهل يصم الآذان.
لم نسلم من حنق الذين طلبونا، وتأخرنا عليهم، دفعناهم بصمت، وتوجهنا إلى البلكونة حيثُ قالوا لنا إنّ المصاب وقع.
الرجل استعاد وعيه، ويبدو هادئاً أكثر من أهله، لكنه غير قادر على الحراك.
"كنت أضبط الصحن اللاقط على السطح" شرح لنا بكلمات واضحة: "لا أدري كيف انزلقت قدماي، شعرت بصدمة أليمة، وغبت عن الوعي، وحين أفقت لم أستطع أن أحرك أطرافي، ولا أن أرفع رأسي، لدي كسور دون شك...".
تركت صلاح يفحصه، ورفعت رأسي إلى أعلى، الرجل محظوظ لأنّه وقع في البلكونة، لو أكمل سقطته إلى تحت لتهشم رأسه على الأسفلت.
نقلناه إلى السيارة، وركبت معنا زوجته ودموعها لا تتوقف.
جلس صلاح قربه، وفتحت الحاجز الزجاجي بيننا لأتابع الحالة وأنا أقود السيارة.
"ألا يفترض أن يكون هناك ممرضان على الأقل في سيارة الإسعاف؟" سأل المصاب الذي لم يفقد شيئاً من ملكاته الذهنية، توسلت إليه زوجته ليصمت ويرتاح، وأجبته بسخرية: "يفترض... نعم... لكننا نعاني من نقص في الأطر الطبية".
صلاح منشغل بقياس ضغط المصاب، وتدوين نتائج فحوصاته، والرجل مصر على متابعة إستجوابه.
سأل عن الوقت الذي خرجنا فيه، والمسافة التي تفصلنا عن المستشفى، والسرعة التي أسير بها، وأشياء أخرى لم يعجبني أن يدس أنفه فيها.
مجال رؤيته كان محدودا، ورغم ذلك فاجأني باستنتاج حانق: "أنت لا تضع حزام الأمان، أليس كذلك؟".
أخبرته أنّه مصيب.
"لماذا؟" أراد أن يعرف، ووجدت نفسي أرد عليه بغيظ: "لماذا؟ لأنني لا أريد، لم أضع حزام الأمان منذ تعلمت القيادة، ولن أبدأ بوضعه الآن".
ذكرني بأنّ هناك غرامة ثقيلة يجب دفعها لشرطة المرور إن استوقفتني، وضحكت، وضحك معي صاحبي.
"شرطة المرور؟ أخفتنا والله، لتستوقفنا إن استطاعت...".
نقلنا الرجل على محفته إلى قسم المستعجلات، طلب أن يتعرف علينا، وتبادلنا الأسماء، وعلمنا أن مصابنا العزيز شرطي مرور ملحق بشارع غير بعيد عن المستشفى. لم نكن نضحك عندما تركناه وعدنا للسيارة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق